• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

فقه المصطلحات.. رسالة إسلامية

فقه المصطلحات.. رسالة إسلامية

يُشكل المصطلح الإسلامي أحد الرموز الثقافية المهمة الدالة على خصوصية الإمة الإسلامية. وهو أحد المكونات الأساسية لهويتها الحضارية. بل انّ بعض الباحثين يعتبر المصطلح جزءاً من النظرية السياسية في الإسلام، وجرى التعامل مع المصطلح الإسلامي باسلوبين متناقضين، أحدهما التفريط، والآخر الإفراط.
البعض يتخلى عن المصطلح الإسلامي ويميل إلى المصطلحات الأجنبية بحجة الحداثة والعصرية والسير في طريق الغرب أو التغرب، وهناك من يتجمد عند الموروث من الاصطلاحات الإسلامية بلا تمييز بين ما هو من الثوابت الشرعية وما هو من المتغيرات القابلة للمرونة والتطور، وعدم التمييز بين ما هو شرعي وما هو بشري، وبلا استعداد للأخذ بما يصح الأخذ به من المصطلحات المعاصرة.
وإذا كان الموقف الأول ينتصر للتغرب الثقافي ويرفض الأصالة والخصوصية، فانّ الموقف الثاني يتجاهل التطور المستمر في حركة الحياة، وبهذا يحمل كلا الموقفين في داخله بذور الخطأ والبُعد عن الصواب.
فما هو المصطلح؟ وهل يوجد مصطلح إسلامي؟
وما هو الموقف من المصطلحات الآتية من خارج المجال الفكري الإسلامي؟
تحمل الألفاظ دلالات معينة هي عبارة عن الاقتران بين تصوّر اللفظ وتصور المعنى الذي يدل عليه، وانتقال الذهن من أحدهما إلى الآخر. وهذا الاقتران هو الذي يطلق عليه اسم الدلالة، في حين يسمى اللفظ دالاً والمعنى مدلولاً.
ونحن هنا لا نريد الخوض في مباحث الألفاظ ومعنى اللفظ عموماً. وانما نبحث عن اللفظ الذي صار مصطلحاً عندما اقترن ببعد تاريخي أو حضاري أو علمي أو اجتماعي... إلخ.
وصلة اللفظ بمعناه الجديد يُساعدنا على فهم طبيعة المصطلح وعلاقته بحمولته الفكرية والمفهومية.
والمصطلح هو اللفظ الذي يضعه أهل عرف أو اختصاص معين ليدل على معنى معين يتبادر إلى الذهن عند اطلاق ذلك اللفظ ويغلب هذا في الأمور الفكرية والسياسية والاقتصادية والدينية والقانونية، وليس في الحديث اليومي لبني البشر(1).
إنّ قيمة الكلمة تتمثل في عطائها الفكري وفي تجسيدها للمعنى الذي يراد التعبير عنه بها، ولا تحمل أية قيمة ذاتية، والكلمات تفقد رصيدها الفكري وتذبل وقد تموت كما يموت كثير من الناس، وقد تحيا بعض الكلمات أو المصطلحات فتبعث إلى الحياة من جديد.
وعليه فانّ البحث هذا يلاحق الكلمة أو المصطلح في نشأته ونموه وتطوره وحياته وموته وشبابه وهرمه، لتُبنى منه الكلمة الهادفة والاستقلال الفكري، ونرفض الكلمة التي تعرّضت للتشويه وتحوّلت إلى مدلول مُضاد للمعنى الذي وُضع لها.
الكلمة تحمل الحياة في حروفها وتجسد الفكر والتاريخ. وتحمل عُصارة العقل البشري من جيل إلى جيل.
ومن الأهمية بمكان التنبه إلى خطورة الكلمة عندما تتحول إلى مصطلح يراد به معنى آخر قد يؤدي إلى احتضار الكلمة أو دفنها أو تحويلها إلى سلاح يغزو العقول ويدمر كيان الإنسان.
والمصطلحات الحديثة كثيراً ما شوّهت حقائق التاريخ والمجتمع، وحُمّلت شحنات لنسق الحقائق أو تزييفها.
الإسلام مستهدف من كثير من أعدائه والمسلمون مستهدفون أيضاً، ولعل أخطر شيء يواجه الإسلام حاليا، ويُشكل عداء شديداً له، ويريد إثارة اللغط حول ما يمكن أن يقال عنه هي (المصطلحات) التي بدأت تغزو مجتمعاتنا الإسلامية، وهي كلمات تشبه السموم هدفها تدمير القيم، وقتل الأحكام التي شرعها الله سبحانه وتعالى. لتحدث البلبلة في العقيدة والدين.
وللأسف يوجد بيننا من يُردد هذه الأسماء والمصطلحات بدون وعي، وبلا إدراك رغم اختلاف مقاصدها ومدلولاتها في المجتمعات المختلفة عنا في الدين والعقيدة واللغة.

فما حقيقة هذه المصطلحات؟
وهل يمكن أن تكون حملة منظمة لتفتيت الفكر الإسلامي؟
وما هو مدى خطرها على الإسلام؟ وكيف تكون المواجهة؟

المواجهة تكون بالحوار. والحوار يعتمد على الكلمة، والمصطلح وعاء للفكر من المهم جداً تحديد معاني المصطلحات بما يتلاءم مع الحياة المعاصرة والتوفيق بينها وبين الفكر الإسلامي.
يعرف (المصطلح) بأنّه الكلمة أو الكلمات التي يتفق أهل الاختصاص على ضرورتها لأداء مدلول معين في بنية النسق المعرفي المميز لعلم من العلوم أو ثقافة من الثقافات.
ويكون المصطلح إسلامياً إذا كان مستمداً في لفظه ومعناه من الاصول الإسلامية، أو كان لا يتعارض في فكره ومعناه مع الفكر الإسلامي.
وإذا كان دور الفكر الإسلامي هو الاضطلاع بقضايا عصره ومواجهتها بموقف نقدي، فانّ الخطوة الأولى هي التصدي بالتحليل والنقد للقضايا الأساسية في الفكر المعاصر من موقع الالتزام بالعقيدة الإسلامية، وانطلاقاً من ضرورة مواجهة التحديات التي يفرضها النظام العالمي الجديد على المسلمين وشعوب العالم أجمع.
وانطلاقاً من هذا الدور فانّ البحث يعرض بالنقد والتحليل مجموعة من المصطلحات السائدة في العلوم الاجتماعية.
إنّ الغرب يهدف إلى سلخ المسلمين عن دينهم، وأحكام طوق التبعية الفكرية على رقابهم وإلى الأبد، وعلى المسلمين أن يواجهوا الغرب بالحوار والكلمة المعبرة، وأن ينتقلوا من موقف الاعتذار والدفاع إلى موقف التصدي والهجوم، واتباع المنهج العلمي في النقد والدراسة والتحليل.
ومن موقع المسؤولية الملقاة على عاتق كل صاحب قلم ينبغي على ذوي الاختصاص في العلوم الاجتماعية أن يساهموا في بناء المنهج الإسلامي وذلك برفض التبعية الفكرية للغرب، وتناول المنهج الغربي بروح نقدية، ثم وضع البديل.
البديل لا يمكن وضعه بين ليلة وضحاها.
فالأرضية الثقافية الغربية هي التي تُغذي الدراسات الاجتماعية وترفدها بالمصطلحات الغربية في الجامعات العربية والإسلامية.
الخطوة الهامة الأولى لوضع منهج جديد في الفكر الاجتماعي يبدأ من الكلمة أو المصطلح. فالمصطلح هو اللبنة الأولى للصرح العلمي، وهو النواة والبذرة للمنهج.
نحن نعيش في عصر تداخلت فيه المفاهيم، واختلطت فيه معاني المصطلحات باسم العلم، وبمقتضى تشعب فروعه.
إنّ العلم منهج قبل أن يكون نتاجاً أو مضموناً. وأهمية المنهج في مجال العلوم الاجتماعية انّه يساهم في التنظير للفكر، أي انّه الأساس للبناء النظري.
لقد آن الأوان أن نأخذ بزمام أمرنا، ونعقد العزم على أن نأخذ بالمنهج العلمي لنسهم بنصيبنا نحن في الإضافة إلى مضمون ومحتوى العلوم الإنسانية المعاصرة من منطلق خبراتنا الذاتية، وتمايزنا الحضاري، هذا فضلاً عن مبادئنا.
من واجبنا أن نثبت أقدامنا، ونعمل عقولنا في التحقق من ذاتنا، وإدراك حقيقة كياننا، لننتقل بذلك من حال إلى حال، نحن الآن في موقع المتلقي فقط، وينظر إلينا بشفقة وازدراء وتارة في حذر ورهبة.
من المهم جداً أن نكون قادرين على الفعل والحركة. بأن نضع المنهج الملائم لرصد الظواهر الاجتماعية ودراستها، بأسلوب علمي، وبمفاهيم ومصطلحات تلائم وتناسب مجتمعاتنا وأهدافنا، وبروح الاستقلال الفكري ورفض كل اشكال التبعية والاستسلام للآخر.
إنّ التأثير الثقافي الأجنبي والأمريكي بعبارة أدق في المنطقة العربية وما أحدثه من تخريب فكري لم يخلق أزمة وانما زاد من حدة الأزمات ومنها التخلف والتبعية، وانّه سخر علم الاجتماع لتزييف وعي الناس، بدلا من تنويره، ونشر المسايرة والانصياع، بدلاً من الاستقلال والمبادرة، واوجد التبرير الرخيص في حالات كثيرة بدلاً من النقد المسؤول البناء، ونشر مصطلحات تهدف إلى تشويه الحقائق باسم الحداثة والعصرنة والعلمنة.
ويلاحظ أنّ جانباً من علم الاجتماع والبحث الاجتماعي نشأ كرأس حربة للاستعمار وتطور في خدمته وعمل على تكريس التبعية للمناهج الغربية بطرق غير صريحة في الغالب.
والتبعية ليست في الخضوع السياسي. انما تكمن التبعية في أن نترك أنفسنا صيداً سهلاً لعمليات الغزو الثقافي المباشر وغير المباشر ونتوقف عن الابداع. ونستعمل ما انجزته الحضارة الغربية من علم وفن، وقد أنجز في ظروف تختلف عن ظروفنا وفي سياق مغاير ولاغراض لا تتمشى مع ما نهدف إليه بالضرورة وهي استخدامات تسعى لخدمة مصالح العناصر الطفيلية المحلية المتسلطة ومصالح المراكز على نحو ما يجري الآن. ولقد بلغ اعتماد بعض المشتغلين بعلم الاجتماع في الوطن العربي على علم الاجتماع الأوروبي الغربي المثالي إلى حد التوحد معه سواء في مرحلة اعدادهم الاكاديمي أو في مرحلة ممارستهم لنشاطهم في التدريس والبحث والكتابة، لا عن تقدير موضوعي لقيمته وإفادة واعية منه، وانما عن شعور بالنقص حياله؛ ناتج عن الوعي الزائف بإمكاناته.
المطلوب منا نظرة نقدية لمسلمات علم الاجتماع الغربي أو مصادراته، ورفض الادعاء بعالمية العلوم الاجتماعية الأوروبية الغربية. ورفض الأساس الخاطئ الذي تقوم عليه وهو (العلمانية). انّ موقف العلوم الاجتماعية الغربية منا يقوم على أساس تفوق الغرب وتخلفنا الأبدي. ومن ثم تُبرر تحكّمه فينا وتسلطه علينا والوصفة (الجاهزة) التي يقدمها لنا للخلاص من التخلف هي (التحديث) على النمط الغربي وهي عديمة الفائدة، فليس من الممكن أن يؤدي التحديث الاقتصادي إلى تقدم حقيقي أصيل في حالة بقاء كل شيء على حاله.
غير انّ اخطر ما في النظريات الاجتماعية الغربية، وأخطر ما يتسرب إلينا منها هو قيم العلمانية التي سادت مع ذيوع مذاهب اللذة والمنفعة.
وادعاء الغرب انّ سمة حضارته المميزة هي العقلانية ليس صحيحاً. فالعقلانية ليست ابداعاً للحضارة الغربية وإذا كان ذلك صحيحاً نسبياً في الوقوف أمـام جبروت الكنيسة التي جمدت العقـل، فانّه ليس صحيحاً بشكل مطلق(2).
انّ الباحث الإسلامي يجد نفسه محاصراً بإرث فكري معاكس لمنظومة الفكر الإسلامي، وبواقع عملي لا يكرس إلا التبعية العلمية والثقافية.
ولكن بالرغم من هذا الحصار الفكري والعلمي، فقد بادر بعض رجال الفكر في العالم الإسلامي إلى الانعتاق من الأسر والوصول إلى منابع وأسس الفكر الإسلامي.
ولكي يتم لأي باحث وسط هذ الركام الهائل من المصطلحات أن يوضح الفرق بين المنظور الإسلامي والآراء الأخرى، فانّه سيضطر إلى توضيح المرتكزات الأساسية لكل منها والأسس التي يدور حولها النظر في الأنظمة والانساق الأخرى.
ومن شأن هذا الجهد أن يُعين القارئ والدارس على التمييز بين مواقف يبدو عليها التشابه الظاهري، وهي في حقيقتها متعارضة، ومواقف أخرى تبدو متباعدة ظاهرياً، وهي في الحقيقة قريبة من بعضها وتحمل بذور الالتقاء والمعايشة.

العلم:
عندما نذكر كلمة العلم ينصرف الذهن إلى دلالاتها وايحاءاتها المعروفة في الثقافة الغربية، حيث انّها تعني عادة تلك المباحث المعرفية التي تعتمد على الملاحظة والتجربة والاستقراء وصولاً إلى نظريات وقوانين عامة تفسر الظواهر التي يدرسها الباحثون سواء كانت ظواهر طبيعية وهي التي تشمل علوم الفيزياء والفلك والكيمياء والأحياء وغيرها، أو ظواهر اجتماعية وتشمل العلوم الإنسانية، علم النفس، علم الاجتماع، الاقتصاد... إلخ.
إنّ الاقتصار على هذا المعنى لكلمة العلم في ثقافتنا العربية والإسلامية يؤدي إلى كثير من اللبس والغموض. وينبغي الوقوف على فقه هذا المصطلح في اطار البيئة التي نشأ فيها والثقافة التي رعته واحتضنته. فالأصل في معنى العلم عند المسلمين هو الإدراك الصحيح لحقائق الأشياء، وهو معنى مطلق يفيد الشمول والتعميم ولا يقيد بتخصص معين، ويقصد منه في مفهومه العام انّه لفظ يطلق على كل ما هو نشاط إنساني عقلي أو عملي حين يستخدم بشكل منظم (منهجي) في محاولة تفسير وفهم موضوع ما. فيقال علم التفسير، أو علم اللغة، أو علم التاريخ أو علم الفلك أو غير ذلك من مباحث علمية. أما تصنيف هذه المباحث المعرفية إلى نقلية وعقلية، أو دينية وطبيعية أو انسانية وكونية، أو غير ذلك فهو تصنيف يعتمد على موضوعات العلم أو مصادره، أو الطرائق (المناهج) المتَّبعة في تحصيله بحسب تناسبها وقرب بعضها من بعض.
والعلم في الإسلام يتناول كل موجود وكل ما يوجد. فمن الواجب أن نطلب العلم وطلب العلم من أفضل العبادات في الدين الحنيف.
ولكن العلم الذي يحث الإسلام على تحصيله لابد أن يكون نافعاً ولا يخلو من فائدة وأن لا يؤدي إلى تدمير البشرية وهلاك الحرث والنسل، ونشر الفساد في الأرض.
أن يكون قريناً للتقوى وملازماً للأخلاق. اما العلم الذي يتخلى عن المبادئ والقيم فيؤدي إلى الخسران، وفي القرآن الكريم إشارة إلى عدم جدوى العلم الذي لا يؤدي إلى الربح في مجال الفضيلة ونشر الإسلام: (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) (غافر/83) وجاء في الدعاء المروي عن الرسول (ص):
"اللّهم انّي اعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ونفس لا تشبع ودعاء لا يُسمع ومن صلاة لا ترفع".
ومقياس النفع ليس هو المقياس المادي أو ذلك المعيار الفردي الذرائعي الذي تقول به (الفلسفة البراجماتية) السائدة لدى الغرب، انما هو ما يؤدي إلى اصلاح الأمة وإقامة أمر الدين واصلاح الدنيا.
العلم هو التفكر في المظاهر الكونية للتعرف على عظمة الخالق جل شأنه والتعرف على النواميس التشريعية مما يؤدي إلى تعميق الإيمان بالله وزيادة الخشية منه، قال تعالى:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ *وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر/27-28)
والعلم في لغة العرب نقيض الجهل، فاذا كان العلم غير مطابق للمعلوم في الواقع فهو الجهل. وإذا كان العلم غير جازم المطابقة فإما انّه يستوي طرفاه وهو الشك، وإما أن يُرجح أحدهما على الآخر، فالراجح هو الظن، والمرجوح هو الوهم. وعليه فالمصطلحات في هذا الشأن خمسة أقواها العلم فالظن فالشك فالوهم فالجهل.
والنظام والكمال والجمال مما يترتب عليه بالضرورة العقلية والمنطقية جعل وحدانية خالق الكون يقيناً إيمانياً خالصاً.

المسلمون آباء العلم
برع المسلمون في العلوم التجريبية، وقدموا للعالم خلاصة تجاربهم وأبحاثهم، وقد كتبوا فيها كتباً كثيرةً، استفاد منها أهل الغرب، كما استفاد منها المسلمون، ولو أخذنا علم الفيزياء مثلاً فإنا نجد انّ من مواضيعه موضوع: الضوء. هذا الموضوع الذي تثار حوله أسئلة كثيرة، منها مثلاً: ما حقيقة الضوء؟ عندما يشاهد الإنسان الأشياء كيف يُبصرها؟ كيف يحدث انعكاس الضوء؟ وانكساره؟ ما هي قوانين الضوء؟
من أشهر علماء الإسلام الذين بحثوا في الضوء: العلامة الحسن بن الهيثم الذي كان فلكياً ورياضياً وعالماً طبيعياً، وله دراسات معمقة عن الضوء وكيفية الإبصار، وتشريح العين، وتتسم دراساته وبحوثه بالدقة والاحاطة والشمول وتعتمد على الملاحظة العلمية والتجربة والمنهج العلمي الذي ينسبه الأوروبيون إليهم.
وقد أذعن علماء الغرب أنفسهم بعبقرية هذا العالم المسلم، وترجموا كتبه، وكتابه المشهور (علم المناظر) متداول حتى هذا اليوم.
ويعود الفضل في اختراع آلات التصوير والمجهر وظهور العدسات الطبية وآلات رصد الكواكب (المناظر) إلى هذا العالم الفذ الذي كان يقوم بتجارب علمية على الضوء، حيث استخدم الغرفة المظلمة، واستعمل آلات وأدوات للقيام بالتجارب، كما انّه رسم صورة تشريحية ملونة للعين، أشار فيها إلى أجزاء العين: الشبكية والقزحية والعدسة وشرح كيفية الإبصار، وصحح خطأ علماء اليونان في اعتقادهم انّ سبب الرؤية هو انعكاس التصوير من العين إلى الجسم وقال: الصحيح هو العكس. أي انعكاس الضوء من الجسم إلى العين وقد نقل منهجه العلمي إلى جامعات الغرب في بداية افتتاحها ودرسوها.

البيئة
مصطلح البيئة من المصطلحات التي شاع استخدامها حديثاً، ويحتاج تعريفها إلى صياغة جديدة يتضح فيها المفهوم الأشمل والأصوب لبيئة الإنسان الكبرى متمثلة في عالم الشهادة الذي يضم الكون بأسره.
ومثل هذه الصياغة الجديدة لا يظهر آثرها في تصحيح التفسير المادي للبيئة فحسب، ولكنها تسهم أيضاً في تصويب النظر الذي ينبغي أن تتخذه البيئة ومشكلاتها في البحوث الإسلامية المتعلقة بثلاثية الدين والكون والإنسان.
فالبيئة ليست مجرد موارد يتجه إليها الإنسان ليستمد منها مقومات حياته. وانما تشمل البيئة أيضاً علاقة الإنسان بالإنسان التي ينظمها الدين الإسلامي الحنيف بما يدعو إليه من الأخلاق والمبادئ والقيم في العلاقات الإنسانية. واغفال هذه المعاني عند تعريف البيئة يزيد من تفاقم مشكلاتها، ويعوق الجهود المبذولة لحمايتها. وهنا يكون الإسلام الحنيف أقدر من غيره على تصحيح النظرة المادية للبيئة ومداواة الخلل الذي أحدثه الإنسان في منظومة العلاقة بينه وبينها.
ولقد رتب القرآن الكريم العلاقة الصحيحة بين قضايا الطبيعة والإنسان وبين الإنسان وأخيه الإنسان، وبين الإنسان والكون، وقد دعا إلى النظر والتدبر في الكون وصولاً إلى الحق المطلق الذي هو في النهاية غاية كل إنسان.
هذه العلاقة القرآنية هي العلاقة التي شرحها القرآن الكريم في نصوص عديدة قال سبحانه وتعالى:
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف/ 96).
هذه العلاقة مؤداها انّ علاقات الإنسان مع الطبيعة تتناسب طردياً مع ازدهار العدالة في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان. فكلما ازدهرت العدالة في العلاقات الاجتماعية، ازدهرت العلاقة مع الطبيعة وسيطر الإنسان على البيئة وتفاعل معها بشكل أفضل. وكلما انحسرت العدالة عن الخط الأول انحسر الازدهار عن الخط الثاني.
أي انّ مجتمع العدل والسلام هو الذي يفجر طاقات البيئة ويتعامل معها بشكل لا يؤدي إلى سوء استغلالها، والبيئة بما فيها من موارد طبيعية وقوى مادية تسخر للإنسان بشكل أفضل عندما يسير على هدى القرآن الكريم، ويتعامل أفراده بالحب والمودة والإحسان.
لكن علاقة الإنسان مع البيئة ليست ذات محتوى غيبي فقط، نعم نحن نؤمن بمحتواها الغيبي لكن إضافة إلى ذلك هي تشكل سنة من سنن الله تعالى في خلقه وهي انّ مجتمع الظلم، مجتمع المادية على مر التاريخ مجتمع ممزق ويعمل على تدمير البيئة وسوء استغلالها وانّ تفاعل الإنسان مع البيئة يجب أن لا يؤدي إلى الاضرار بها لأنّ الله تعالى جعل الإنسان خليفة في الأرض ليعمل على احيائها واعمارها واستخراج كنوزها بكل وسيلة ممكنة.
اما الذي يحصل الآن من جراء التقدم التكنولوجي فهو تدمير البيئة تحقيقاً لمصالح اقتصادية آنية أو لتحقيق أغراض عدوانية. فالمفاعلات النووية والأسلحة الجرثومية وطرق استغلال البيئة بشكل عام تؤدي إلى اضرار كبيرة على البيئة، وعلى الإنسان ذاته، وعلى الأجيال القادمة.
كانت العلاقة بين الإنسان والتربة والماء وكذلك الجو متوازنة نسبياً في الماضي، لكن في المائة سنة الاخيرة تلوثت التربة والماء والهواء وارتفعت نسبة الغازات السامة، واختفت الأنواع الحية الكثيرة من النباتات والحيوانات، واكدت البحوث اختفاء أو انقراض 100 نوع من الحيوانات والنباتات كل يوم. واعوص مشكلة بيئية تواجه العالم هي تآكل طبقة الأوزون.
إنّ طبقة الأوزون الطبيعية تحجب أو تقي تركيز الأشعة فوق البنفسجية الضارة للإنسان والطقس، وتآكل هذه الطبقة معناه زيادة اختراق هذه الأشعة واضرارها على الإنسان مُسببة أمراض خطيرة مثالها سرطان الجلد ويتم تسارع تآكل طبقة الأوزون فوق القارة القطبية الجنوبية نتيجة الفعالية الصناعية الشديدة.

التحضر:
استخدم مصطلح التحضر على نطاق واسع في الدراسات الاجتماعية، رغم عدم وضوح تحديد معناه في المراجع العلمية والأدبية.
وقد جاء في اللغة ان ّالحضر خلاف البدو، والحاضر خلاف البادي، ومعنى الحاضر هو المقيم في المدن والقرى. والقرية تطلق على المساكن والأبنية والمزارع وقد تطلق على المدن.
والحاضرة أيضاً هي المدن والقرى والريف. والريف في معناه اللغوي ما قارب الماء من أرض العرب وغيرها، وحيث يكون النهر والمياه، وحيث الزرع والخصب.
والحضارة هي الإقامة في الحضر. وواضح انّ الحضر فيه استقرار وفيه عمران ويصحب الاستقرار وكثرة العمران وضع النظم والاحتكاك والتجربة الطويلة التي تولد ثقافات، ورقياً في المأكل والمشرب وفي الملبس والمسكن وفي التعليم والتعلم، وفي الرقة وعدم الخشونة، لهذا كان لفظ الحضارة دالاً على الرقي والتقدم، وهذا هو المعروف في اللغة العربية.
وفي اللغة الانجليزية ترى انّ اسم المدينة هو City ومنها اشتقوا لفظ Civilومعناها متمدن، ومنها كلمة: Civilisation وهو اللفظ الأوروبي لمصطلح الحضارة.
والمجتمع الحضري هو مجتمع المدنية عند علماء الاجتماع الحضري، ويتميز هذا المجتمع بعدة سمات مثل: التعقد (مقابل البساطة في المجتمع البدوي) والتباين، وتقسيم العمل، وارتفاع مستوى التكنولوجيا، وتباين السلوك، وتقدم التنظيم الاجتماعي، وشدة الحراك الاجتماعي (أي امكانية انتقال الفرد من طبقة إلى طبقة أعلى في درجات السلم الاجتماعي) وكثافة السكان وكبر الحجم و... إلخ.
والمجتمع الحضري هو العامل الأساسي الذي تفسر في ضوئه كافة الأشكال الاجتماعية التي تظهر في المدينة.
ويشير علم الاجتماع الحضري بصفة عامة إلى الدراسة السيسيولوجية للمدن أو الحياة في المدنية أو الحضرية، أو موضوعات مختارة من هذا الميدان. وعلم الاجتماع الحضري Urban Sociology هو علم اجتماع حياة المدينة. ينظر إلى المدينة ويحللها كظاهرة اجتماعية في ذاتها إلى جانب دراسة المشكلات الخاصة بها. ولقد تطور تراث واضح ومتميز لهذا العلم في أوروبا وأمريكا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وفسرت المدنية بطرق مختلفة بدءاً من المنهج التاريخي، ووصولاً إلى مدرسة شيكاغو التي فسرت المدينة داخل اطار ايكولوجي بحت.
ويرى سابا جورج: إنّ المدنية تعني الفن بتشعباته الكثيرة من هندسة ونحت وأدب، وتعني التاريخ والسياسة والتجارة، كما تعني الشوارع والعمارات والانشاءات المدنية والدينية والأرض بترابها ومائها. وتعني أيضاً ماضي الإنسان المتطور نحو الأكمل. إذ هي صورة لكفاحه المزمن، وباختصار انّ المدنية سجل لقضية الإنسان وحضارته.
في المدينة تنمو المؤسسات الصناعية والتجارية، تتجمع فيها رؤوس الأموال ومنها تدار، وفيها تدور البنية الاجتماعية متلاحمة متفاعلة وفي المدينة تتمحور السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية مما يعطيها أهمية كأهمية الدفاع للجسم البشري.
ونخلص إلى القول انّ المدينة سجل حافل لحضارة الإنسان وصورة لتفاعله مع الطبيعة ومع أخيه الإنسان، بنيت في موقع حصين من الأرض، قريب من السهل والنهر، يسكنها شعب يمتاز بنوع عمله التجاري أو الصناعي أو المصرفي. والمدينة لم تخلق فجأة، بل كان لها بذور اجتماعية ودينية واقتصادية فضلاً عن عملية التحول من القرية إلى المدينة، كلما تيسر لها ذلك.
ومن الخطأ الفصل بين المدينة والتحضر، فلفظة المدينة مرادفة لمفردتي التحضر والحضرية معاً، بحيث يعد كل منهما وجهين لعملة واحدة.

المجتمع المدني
المجتمع المدني يمثل اسلوب حياة ونمطاً معيشياً معيناً ونسقاً اقتصادياً، وبناءً اجتماعياً، وبنية ثقافية محددة، وهو في مقابل المجتمع البدوي أو الزراعي، أي انّه حالة اجتماعية متطورة، وحالة حضرية تمثل تفاعل الإنسان مع الطبيعة وسيطرته عليها، وشيوع نمط من العلاقات الاجتماعية يختلف عن الحياة في البادية أو القرية. وأهم مظاهر المجتمع المدني التطور التكنولوجي، والتقدم في مجال الصناعة وشيوع العلاقات الاجتماعية الثانوية، وأهم ما يميز المجتمع المدني تطور التجارة والخدمات، والانتماء إلى المدينة، في مقابل الانتماء إلى القبيلة والعشيرة في المجتمع البدوي.
المجتمع المدني الإسلامي هو الذي يتكون ويُصاغ من نظرة الإسلام إلى الحياة المدنية بكل أبعادها: التاريخية، الجغرافية، العمرانية، السياسية، الاقتصادية، وكذلك نظرة الإسلام إلى الأبعاد الاجتماعية والفردية. وتشمل أيضاً الحياة في المدينة الإسلامية العادات، والأعراف، والتقاليد وقواعد السلوك وآداب المعاشرة، وطريقة التعامل مع أفراد المجتمع، واسلوب المعيشة، واسلوب التنمية لتنمية الفرد والمجتمع. وكذلك الثقافة الإسلامية بشكل عام. وهنا سؤال:
هل تختلف العمارة في المجتمع المدني الإسلامي عن طراز العمارة في غيره من المجتمعات؟
إنّ العمارة هي الفن المسكون، والعمارة فن يشمل تخطيط المدينة، ميادينها، شوارعها، أسواقها، بناء البيت، نمط السكن، الظروف المناخية، الظروف الاقتصادية وأثرها في عمارة البيوت. في المدينة الإسلامية يتأثر فن العمارة بالعرف الاجتماعي، ونظرة الإسلام إلى إعمار الأرض، واثر الروابط الاجتماعية في نمط البناء والسكن. ويتأثر فن العمارة بالخصائص العامة للفن الإسلامي. والبيت الإسلامي له مزايا خاصة، فساحة الدار تمثل مكان لقاء أفراد الأسرة واجتماعهم، فتكون ساحة البيت مثل مركز المدينة أي وسطها ومنها تتفرع الشوارع والميادين والأسواق. وعادة يكون المسجد وسط المدينة الإسلامية. والمسجد يجتمع فيه الناس ليس للعبادة فقط بل للمسائل الاجتماعية والاقتصادية التي تهم المجتمع، ومآذن المسجد العالية تعتبر دليلاً للسائح أو المسافر القادم للعمل والتجارة.
فالبيت الإسلامي يجمع ولا يفرق أي انّه يوثق الروابط العائلية عندما يدعو إلى البر بالوالدين والعطف على الصغار وحسن المعاشرة مع النساء، وبذلك يكون البيت مكاناً آمناً لأفراد الأسرة. وقد جاء في الآثر انّ جنة المؤمن بيته. ففيه يتمتع بالحلال من لذات الدنيا، والرجل هو سيد البيت وله القوامة على المرأة، والمرأة لها كرامتها وشخصيتها واستقلالها وحقها في التعلّم والعمل والملكية. وعلى الزوج معاونتها في أعمال البيت وتوفير السكن الملائم لها والانفاق عليها حتى لو كانت ثرية فمن واجب الزوج رعاية مشاعر المرأة وأن ينفق عليها لاشباع حاجتها من الطعام واللباس والسكن بما يناسب مركزها ومقامها الاجتماعي.

ولكن ما هي أوجه الخلاف بين المجتمع المدني الإسلامي والمجتمعات المدنية الأخرى؟
كل مجتمع مدني يقوم على منظومة من الأفكار والاطروحات والنظريات التي يقدمها العلماء أو المذهب الاجتماعي السائد ويخضع لعوامل تاريخية وجغرافية واجتماعية تجعله يختلف جذريا عن غيره من المجتمعات، وكل مجتمع له سماتُه ومميزاته المناسبة لظروفه وبيئته.

المدينة الإسلامية
مفهوم المدينة العربية الإسلامية تعرض للكثير من التشويه وسوء الفهم كما لم يتعرض له أي مفهوم آخر، لأنّ الدراسات الحديثة التي عالجت موضوع المدينة العربية الإسلامية لم تكن دراسات عربية ولا إسلامية. فقد كان المستشرقون من آوائل من درس المدن الإسلامية في بداية هذا القرن.
ولم تكن تلك الدراسات علمية وموضوعية، بل كانت متحيزة ومتعالية تحاول بكل الوسائل اثبات انّ المسلمين لم يساهموا في بناء المدن ولم يعرفوا الحياة الحضرية عموماً، فهم مجرد قبائل رُحّل تعودوا على الانتقال وعدم الاستقرار، وانّ المدن التي شيدت في العصور الإسلامية كانت مدنا حربية بالدرجة الأولى، وكانت امتداداً للمدن البيزنطية والرومانية.
ولم يتوقف الاستعلاء الأوروبي عند هذا الحد، بل راح بالطريقة نفسها يبرهن انّ المجتمع الإسلامي كان بعيداً عن العقلانية وبعيداً عن العلم والمعرفة، وانّ الحضارة الإسلامية لم تشهد تطوراً في العلوم ولم تعرف نمط الحياة الحضرية وهكذا ظهر التراث الإسلامي في التحضر على أيديهم فقيراً ليس فيه حياة مدنية ولا يشير إلى ما انجزه المسلمون في مجال انشاء المدن وتخطيطها.
لقد دخل الباحث الأوروبي في ميدان دراسة التراث الإسلامي وفي فكره فروض وهمية يحاول اثباتها على حساب العلم والمنهج العلمي.
وحيث انّ الإسلام له نظرة خاصة في الحياة والمجتمع والنظام والسياسة والاقتصاد فإنّ المجتمع المدني الإسلامي له خصوصية وسمات تجعله يختلف جذرياً عن غيره من المجتمعات.
إنّ مجتمعنا فيه ثوابت وخصوصيات لا يمكن التنازل عنها، وهذه الثوابت تجعل مدننا ومجتمعنا المدني ذات طابع اجتماعي اخلاقي معين. ولنا مفاهيم وأفكار لا تتفق مع المنظومة الحضارية الغربية.
نحن لا ننساق مع المجتمع المدني الغربي، لأنّ للمجتمع الغربي قيماً ومبادئ وسلوكيات تتناقض تماماً مع أعرافنا وتقاليدنا ومبادئنا الاجتماعية.
إنّ مجتمعنا ليس صورة طبق الأصل لهذا المجتمع أو ذاك، نحن أمة إسلامية لنا ثوابتنا التي لا تقبل المساومة والتنازل والتفاوض حولها.
إنّ الحديث عن المدينة الإسلامية يعني أشياءً كثيرة ومتنوعة ومتباينة إلى حد كبير، وعبارة المدينة الإسلامية لا تقتصر على المدن التي ظهرت بعد مجيء الإسلام. ففي القرن السابع الميلادي بدأت تتوارى الفوارق بين الملامح المميزة للتجمعات الحضرية في مختلف أنحاء العالم وتكتسب كل المدن طابعاً عاماً موحداً هو طابع الحياة الحضرية الحديثة التي تحمل الخصائص الإسلامية.
ولم تكن المدينة الإسلامية تعكس نفس الملامح والمظاهر خلال كل عصور تأريخها وتطورها، وانما كانت تعكس مظاهر حضارية وثقافية واجتماعية تختلف باختلاف العصور، لأنّ المدينة هي انعكاس لثقافة العصر الذي وجدت فيه مع وجود أساس ثابت مستمر بطبيعة الحال. كان المسجد الجامع يبنى في وسط المدينة أو في مركزها، بينما كان يُبنى قربه القصر (دار الإمارة) وبالقرب منه تبنى المدارس ثم سلسلة الأسواق، ومن المراكز تتفرع الشوارع الرئيسية ثم الحارات ثم الدروب، وأن توزع الأسواق كان يتحدد بالنسبة للمسجد ثم تأتي بعد ذلك الأحياء السكنية التي كانت تعكس الروابط العائلية والدينية.
هذا التوزيع ظهر في حقيقة الأمر نتيجة لأنّ المدن كانت مدناً إسلامية في المحل الأول(3).
والذي لا شك فيه انّ المدن الإسلامية كانت تستمد طابعها الخاص المميز من الإسلام نفسه الذي تعدى (حدود الدين) بالمعنى الضيق للكلمة وصبغ الحياة بصبغة معينة امتدت إلى جميع نواحي النشاط اليومي وهذا هو ما نقصده حين نقول عن الإسلام انّه اسلوب حياة.
ولقد كان الدور الذي تلعبه المدارس الدينية والمساجد والطرق والزوايا والمستشفيات وأماكن الترفيه والحدائق العامة والحمامات من أهم ما يميز المدينة الإسلامية، ولقد كانت كلها تتمتع بمكانة عالية بحيث لم يكن في إمكان الحكام ولا الأعيان تجاهلها أو الاغضاء عنها. وكل ما كان يتخذه الحكام والولاة من قرارات كانت تكتسب شرعيتها عن طريق المسجد والمدرسة.
ومن سمات المدينة انّها مركز الاحتكاك والتلاقح والتطور والاشعاع الحضاري في الدولة، يجذب نحو المدينة طلاب العلم وممثلي الدول والتجار وغيرهم من ذوي الخبرة في شؤون المال والتجارة والصناعة ما يزيد من فرص التطور.
ومما يساعد المدينة على ذلك انّها مركز السلطة والقوة التي باستطاعتها اتخاذ القرار. كما وانّها الحيز الذي تتركز فيه القوة الاقتصادية إذ توجد فيها بيوت المال والإدارات الاقتصادية ومراكز الصيرفة والوكالات وأسواق الجملة والمفرد والصناعات الحرفية اي انّها مركز الاستثمارات الرئيسية.
وهكذا فالمدينة الإسلامية كانت الحيز الذي تتطور فيه الأفكار الجديدة العلمية والاجتماعية، والتي تنتشر على المستويات المحلية والقومية والعالمية، خاصة وانّها المأوى الذي يلتجئ إليه المهاجرون ذلك انّها تستقطب الإمكانات الفردية من أنحاء الاقليم التابع لها. وبذلك كانت المدينة العربية الإسلامية مركزاً للتغيير الاجتماعي. وانّها مثلت الأطار المكاني لشبكة العلاقات الاجتماعية الاقتصادية الإدارية والتخطيطية.
وانّ قيام المدن الإسلامية في القرن السابع الميلادي لم يكن بسبب التغير والتطور في وسائل الانتاج، ولم يكن بسبب التطور الاقتصادي والنشاط التجاري القائم في مكة أهم مدن الجزيرة العربية، بل كانت هناك حضارات ومدن أكثر أهمية من الناحية التجارية والاقتصادية، ومع ذلك تعرضت للذبول والانهيار وانتظرت الدور القيادي للمدينة الإسلامية.
وانبثقت الثورة الحضرية من الجزيرة العربية لتمتد وتنتشر في كل مدن العالم القديم حتى شمل الامبراطورية الرومانية والمدن اليونانية والبيزنطية، وأغلب المدن الآسيوية ومدن شمال أفريقيا ومنطقة آسيا الوسطى وغيرها.
كان الإسلام ذا نظرة ثورية شاملة للحياة حضارياً واجتماعياً، ولم يكن دينا للوعظ والارشاد، ولم يكن دينا للزهد والرهبنة، وانما كان دين عمل وجهاد.
وكان الإسلام يهتم أولاً وقبل كل شيء ببناء إنسان جديد يتفاعل مع مقومات الحياة الحضرية الجديدة. قبل أن يهتم ببناء مدينة جديدة. ليكون الإنسان منسجماً مع الحياة الحضرية.
ففي المدينة المنورة التي اتخذها الرسول (ص) قاعدة للعمل، أقام الرسول أسس دولة حديثة تنظم شؤون المجتمع لتحقق العدالة، وتحاول إذابة النظام القبلي ونبذ العصبية وكل ما يتعلق بها من مفاهيم وقيم، وإرساء نظام مدني قائم على تحقيق المساواة والعدالة.
ولم يكن الإسلام مجرد دين، بل حقبة حضارية جديدة تأتي وفق نمط أرثي تاريخياً يحمل معه نظرته إلى الأشياء وفلسفته في الابتكار، بدأت بإيقاظ الإنسان عن طريق إعادة تركيب وترتيب الظروف الموضوعية المحيطة بالإنسان.
وضع الإسلام الإنسان أمام موقف فكري جديد يدعو إلى استخدام العقل ونبذ الأساطير، وعدم الاتكال على الصدفة في تنظيم الحياة اليومية، وما يترتب على ذلك من تطوير البيئة الاجتماعية، والتفاعل مع البيئة الطبيعية لتطوير وسائل العيش من أجل خلق حياة مدنية جديدة، وتأتي هذه الدعوة ضمن أطار عام هو الإيمان بالله الواحد، وجاءت آيات القرآن تدعو إلى العلم والتعليم وتؤكد دور العقل والفكر واقترنت بسمة حركية هي العمل الجاد للاستفادة من المواهب الفكرية والطاقات البشرية المادية والمعنوية.
ومن مظاهر دعم الحياة الحضرية في الإسلام التركيز على الهجرة من أطراف البادية إلى المدينة والاستقرار فيها، مما اتاح للمسلمين التمدن والاستقرار في ظل عقيدة جديدة، فهو ليس عملية توطن تقليدية انما توطن على أسس حضرية جديدة في ظل توجيهات من الرسول القائد الذي شجع الهجرة إلى المدينة المنورة واعتبرها شرطاً من شروط الإيمان.
وكانت العبادات وبشكل خاص الصلاة والحج جزءاً من المتغير الحضري الذي مثله الإسلام ليس فقط فيما تفرضه من تنظيم الوقت، وسبل السيطرة على النفس وقدرة على التحمل، وانما أيضاً من حيث ضرورة العمران. فالصلاة أوجدت المسجد الذي هو ظاهرة عمرانية حضرية بحكم دوره الاجتماعي تمحورت حولها الحياة المدنية الجديدة فاصبح مركزاً للحياة الاجتماعية والفكرية وعامل وحدة، ومدرسة ثورية يتلقى فيها الناس التربية الجديدة، وتمحورت حوله المدينة فكان هذا حافزاً لإعادة تخطيط المدينة بشكل ينسجم مع دور المسجد في الحياة اليومية والعامة.
في القرن السادس الميلادي وقبل ظهور الإسلام شهد العالم انحساراً في المدن القديمة، وتراجعاً في الحياة الحضرية، وبدأت المدن تعاني من الدمار الشامل وتشكو من الحروب المستمرة وسقطت مدن كثيرة كانت عامرة مزدهرة بالتجارة حتى ظهر الدين الإسلامي.
وجاء الإسلام فظهرت مدن جديدة وانتعشت المدن التي كانت قائمة في آسيا وأفريقيا فكانت ثورة حضرية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً.
والإسلام انبثق كمدينة حضرية، وظهرت بوادر التحضر في المدن القديمة في العراق ومصر، وتزامنت أروع الانجازات في الامبراطورية الإسلامية مع النمو المدهش للقاهرة وبغداد ودمشق كمراكز حضرية رفيعة جداً.
وقد كشفت الدراسات الآثرية الحديثة عن مدى الإبداع والتقدم الذي بلغته المدن الإسلامية ويكفي انّ عاصمة الخلافة العباسية (بغداد) كانت شوارعها مرصوفة بالآجر، مضاءة بقناديل الزيت، تصل المياه إلى دورها بقنوات من الآجر تحت الأرض، في وقت كانت شوارع باريس موحلة مظلمة.

خصائص المدينة الإسلامية
كانت المدينة الإسلامية ذات تنظيم هندسي خاص يحمل دلالة معينة بحيث يوجد في وسط المدينة أو القرية على السواء (المسجد) الذي يقوم مقام المركز بالاضافة الى مساحات كبيرة. كما ان اغلب الطرقات والشوارع تؤدي بالضرورة الى هذا المركز. اذ يكفي الغريب او السائح ان يسير على النحو التقليدي إلى مركز المدينة ليجد المسجد والساحة، حيث يجتمع الناس، وهناك يجد ضالته. ويجد المساعدة التي يحتاجها.
فالمدينة إذن منظمة هندسية وفق نموذج ديني واجتماعي يتمركز حول المسجد وكأنما هو (الدليل) الشامل والمألوف وهو مركز الثقل الذي يجمع كل أبعاد المدينة الإسلامية القديمة.
ومن هنا كان التنظيم الهندسي للمدينة الإسلامية ذا دلالة واضحة وممتلئة، تتعلق مباشرة وبعمق بالتنظيم الاجتماعي والحضاري الإسلامي، ويمكن أن نلاحظ هذه الدلالة في هندسة المنازل، حيث تقع في وسط المنزل ساحة صغيرة بمثابة المركز الذي يجمع كل عناصر الأسرة بمفهومها الواسع الذي يحتوي على مجموعة أفراد (الجد، الابن، الحفيد).
إذن، دلالة المنزل هنا مركزية واحدة، واضحة، ليس فيها تعقيد ولا غموض، كما هو ظاهر في هندسة المباني الجديدة أو العمارات وناطحات السحاب، فهي تفرق أكثر مما تجمع، وتدعو إلى التعدد لا إلى الوحدة، وبالتالي إلى الغموض لا إلى الوضوح. وكذلك الأمر بالنسبة لدلالة المدن الحديثة التي يشعر فيها الإنسان بالاغتراب. وبالرغم من كل التنظيم المحكم الذي يراعي الجانب الدبلوماسي والمؤسساتي من جهة، والنواحي الثقافية والرياضية من جهة أخرى، والتجمعات السكانية والتجارية من جهة ثالثة، وبالرغم من مراعاته الاستراتيجية المدنية من كل جانب فانّه لا يؤدي إلاّ إلى التعقيد والتنوع والغموض.
في نشوء المدينة العربية الإسلامية وتطورها كانت حركة الإنسان وأبعاده الروحية والنفسية هي الموجه الأساسي في تخطيط المدينة وتنظيمها، سواء كان ذلك على مستوى المدينة بالحجم الذي تصله، أو على مستوى المحلات ومقاسات شبكة الطرق في بعديها الطولي والعرضي، مع استيعاب تام لمواصفات الموضع.
لقد أعطي للبعد الإنساني أهميته البالغة، فالشوارع والساحات والأسواق والوحدات المعمارية المختلفة توفر كل العناصر التي تساعد على ممارسة الحياة بانتظام وإنسانية وذلك من قبل الفرد والجماعة.
وقد كان من أهم نتائج الفتوحات الإسلامية بناء مجموعة من المدن الإسلامية الجديدة كالبصرة والكوفة في العراق، والفسطاط في مصر، والقيروان في تونس، والرباط ومراكش في المغرب، وقد ساعدت هذه المدن الجديدة وغيرها من المدن على انتشار الحضارة الإسلامية وأصبح الإسلام دين الغالبية العظمى منهم، وكانت تلك المدن مع غيرها، مثل سمرقند وبخارى وطاشقند وشيراز ونيسابور والموصل واسطنبول والجزائر واشبيلية وقرطبة وغرناطة من أهم مراكز الحضارة الإسلامية التي شعت بنورها على العالم كله. وتجاوز عدد سكان بغداد في القرن الثامن على مليون نسمة، وتراوح عدد سكان دمشق وقرطبة بين 000/300 و 000/400 نسمة وبلغ سكان القاهرة في القرن العاشر أكثر من نصف مليون نسمة.
وتزداد دهشتنا لهذه الأرقام إذا علمنا انّ عدد سكان المدن المزدهرة في أوروبا في نهاية القرون الوسطى لم يكن يزيد على 000/30 أو 000/40 نسمة وانّ باريس مثلاً لم يصل عدد سكانها إلى 000/300 نسمة إلا في القرن 14 م. أي بعد ستة قرون من إنشاء بغداد.
وقد عزّز هذا النمو السريع للمدينة العربية السيطرة على القرى المجاورة التي أصبحت مصدراً للطعام والقوى البشرية.

البعد الإنساني في المدينة الإسلامية
مما يميز المدينة الإسلامية انّها لم تنشأ لأسباب موضوعية بحتة وباسلوب هندسي يراعي الوضع الاقتصادي والجوانب المادية فقط، بل كانت المدينة الإسلامية تنشأ وتخطط منذ انشائها لتلبية مطالب الإنسان، واشباع حاجاته النفسية والروحية والمادية، ولم تكن المدينة العربية منظومة من المباني والمنشآت والمرافق فحسب، بل كانت منسجمة مع حاجات الناس في كل مراحل عمره وبمختلف فئاته فهي (أي المدينة) تشيد وتنمو وتتطور وفق خطة هندسية تراعي مشاعر الإنسان وتضمن له الشعور بالدفء والأمان وتوفر له فرص التعليم والعلاج والتكافل الاجتماعي كما تضمن له مستوىً معيشياً لائقاً بكرامته وإنسانيته.
وكل شيء في المدينة في خدمة الإنسان سواء كان مادياً أو معنوياً.
فالعمارة: عمارة المنازل والبيوت ومنظومة الميادين والطرق والدروب والأسواق والشوراع كلها تراعي الأبعاد السيكولوجية وتغطي رغبات الفرد وطموحه. وكذلك المرافق المعنوية كالمدارس والمستشفيات ودور الرعاية الاجتماعية (بيوت اليتامى والأرامل) وأماكن التسلية واللهو كلها تقاس بالمقياس الإنساني.
والإسلام حينما أرسى دعائم الحياة الحضرية لم يرهق الإنسان في حسابه التشريعي، وانما أقام خطط المدينة على أساس النظرة الواقعية للإنسان.
والإسلام لم يستمد غاياته التي سعى إلى بلوغها في تنظيم المدن وتنسيقها، من ظروف مادية وشروط موضوعية مستقلة عن الإنسان ذاته، وانما نظر إلى تلك الغايات بوصفها معبرة عن مبادئ وقيم عملية ضرورية التحقيق من الناحية الخلقية. وتعني الصفة الخلقية، إنّ الإسلام يهتم بالعامل النفسي خلال الطريقة التي يضعها في تخطيط المدن وبناء العمارة؛ وينطبق ذلك أيضاً على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وشكل وتنظيم الأسواق وبناء المرافق العامة وفتح القنوات لري الأراضي وإحيائها، وإقامة الجسور.
فهو في الاسلوب الذي يتبعه لتحقيق غاياته في تنظيم المدن، وتنظيم المجتمع لا يهتم بالجانب الموضوعي فحسب وانما يعنى بشكل خاص بمزج العامل النفسي والذاتي بالطريقة التي تحقق تلك الغايات. وللعامل الذاتي آثره الكبير في الحياة الاجتماعية ومشاكلها وحلولها.
والإسلام إذن لا يقتصر في تنظيمه للمدن على تنظيم الوجه الخارجي للمدينة فقط أو يهتم بالمدن الكبيرة ومظهرها المادي فقط، ويهمل الأحياء الفقيرة، أو المناطق الهامشية، أو التجمعات التي تنتعش فيها روابط الجوار والحارات والأسواق والخانات كما يحدث في التخطيط الحضري للمدن الجديدة التي تركز على العاصمة وتبنى فيها أفخم الفنادق والمطارات وأرقى المستشفيات وتهمل المراكز الحضرية الأقل شأناً، فتنعدم فيها الخدمات الطبية أو التعليمية.
كانت الدولة الإسلامية مع ترامي أطرافها تهتم بالقرى والأرياف كما تهتم بالمدن الكبيرة، وتبني فيها المساجد والمدارس ومصانع النسيج وتبعث إليها الأطباء والصيادلة وترسل الحراس ورجال الأمن والشرطة لضبط الأمن والنظام وإقرار العدل، وإرساء الاستقرار. وكانت تشجع على الزراعة وتفتح القنوات أي تحفر الأنهار لسقي الأراضي ومساعدة الفلاحين في إعمار الأرض واستصلاحها، وعدم المطالبة بالخراج إلا بعد غزارة الإنتاج ووفرته حتى انتعش الريف وازدهرت القرى في العالم الإسلامي. وكان الناس يخرجون إلى القرى والأرياف أيام العيد والجمعة للتمتع بالهواء النقي ورؤية جمال الطبيعة والتنزه في البساتين والمزارع والضياع التي تمتد مع امتداد الأنهار في العراق ومصر وسوريا وغيرها من البلاد الإسلامية.

السوق في المدينة الإسلامية
حركة السوق في المدينة الإسلامية مرتبطة بالمناخ الإسلامي وبقواعد السلوك الاقتصادي وبالرصيد الحضري للنظام الإسلامي.
الاقتصاد في الإسلام جزءٌ من كل، ولا يمكن تطبيق جزء منه دون بقية الأجزاء، والإسلام بوصفه كياناً حضرياً لا يقبل التجزئة، لأنّه صيغة حياة اجتماعية واقتصادية ونفسية فردية وجماعية، وعالمية، دنيوية وآخروية، خلقية ومادية، وترتبط كل هذه الكيانات العضوية في كائن عام بتفاعلات متبادلة غير قابلة للنقص أو القطع أو التجزئة، تعمل في تناسق واتساق بغير غنىً للجزء عن الكل، أو للكل عن الجزء.
السوق في المدينة الإسلامية ليس نسقاً ثقافياً في ذاته بقدر ما هو جزء من نظام ثقافي أكبر، أو باعتباره جزءاً متكاملاً ومتلاحماً ومتفاعلاً مع أنظمة فرعية أخرى منبثقة من نظام أكبر هو النظام الإسلامي، وما فيه من مذهب اقتصادي يعالج المسائل الاقتصادية، ويحدد أنواع الملكية ويفرض نظاماً وقواعد للانتاج والتوزيع، ويوفر الضمانات للتكافل الاجتماعي والتوازن الاجتماعي، ويفرض ضريبة الزكاة ليعطيها إلى مستحقيها ولإقامة المشاريع العامة والمنشآت الثقافية، كإقامة الجسور، وبناء المدارس، وتشييد الجامعات، وإقامة المستشفيات ودور الرعاية الاجتماعية. والسوق كوسط اجتماعي تلتقي فيه جماعات وفئات متغايرة تتأثر بالفكر الإسلامي في النواحي الاقتصادية والاجتماعية والدينية، ويتمثل ذلك في نظام الحسبة الذي عرف لأول مرة في العصر العباسي، ووظيفة المحتسب الإشراف على الأسواق والطرق وتنظيمها، وإزالة المعوقات عن الأعمال التجارية، والحفاظ على أمن وسلامة طرق المدينة وأسواقها ونظافتها، ومراقبة الأسعار والمكاييل والموازين والاشراف الصحي على المطاعم، وباعة السمك والدجاج، ومنع الغش والتدليس، وعدم السماح لكل أمر يؤدي الى الاضرار بمصلحة الفرد والجماعة حسب القاعدة الإسلامية: (لا ضرر و لا ضرار) فالسوق يتأثر بالخلقيّة الدينية والاطار الثقافي للمجتمع.
ونظام الوقف يعد من الخصائص المميزة للسوق في المدينة الإسلامية وكانت أموال الوقف ضخمة جدا وأحياناً توقف مزارع كبيرة بل قرى بأكملها توقف لمدرسة أو مستشفى.
فالمدرسة المستنصرية في بغداد أوقفت لها الكثير من الدور والعمارات والمزارع والقرى لتأمين نفقاتها وأحياناً تزيد إيرادات الوقف عن نفقات المدرسة مع انّها كانت نفقات طائلة تشمل فضلاً عن رواتب الأساتذة والمدرسين رواتب للطلبة والإطباء والمشرفين وشراء الكتب والورق وأدوات الكتابة وغيرها. والطريف انّه كانت تعطى للطلبة جرايات شهرية للاستحمام في الحمامات العامة. لقد اهتمت الدولة في العصور الإسلامية بحركة الأوقاف، واتخذت هذه الأوقاف أبعاداً اجتماعية مختلفة. وأموال الوقف لم تكن لمساعدة الفقراء فقط، وانما كانت تشمل أغراضاً اجتماعية متعددة كإنشاء الترع وفتح القنوات وبناء السدود، واختص جانب من الأوقاف بتعليم السجناء الحرف والمهن ومنحهم رواتب لقاء عملهم، ثم اعطائهم منحة مالية عند خروجهم من السجن ليبدأوا حياتهم من جديد بالعمل الشريف، كما انّ حركة الأوقاف اهتمت بالأيتام والأرامل، إذ اهتمت بتعليمهم وكسوتهم.
وكان الناس يتسابقون لأعمال الوقف، ونجد في الآثار والكتابات على أبواب المساجد والبنايات الآثرية ما يدل على شدة تعلق الناس بالوقف، ليكون لهم ذخراً بعد وفاتهم، وذخراً يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم.
واللافت للنظر انّ مفهوم البر تحول من مفهوم ضيق إلى دلالات واسعة تشمل الحياة العامة كلها. وهناك وقف لإطعام الغرباء والمسافرين وإقامتهم في منازل خاصة لهم. وفي هذا الصدد يقول الرحالة ابن بطوطة الذي دار حول العالم انّه خرج من مدينة طنجة سائحاً وليس معه إلاّ دراهم معدودة، وعاد محملاً بالأموال والهدايا وذلك انّه لم ينزل مدينة إلاّ وجد الطعام والمأوى والضيافة من أموال الوقف، ووجد الترحيب والاحترام من قِبَل سكّان المدن، لانّه يقصد بيت الله الحرام وزيارة قبر النبي الكريم محمد بن عبد الله (ص).
وهناك وقف لأبناء السبيل ممن فقد ماله أو سرق متاعه، ووقف لاطلاق سراح السجناء المديونين، وذلك بدفع ما عليهم من ديون والتزامات.
ووقف لتحرير العبيد.
والطريف أنّ هناك وقفاً لتعويض الخدم أو العبيد عن المال الذي يتلف بأيديهم، أو المتاع الذي يتعرض للتلف، أو القوارير والأواني الزجاجية التي تنكسر ولئلا يتعرضوا للضرب والإهانة والسب، تعطى لهم الأموال ليعوضوا أسيادهم عما ضاع منهم.
وبعد:
فإنّ المدينة الإسلامية كانت تشيَّد وتبنى من أجل خدمة الإنسان ومن يسير في شوارعها وازقتها يشعر بالألفة والراحة النفسية ولا يشعر بالانسحاق كما هو حاصل في المدن الحالية. والمدينة الإسلامية خالية من التلوث، ولم تعرف الجريمة وحوادث الاغتصاب والسرقة والقتل والقمار واللهو والمجون كما في المدن العصرية.

 الهوامش:

1- محمد عبد الجبار، المصطلح الاسلامي في عالم متغير، صحيفة الحياة العدد (13600) الجمعة 26ربيع الثاني 1418 هـ، 29 آب / اغسطس 1998 م.
2- د. محمد عزت حجازي، الازمة الراهنة لعلم الاجتماع في الوطن العربي.
3- وليم مارسيه، النزعة الدينية والحياة الحضارية ص 562.

 المصدر: مجلة الفكر الجديد/العدد18/2000 م

ارسال التعليق

Top