من النمو المشوّه إلى النمو الإيجابي في العالم العربي:
ما هو محتوى وجودة معدلات النمو الاقتصادي في اقتصادات الدول العربية؟
نبحث في هذا المقال الأسباب التي حالت دون تطوير نظرية اقتصادية عربية متكاملة للخروج من التخلّف، وبالتالي عدم النجاح في التجارب التنموية العربية. وسيتوجب علينا البدء باستعراض مكوّنات النجاح التنموي والمفاهيم المطورة في النظريات الاقتصادية، هذا مع الإشارة إلى أنّ الجزء الأكبر من الفكر الاقتصادي العربي قد أهمل دراسة ظاهرة تفشي وتعميم الاقتصاد الريعي في الوطن العربي وما يستتبعه من تفاقم الإفساد والفساد، وقلة الإنتاجية، واستمرار وجود جيوب واسعة من الفقر والأمية والتهميش وحالات البطالة عن العمل. وهذا ما قيَّد أداء كلّ من القطاع العام والقطاع الخاص والقطاع التعليمي، وأدى بالتالي إلى تنمية مشوّهة وناقصة.
هناك مجموعة من المبادئ المسلَّم بها في الأدبيات حول التنمية تحتاج إلى إعادة النظر، خاصة بالنسبة إلى الاقتصادات العربية. إنّ معظم الحكومات العربية قد طبّقت توصيات مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية ووكالات الأُمم المتحدة المتخصصة، ومع ذلك فإنّ الأداء الاقتصادي العربي هو ضعيف، خاصة بالنسبة إلى:
- توافر فرص العمل ومساهمة المرأة في سوق العمل.
- العدالة الاجتماعية وآليات توزيع الدخل.
- تنمية اقتصاد إنتاجي مبني على تملّك العلم والتكنولوجيات الحديثة.
- وجود فساد متفش في الحياة الاقتصادية وبنية قطاع خاص حديث لها سمة احتكار القلة.
- قطاع لا شكلي واسع للغاية.
ولهذه الأسباب قد حصلت الانتفاضات العربية.
إنّ أداء الاقتصادات العربية تقيّم في معظم الأحيان على أساس معدل النمو الإجمالي دون الأخذ بعين الاعتبار:
- الفجوات بين المناطق (ريفية ومدنية) والفروقات الحادة داخل المدن بين فئة صغيرة من ميسوري الحال وغالبية من العائلات الفقيرة والمهمشة.
- وجود أعلى نسبة من البطالة بين كلّ مناطق العالم وبشكل خاص لدى الجيل الشاب المتعلم (10 في المائة للمعدل العام للبطالة و25 في المائة لدى العنصر الشاب).
- أدنى نسبة من السكان العاملين إلى مجمل السكان (أي 45 في المائة مقابل معدلات تتراوح بين 55 في المائة و70 في المائة للمناطق الأخرى في العمل، وأدنى مستوى لمشاركة المرأة في السكان العاملين 26 في المائة مقابل 53 في المائة للمعدل العالمي).
التبعية الشديدة لمعدلات النمو على:- تأرجحات أسعار الطاقة.
- مستوى الأمطار السنوي.
- مستوى تدفقات تحويلات المغتربين.
وفي معظم الأحيان لا يتم تقييم نوعية النمو الاقتصادي بالنسبة إلى:
- تحقيق حالة التشغيل الكاملة.
- تنويع القطاعات الاقتصادية المنتجة ذات القيمة المضافة العالية.
- حالة تملّك العلم والتكنولوجيات.
- تحقيق العدالة الاجتماعية وإقامة نظام حماية اجتماعية فعّال للفئات الأكثر فقراً.
تحديد مؤشرات النمو المشوّه في الاقتصادات العربية:
إنّ أهم مؤشرات النمو المشوّه يمكن أن تلخص بالسمات السلبية التالية:
1- أدنى نسبة من بين مناطق العالم بين مجمل السكان والقوى العاملة، وبشكل خاص في ما يختص بمشاركة المرأة في سوق العمل كما تم ذكره سابقاً.
2- أعلى نسبة من حالات البطالة للسكان في سن العمل.
3- ركود الرواتب والأجور الحقيقية وركود إنتاجية العامل.
4- تبعية كبيرة لمعدل النمو الاقتصادي على متغيرات خارجية.
5- الناتج المحلي الإجمالي هو مركّز بشكل كبير على قطاع الخدمات ذات القيمة المضافة المتدنية والصناعات التحويلية.
6- الهجرة عامة وهجرة الأدمغة خصوصاً كمؤشر رئيسي للتنمية المشوّهة (نصف الطلاب العرب في الخارج لا يعودون إلى بلادهم).
7- تركز كبير للاستثمارات في عدد قليل من القطاعات الاقتصادية (الطاقة والبتروكيماويات، العقارات والسياحة، التوزيع التجاري الداخلي والمصارف)، مما يحول دون تنوع الاقتصاد وزيادة فرص العمل.
8- المستوى المتدني جدّاً للإنفاق على الأبحاث والتطوير وغياب نظام متكامل لتشجيع الابتكار التكنولوجي في الصناعة والخدمات ذات القيمة المضافة العالية (0.3 في المائة مقابل 2 إلى 3.5 في المائة في الاقتصادات المتطورة والناشئة). بين 1963 و2009 تم تسجيل 568 براءة اختراع من مصدر عربي فقط مقابل 66729 لكوريا الجنوبية و77285 لجزيرة تايوان.
9- مواقع عجز كبيرة في التجارة الخارجية ومنها:
- قلة الصادرات ذات المحتوى التكنولوجي العالي (9 في المائة فقط وهي أعلى نسبة في صادرات تونس مقابل أكثر من 30 في المائة من صادرات الدول الناشئة حسب إحصاءات التجارة الخارجية للـ UNCTAD).
- العجز الغذائي المتزايد.
تحديد معايير النجاح التنموي:تطورت المفاهيم المختلفة للتنمية تطوراً كبيراً في الأدبيات الدولية خلال العقدين الماضيين. ولابدّ من استعراض سريع لهذا التطور قبل الدخول في وضع معايير خاصة للمنطقة العربية تأخذ في عين الاعتبار السمات السلبية الرئيسية للاقتصادات العربية وللبنية الاجتماعية.
أ- تطور مفهوم التنمية المستدامة ومقوماتها الرئيسية: ملاحظات أولية:
بدأ هذا المفهوم يظهر في الأدبيات التنموية الدولية في أواسط الثمانينيات تحت تأثير الاهتمامات الجديدة بالحفاظ على البيئة ونتيجة للاهتمامات التي أثارتها دراسات وتقارير نادي روما الشهيرة في السبعينيات حول ضرورة الحفاظ على الموارد الطبيعية القابلة للنضوب وعلى البيئة والتوازنات الجوهرية في الأنظمة البيئية (Ecosystems). وقد انتشر استعمال المفهوم بسبب تكاثر الأحداث المسيئة للبيئة وارتفاع درجة التلوث عالمياً. وانتشر أيضاً في الأدبيات الاقتصادية الخاصة بالعالم الثالث نظراً لتعثر الكثير من السياسات التنموية المعمول بها، التي أدت إلى تفاقم المديونية الخارجية وتردي الإنتاجية، وخاصة في القطاع الصناعي، وكذلك إلى توسيع الفروقات الاجتماعية في عدد كبير من الدول، بل إلى المجاعة أو قلة التغذية في بعض الأحيان لدى الفئات الفقيرة التي ساءت أحوالها في الثمانينيات بالرغم من كلِّ الاستثمارات التي نفذت في العقدين السابقين.
وقد استقر الرأي تدريجياً على أنّ السياسات التنموية، لكي تؤدي إلى إنماء قابل للاستمرار، يجب ألا تحترم مقومات البيئة التي يعيش فيها الإنسان وحسب، بل عليها أيضاً أن تراعي قدرة كلّ الفئات الاجتماعية على تحمّل التغيير والاستفادة منه على قدم المساواة. ولهذه الأسباب امتد نطاق المفهوم إلى القضايا الإنسانية والبشرية وأصبحت النظريات التنموية تركز أكثر على هدف التنمية، أي على الإنسان، وأحواله الصحية والثقافية والسياسية، وذلك على خلاف الفترات السابقة، التي كان التركيز ينصب خلالها على وسائل التنمية المادية، أي على زيادة معدلات الاستثمار ومعدلات النمو الاقتصادي العام السنوي، وزيادة مستويات الاستهلاك من منتجات الصناعة الحديثة.
ويصعب إيجاد كلمة واحدة في اللغة العربية تعكس بدقة محتوى التعبير الإنجليزي، الذي له أكثر من معنى، فكلمة Sustainable تعني القابل للاستمرارية أو الديمومة، كما تعني القابل للتحمل، وبالتالي القابل للاستمرار. وتقارير برنامج الأمم المتحدة للتنمية المتعلقة بالتنمية البشرية تستعمل، في ترجمتها إلى اللغة العربية، تعبير "التنمية المستدامة". ويمكن أيضاً، في اللغة العربية، أن نلجأ إلى كلمة "الدعم" للتعبير عن معاني المفهوم، فالتنمية المستدامة هي التي تجد في ذاتها ما يدعم استمرارها فتكون بالتالي "تنمية متداعمة". وهي لا يمكن أن تكون كذلك إذا لم تكن متحملة ومقبولة من فئات المجتمع المختلفة. والمعنى الأوّل لفعل Sustain باللغة الإنجليزية هو "دعم" أو "أيَّد"، بالإضافة إلى معنى "استمر". ومن هذا المنظور، هناك تشابه مع مفهوم التنمية بالاعتماد على النفس أو التنمية المركزة ذاتياً، وهي تعابير استعملت كثيراً في الأدبيات الاقتصادية العربية، غير أنّ محتوى تعبير "المتداعم" هو أوسع أفقاً، إذ يشتمل على معانٍ أشمل تتناول الأوجه البشرية والبيئية والسياسية للتنمية الاقتصادية، بينما يوحي مفهوم الاعتماد على النفس، ولو بشكل غير صحيح، بسياسات الانغلاق على الذات وعدم الاندماج في الاقتصاد العالمي Global Economy الذي يتميز به العالم في نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة.
والجدير بالذكر أيضاً أنّ "الديمومة" أو الاستمرارية المعنية في مفهوم التنمية هذا تشير إلى الامتداد والروابط بين الأجيال، أي أنها تعني أنّ الجيل الحالي يجب أن يترك للأجيال القادمة مخزوناً كافياً من الموارد الطبيعية ونظاماً بيئياً غير مدمَّر وغير مصاب بالتلوث، وكذلك مستوى كاف من الملكة في العلوم والتكنولوجيا، بحيث تتمكن هذه الأجيال من الاستمرار في التنمية والاستفادة من فوائدها المختلفة.
بناء الرأسمال الاجتماعي:ولابدّ هنا من الإشارة إلى أهمية مفهوم بناء الرأسمال الاجتماعي، أي تراكم الخبرة في العلاقات المؤسساتية في المجتمع وحسن استعمال هذه العلاقات فردياً وجماعياً لاستغلال قدرات المجتمع الاستغلال الأمثل، وزيادة إنتاجية اقتصاد البلاد، وربط القطاعات الاقتصادية في ما بينها، وتأمين مجتمع العدل والكفاءة. وهذا يتطلب عناية خاصة ببناء المؤسسات ويحسن إدارتها وبتطوير الشفافية والحاكمية في علاقتها مع المواطنين وفي العلاقات في ما بينها، كما في العلاقات بين قيادة المؤسسات والعاملين فيها. وفي هذا المجال، فإنّ الانتباه والموارد والجهود المكرَّسة في الوطن العربي لبناء الرأسمال الاجتماعي قليلة للغاية، نسبة إلى ما يُنفق على المظاهر الخارجية للمؤسسات من مكاتب فخمة وتجهيزات دون النظر إلى النواحي الأخرى في تطوير الأنظمة وحسن العلاقات المهنية فيها وآليات المراقبة والمساءلة الداخلية للمؤسسات. ويشمل مفهوم المؤسسات ليس فقط إدارات الدولة والهيئات المحلية، إنما أيضاً المؤسسات التعليمية والمنشآت الاقتصادية، الخاصة أو العامة، والمؤسسات الاجتماعية الطابع ومنظمات المجتمع المدني وهيئات أرباب العمل والنقابات المهنية والنقابات العمالية، أي أنّ الرأسمال الاجتماعي يشمل كلّ هذه المؤسسات وينسج في ما بينها علاقات شفافة لخدمة المجتمع بأسره.
ب- تجربة شرق آسيا وتطوير مفهوم التنمية البشرية:
بفضل جهود برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في السنوات الأخيرة، تم تعميق مفهوم التنمية المستدامة عن طريق وضع معايير اقتصادية جديدة لقياس حالة البحبوحة الاقتصادية الكلية للدول، وهي معايير تطبق لتعديل المعيار الأساسي المستعمل تقليدياً، أي الناتج المحلي للفرد مقوماً بالدولار الأمريكي، وذلك عن طريق تثقيل هذا المعيار بمعايير تقيس حالة البيئة والأحوال الصحية والتعليمية لفئات السكان المختلفة ووضع المرأة ومساهمتها في الحياة المهنية والسياسية. وقد أصبحت تقارير التنمية البشرية التي يصدرها سنوياً برنامج الأُمم المتحدة الإنمائي مراجع أساسية لقياس حالة التنمية الفعلية بكل أبعادها لكلِّ الدول.
ويظهر جلياً من إحصاءات هذه التقارير أنّ في الدول العربية أوجه قصور تنموي متعددة، خاصة في مجال التنمية البشرية والمساهمة في حركة النهضة التصنيعية العالمية. وقد درس أوجه القصور المذكورة بعض الباحثين العرب، كما ازداد اهتمام الكثير من الهيئات الدولية والعربية بأوضاع الفقر في الوطن العربي وتكاثر حالات الأمية، بالإضافة إلى أوضاع البيئة والموارد الطبيعية، خاصة من ناحية اشتداد ظاهرة التصحر والشح في المياه وزيادة ملوحتها.
ومن أهم استنتاجات الدراسات المتعلقة بالتنمية المستدامة، خاصة تلك التي أجراها برنامج الأُمم المتحدة الإنمائي، أنّ الإنفاق على تنمية القوى البشرية بشكل مركَّز وهادف هو من أهم عناصر التنمية المستدامة، وأنّ تحقيق الإنصاف في توزيع فوائد التنمية والمساهمة في النمو من قِبل الجميع هو أيضاً من مرتكزات التنمية المستدامة. وقد ساعد على بلورة هذا الاتجاه في الأدبيات التنموية دراسة تجارب بعض الدول في شرق آسيا التي استلهمت سياساتها التنموية من التجربة اليابانية ونجحت نجاحاً باهراً في التنمية البشرية والمادية في آن واحد، مثل كوريا وسنغافورة وتايوان وماليزيا.
وكان للتقرير الشهير الذي وضعه البنك الدولي عام 1993 حول "أعجوبة شرق آسيا – التنمية الاقتصادية والسياسية العامة" أثر بالغ على الدراسات المتعلقة بالتنمية، إذ وجد الباحثون الذين درسوا تلك التجارب التنموية أنّ للإطار المؤسسي الذي تطبق من خلال السياسات الاقتصادية أهمية بالغة في إنجاح الجهود التنموية وأنّ تدخّل الدولة في مجال التنمية البشرية لتسهيل تحقيق الإنصاف مساهمة كلّ الفئات الاجتماعية في آليات النمو هو أيضاً عنصر مهم في إنجاح عملية التنمية ووضعها على أسس ثابتة.
ويستحسن هنا التذكير بأنّ دول شرق آسيا كان لها، في بداية الستينيات، نفس مستوى الدخل الفردي الذي كان سائداً في الدول العربية غير النفطية ونفس سمات التخلُّف بالنسبة للتنمية البشرية.
وقد أصبحت اليوم في عداد الدول الناجحة جدّاً في معايير التنمية الصناعية والبشرية في آن معاً.
وهذه الظاهرة حَرية بالتفكير والتأمل، فالفارق في الإنجازات يبدو كبيراً جدّاً حتى لو أخذنا بعين الاعتبار ما تحملته بعض الدول العربية من حروب متتالية في إطار الصراع العربي – الإسرائيلي بين 1948 و1973.
قد يكون هذا الفارق عائداً إلى ما سماه أحد الاقتصاديين العرب البارزين "ضبابية المنظور التنموي العربي"، وتبسيطه وإغفاله "الإطار الواسع الذي تحتاج التنمية إليه بجوانبه أو عناصره السياسية والاجتماعية والتنظيمية إضافة إلى الاقتصادية والتعاونية"، وذلك مقابل رؤية واضحة في دول شرق آسيا المذكورة، وهي تشتمل على كلِّ العناصر المهمة في عملية إطلاق القدرات التنموية وترتيب الأوليات والاهتمام بالنواحي البشرية والتنظيمية والمؤسساتية على قدم المساواة بالعناصر الأخرى المادية الطابع.
ت- انفصال سياسات الاستثمار العربية عن أهداف التنمية البشرية وبناء رأس المال الاجتماعي في الخطط التنموية:
نصل هنا إلى نقطة أساسية في قصور السياسات التنموية العربية، هي الفصل التام القائم بين وضع الخطط الاستثمارية، من جهة، ووضع خطط التنمية البشرية، من جهة أخرى، وهي النقطة الأساسية التي توصلت إليها أخيراً المقاربة التنموية الجديدة التي تدعو إلى ربط السياسات الاستثمارية بسياسات الحفاظ على الموارد الطبيعية البيئية وبسياسات حماية الفئات السكانية ذات الدخل المتدني وغير المستقر تجاه مزيد من الضعف والتهميش.
وقد تميزت السياسات الإنمائية العربية التقليدية بجهود كبيرة في كلِّ من الميدان الاستثماري والميدان البشري ولكنها، ربما، لم تبذل جهوداً كافية لإقامة الترابط العضوي والتناسق بين التوجه الاستثماري العام والتوجهات في الميادين الإستراتيجية الأخرى مثل تنمية القدرات البشرية والاستغلال الأمثل (وليس الاستغلال الأقصى)، للموارد الطبيعية، والحفاظ على البيئة وإقامة آليات اجتماعية لتخفيف وطأة التنمية والتغيير في البنية الاقتصادية على الفئات المختلفة من السكان، وأخيراً العمل من أجل بناء رأس المال الاجتماعي كما وصفناه آنفاً. والحقيقة أنّ السياسات التنموية العربية، بغضّ النظر عن طبيعة النظام الاقتصادي المعمول به في الأقطار العربية المختلفة، قد اعتمدت على مبدأ تكثيف استغلال الموارد الطبيعية، من زراعية أو منجمية أو نفطية، كأولوية مطلقة، وذلك بغية تعظيم سيل الموارد المالية من أجل زيادة جهود الإنفاق على التربية والقطاع الاجتماعي بشكل عام.
وفي مثل هذه التصورات التنموية السائدة في المنطقة العربية، تم تصوّر التخطيط الاستثماري بناء على هذه الأولوية، وعلى ما يمكن أن يتوافر من إمكانات التمويل والخبرات البشرية الخارجية التي يمكن أن تقدمها الدول الصناعية الكبرى من رأسمالية واشتراكية، بينما تطورت خطط تنمية الأنظمة التربوية وقطاعات الخدمات الاجتماعية بمعزل عن الخطط الاستثمارية في القطاعات الاقتصادية أو على أساس معايير مطلقة خاصة بقطاعات الخدمات التربوية والاجتماعية. وفي معظم الأحوال، لم ينظر إلى الربط بين المجال الإنمائي الاقتصادي والمجال الإنمائي التربوي والاجتماعي إلا بطريقة شكلية أو اسمية أو، كما ذكرنا آنفاً، على أساس أن تكثيف استغلال الموارد الطبيعية يسمح بتأمين أموال إضافية من أجل تنمية القطاعات الاجتماعية.
ونادراً ما تم تصوّر الربط العكسي، أي أنّ تطوير القدرة البشرية من شأنه أن يؤمّن للقطاعات الاقتصادية جميع إمكانات تنويع البنية الاقتصادية، وزيادة مردودية أهم القطاعات، وتأمين معدلات نمو أكثر استدامة، بحيث لا يبقى الاقتصاد الوطني أسير قطاع المواد الأولية وإتكاله على الأسواق الخارجية وعلى أسعار تتقلّب بحدة. والحقيقة أنّ المعادلة التنموية الماضية كانت، كما ذكرنا، تعتمد على قائمة مشاريع متناثرة في البنية التحتية وفي الصناعة والخدمات، وتعتمد تصوراً شكلياً لمظاهر التقدم الاقتصادي لتقليد الدول المتقدمة صناعياً. وكان التصور الصناعي يعتمد كذلك على أهمية الصناعات الثقيلة لإطلاق التصنيع محلياً. أما المقاربة الصحيحة والناجحة فهي التي تعتمد أساساً، كهدف إستراتيجي، ضرورة مشاركة كلّ الفئات الاجتماعية، الريفية والحضرية، الغنية المتعلمة، الفقيرة والقليلة المهارات، مشاركة منصفة، وبالتالي فعالة ومستدامة، في توسيع دورة الإنتاج وتحديثها تدريجياً.
والجدير بالذكر أنّ التنمية الخاصة بشرق آسيا، المعتمدة على التجربة اليابانية، قد اعتمدت كأولوية، تحديث البيئة الريفية وتنمية القوى البشرية فيها لانتقالها بسرعة إلى البيئة الحضرية وإدخالها بنجاح في القطاع الصناعي الناشئ. ويذكر أيضاً أنّ الدول الأوربية لم تنجح في إرساء دعائم صلبة لتواصل النمو الاقتصادي إلا من بعد الاعتناء بالأرياف اعتناء مركّزاً عن طريق تعميم أنماط تعاونية في الإنتاج والتسويق والتمويل في القطاع الزراعي، والسماح بتكوّين النقابات العمالية في المناطق الحضرية، وتشجيع إقامة الهيئات التعاضدية الاجتماعية الطابع لدى العمّال، ما أدى بعدئذ إلى إنشاء أجهزة الحمايات الاجتماعية للعمال من قبل الدولة نفسها، وهي مبنية أيضاً على مبدأ التعاضد.
أما في الدول العربية، فقد كان الهمُّ مركزاً على تحديث البنية التحتية في الأرياف بإقامة السدود الضخمة وشبكات الري، كأولوية، وعلى إقامة مصانع ضخمة بفضل المعنويات المالية والتقنية الخارجية، دون النظر إلى وضع القوى البشرية المحلية وإمكان تكيّفها مع هذه البيئة الزراعية والصناعية والاستفادة المنصفة للجميع، فضلاً عن إمكان بناء تراكم للمهارات والملكات في التكنولوجيا من قبل رأس المال البشري العام. وعلى خلاف ما جرى في دول شرق آسيا الناجحة في التنمية، فإنّ المقاربة الكلية للتنمية لم تول أهمية خاصة لدراسة تطور الصناعة عالمياً وطرق توطين المهارات التقنية وأساليب اكتسابها بشكل فعّال في المحيط المحلي. فالتدريج والتروي وحسن اختيار التقنيات المستوردة ودراسة أفضل الطرق لتطبيقها بشكل مستقل عن المنشأ، كانت من العناصر المفقودة في الرؤية التنموية العامة لدى معظم الأقطار العربية بالرغم من الإنفاق المهم على التربية وأجهزة التخطيط.
خاتمة: معايير وأهداف خاصة للانتقال من النمو المشوّه إلى النمو السليم في الوطن العربي:
إنّ الانتقال من حالة التنمية المشوهة إلى حالة النمو السليم يتطلب اعتماد المعايير والسياسات العامة التالية:
في محو الأمية وتحقيق التنمية المناطقية:1- منح الأولوية للقضاء على جيوب الأمية الواسعة وتركيز الجهود على تنمية المناطق الريفية.
2- نجاح التنمية مناطقياً داخل كل قطر عربي، أي تحقيق التنمية المتوازنة بين البيئات العربية المختلفة الموصوفة سابقاً، وبشكل خاص بين المدينة والريف، وكذلك العمل المتواصل بين الأقطار العربية لتأمين تنمية متوازنة في ما بينها. وإذا ما أمعنا النظر في الأسباب الحقيقية الكائنة وراء إخفاقات الجهود العديدة المبذولة بشأن التكامل أو الاندماج الاقتصادي في ما بين الأقطار العربية، نجد دائماً دور المصالح الاقتصادية الضيّقة قطرياً بما فيها مصالح كبار رجال الأعمال في كلِّ قطر عربي لتجنب منافسة الصناعات أو الخدمات العائدة للأقطار الأخرى، كما نرى الغياب التام بالتالي، خارج القطاع المالي والعقاري، لإقامة أي نوع من الشراكة المالية والتقنية وعلاقات الإنتاج في ما بين مجموعات القطاع الخاص داخل كلّ قطر، أو عبر الأقطار. إنّ هذه العوامل هي التي حالت دون تطوير التجارة البينية العربية، ودون استحداث مجموعات صناعية عربية (خارج قطاع البتروكيماويات في منطقة الخليج) يكون لها قدرة تنافسية وحقيقية، وبالتالي وزن في الأسواق الدولية.
في التنمية العلمية والتكنولوجية:3- القضاء على الإفساد والفساد في الحياة الاقتصادية والعمل على أساس المحاسبة والمسؤوليات الاجتماعية للقطاع الخاص وليس فقط في أجهزة الدولة.
4- تجهيز الموارد البشرية واستنفارها ضمن إطار خطة وطنية لتملُّك التكنولوجيات الحديثة وتنوّع الاستثمارات والحد من هجرة الأدمغة، وذلك عبر:
أ- إقامة شراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص في تحديد أهداف وطنية لتملّك سلسلة من التكنولوجيات المتكاملة الضرورية لإنتاج السلع والخدمات ذات القيمة المضافة العالية.
ب- تطوير الصناعات المحلية الحديثة بحيث تكون لها القدرة التنافسية في الأسواق العالمية في ميدان السلع والخدمات، وأيضاً تطوير الصناعة العسكرية بحيث تصبح قاعدة للتجهيزات والأسلحة العسكرية لتأمين قدرات دفاعية فعّالة لصد أي اعتداء خارجي.
ت- دمج القطاع اللاشكلي في القطاع الحديث عبر العقود بالباطن (Sub Contracting) التي من خلالها يمكن تقوية التنافسية الإجمالية للقطاع الحديث.
5- تشجيع توطين العلم والمعرفة والتكنولوجيا والتقنيات في كلِّ البيئات العربية وكلّ أقطارها وربط الأنظمة التربوية بهذا الهدف المركزي، وكذلك ربط تطوير البرامج التربوية بحاجيات التنمية الاقتصادية وتطوير قدرات كلّ من الإدراكات العامة والقطاع الخاص.
6- إعادة النظر بالنظام الضريبي لإجراء التعادل في معدلات الأرباح بين الاستثمار في القطاعات التي تتطلب العلم والتكنولوجيا، ولابدّ من تطويرها من جهة، والقطاعات التقليدية ذات الأرباح العالية دون جهد إنتاجي وابتكاري يذكر، من جهة أخرى.
في محاربة الفقر والبطالة:7- تحديث بنية الهيئات المحلية السياسية والإدارية والاقتصادية الطابع من أجل تحقيق التنمية المتوازنة، ومن أجل إرساء قواعد الديمقراطية انطلاقاً من القاعدة وليس كمنّة من الدولة المركزية. وأيضاً خلق الشعور بالمواطنة يتخطى خطوط وقيود الانتماءات المذهبية والطائفية والعشائرية والقبلية.
8- إنّ الوسائل التقليدية للمساعدات الاجتماعية التي يتم تقديمها إلى العائلات الأكثر فقراً مفيدة لتخفف وطأة الفقر المدقع فقط، فهي لا تحسّ بشكل ملموس نمط توزيع الدخل غير العادل، وهي لا تداوي معدلات البطالة العالية.
9- من الوسائل الفعالة لمحاربة الفقر وانعدام العدالة الاجتماعية تطوير وتطبيق إستراتيجية لتنمية متوازنة جغرافياً بين كلِّ المناطق في أي بلد كان، وذلك عبر دعم اللامركزية في نظام المالية العامة ضمن إطار قوي ومتماسك للدولة المركزية في مجال الإنفاق العام.
10- إنّ الطريق الصحيح للقضاء على الفقر هو تحقيق حالة تشغيل تؤمّن وظائف عمل محترمة إلى كلِّ مكونات السكان في عمر العمل.
11- حالة التشغيل الكامل لا يمكن تحقيقها إلا عبر تملُّك العلم والتكنولوجيات وتنوّع القطاعات الاقتصادية التي لها قيمة مضافة عالية في الصناعات والخدمات، كما تم إنجازه في دول جنوب شرق آسيا.
لو تم اعتماد مثل هذه السياسات العامة بشكل متواصل وضمن رؤية بديلة للسياسات الحالية الاقتصادية والاجتماعية فعندها لابدّ من أن تتحول تدريجياً الاقتصادات العربية من اقتصادات مبنية على الريع تدعم تركّز الثروات في أيادٍ قليلة وقريبة من رؤساء الدول ومراكز القرار في البيروقراطيات المحلية، إلى اقتصادات ذات قدرة تنافسية في الأسواق الدولية في إطار الإجمالية الاقتصادية العالمية (Globalized world) وذلك عبر تركيز كل الجهود على تنمية رأس المال البشري.
* باحث ووزير سابق للمالية في لبنانالمصدر: مجلة العربي/ العدد 660 لسنة 2013م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق