• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

البيئة بين إتقان الخالق وإفساد المخلوق

البيئة بين إتقان الخالق وإفساد المخلوق
◄خلق الله سبحانه وتعالى "البيئة" وأحكم صنعها بدقّة بالغة من حيث الكم والنوع والخصائص والوظيفة. يقول تعالى: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (النمل/ 88). فكل شيء عنده بمقدار معلوم بحسب علمه سبحانه وتعالى الذي يعلم وحده بأنّ كل عنصر من عناصر البيئة بهذا القدر وبهذه الصفات كما حدّدها الله سبحانه وتعالى ويكفل لهذه العناصر أن تؤدّي دورها المحدّد والمرسوم لها من قبل الخالق القدير، في المشاركة البنّاءة في مصفوفة ومنظومة إعالة الحياة في توافقية وإنسجامية غاية في الدّقة والتوازن مع بعضها البعض. يقول تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر/ 49)، (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (الفرقان/ 2)، (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد/ 8)، (وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (ق/ 7). وتشير كتب التفسير أن كلمة "قدره" تعني إيجاد كلّ شيء على قدر مخصوص وتقدير معيّن في ذاته وخصائصه، "والقدر" تحديد كل محدود بحدّه الذي يوجد به. هذا التقدير البالغ الدقّة الذي هو من صنع لدن حكيم خبير هو الذي يعطي لكل عنصر أو مكون من مكونات البيئة طبيعته الكمية والنوعية ووظيفته وعلاقته بالمكونات الأخرى، ومنهجه ودوره في الوجود، كما يعطي للبيئة ككل توازنها وقدراتها على إعالة الحياة، وهي المهمة الأساسية التي خلقت من أجلها البيئة. يقول تعالى: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ) (آل عمران/ 191). وليس أدل على الإتقان والدقة في خلق البيئة وتوازنها هو أن مكوناتها أو عنارها كلها مفيدة ومتوازنة مع بعضها البعض حسب ما قدّر لها الله سبحانه وتعالى طالما ظلّت هذه المكونات أو العناصر محتفظة بخصائصها الكمية والنوعية كما خلقت من دون تغيير جوهري يذكر. نعم إنّ الإنسان إذا ما تدخّل في البيئة سواء متعمداً أو جاهلاً وأحدث فيها تغييرات كبيرة سواء على مستوى الكم أو الخصائص يختلّ توازنها وتنقلب عناصرها من عناصر مفيدة إلى عناصر ضارّة مسببة للكثير من المخاطر التي تهدّد الحياة، ومن ثمّ تبدأ المشكلات البيئية، فبعد أن خلق الله تعالى البيئة وأتقن صنعها وصياغة عناصرها يأتي الإنسان ويحاول إفساد هذه المكونات والعناصر. فيجب على الإنسان أن يحافظ على إستمرارية بقاء مكونات البيئة وعناصرها كما خلقها الله سبحانه وتعالى لتؤدي دورها في خدمة البشرية دون مشكلات لا طاقة لنا بها، لنتفادى إنتقام البيئة التي لا ترحم إذا ما أساء الإنسان إستخدامها بالإسراف أو الإفساد أو التخريب. وبحسب رأي علماء البيئة فإنّ أهم المشكلات البيئية التي خلقها الإنسان نذكر: 1- مشكلة التلوث بكافة أشكاله وأنواعه، وما ينجم عنه من آثار في مختلف نواحي البيئة. 2- مشكلة التصحّر، والتي يعود بعضها إلى التلوث البيئي، وبعضها الآخر إلى ممارسات الإنسان الخاطئة والجائرة في بيئته. وهناك أمثلة ونماذج بعدد عناصر هذا الكون تصلح دليلاً وشاهداً على الإتقان الإلهي لعناصر البيئة الذي له إنعكاسات خطيرة على الحياة البشرية في حال إحداث خلل به، ومن هذه النماذج نذكر "الهواء" الذي هو أحد مكونات البيئة فنرى من خلاله دقّة الخلق وبديع الصنع. فالهواء يتكوّن من عدد كبير من الغازات، قدر كل منها تقديراً بالغ الدّقة إذ يشكّل غازي النيتروجين "الأزوت" (N2)، "والأكسجين" (O2) النسبة الأعظم (99% تقريباً) ويعتبر غاز "النتروجين" صاحب النصيب الأوفر من هذه النسبة حيث يخصّه (78,07%)، وهو غاز خامل لا يساعد على الإشتعال وغير قابل للذوبان في الماء. أمّا الأكسجين فيخصّه (20.95%) وهو غاز نشيط يساعد على الإشتعال وقابل للذوبان في الماء من أجل الأحياء المائية التي تعتمد في حياتها على الأكسجين المذاب في الماء، والذي يتجدّد من خلاله قدرة الماء على إمتصاصه واحتوائه. أمّا النسبة الباقية (1%) فيمثلها عدد كبير من الغازات منها غاز الأورجون (0.94%) وثاني أكسيد الكربون (0.30%) والهيدروجين (0.01%) إضافة إلى أوّل أكسيد الكربون، والثاني أكسيد الكبريت والهيليوم والميثان والأوزون والكربيتون والنيون والزينون وغيرها. ومن آيات الله سبحانه وتعالى أن نسبة غاز النتروجين العالية (78%) وهو الغاز الخامل غير المساعد على الإشتعال مقدّرة تقديراً دقيقاً من قبل الخالق العليم الخبير، إذ لو كانت نسبته أقل من هذه النسبة المقدّرة وحدث أن سقطت شرارة كهربائية من الفضاء الخارجي نحو الأرض (يحدث أحياناً) لإحترق كلّ شيء على سطح الأرض. إذ أنّ هذه النسبة هي التي تضبط وتقنّن طبيعة الأكسجين وهو الغاز القابل للإشتعال، حيث يتحوّل إلى غاز يساعد على الإشتعال ولكنه لا يشتعل حتى يظل الأكسجين مؤدياً لوظيفته في إعالة الحياة. (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) (الدخان/ 38). وإذا أخذنا مثلاً ثاني أكسيد الكربون الذي يشكل (0.03%) من حجم الهواء كما قدّره الله سبحانه وتعالى، والذي تدور من حوله في الوقت الحاضر المؤتمرات وتتعالى الصيحات من أخطاره، نجد أنّ هذا الغاز بهذه النسبة المقدّرة تقديراً دقيقاً يلعب دوراً مهماً جدّاً في إعالة الحياة على سطح الأرض. فالبيئة بهذه النسبة الضئيلة جدّاً من ثاني أكسيد الكربون المقدّرة تقديراً هادفاً إستطاعت أن تحتفظ في غلافها الجوي القريب من سطح الأرض حيث يتركّز معظم ثاني أكسيد الكربون (80%) بدرجة حرارة مناسبة تسمح بوجود الحياة على سطحها إذ يعتبر هذا الغاز بمثابة صوبة الأرض حيث أودع الله تعالى فيه خاصية إمتصاص الموجات الحرارية الأرضية (الأشعة تحت الحمراء) والإحتفاظ بها في الغلاف الجوي بما يعطي لهذا الغلاف هذه الدرجة المناسبة من الحرارة التي تسمح بوجود الحياة، ومعنى هذا أنّ الإخلال بنسبة هذا الغاز زيادة أو نقصاناً تعني في حدّ ذاتها زيادة أو نقصاناً في درجة حرارة الغلاف الجوي وما يحمل هذا الأمر من مخاطر كثيرة ويفسّر لنا هذا الوضع القلق الذي بات يسيطر على البشرية نتيجة الزيادة المطردة في نسبة ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي منذ الخمسينات من هذا القرن (زادت النسبة من 0.31% عام 1950 إلى 0.325 عام 1970 إلى 0.345% عام 1980) وما يصاحب هذه الزيادة من ارتفاع في درجة حرارة الغلاف الجوي. وتكمن خطورة هذا الأمر في إنصهار كميات كبيرة من الثلوج في مناطق القطبين والجبال وتحرك هذه المياه لتسهم في رفع منسوب مياه البحار والمحيطات واحتمالات تعرّض مدن ساحلية كثيرة للغرق، وتشير سجلات المد والجزر في مناطق كثيرة من العالم أنّ منسوب مياه البحار قد ارتفع بمقدار 45 مليمتراً في الفترة من 1890م – 1940م، وأخذ المنسوب في الارتفاع بمعدل 3 مليمترات سنوياً حتى عام 1970م، ثمّ إزداد المعدّل ليصل إلى زيادة 14 مليمتراً في الوقت الحاضر. وقد تبين للعلماء أن تزايد نسبة ثاني أكسيد الكربون لا ترجع فقط إلى تزايد إستهلاك مصادر الوقود الأحفوري (الفحم – النفط – الغاز الطبيعي)، وإنّما جاءت أيضاً نتيجة التدهور الذي أصاب الغطاء النباتي المستهلِك الرئيسي لثاني أكسيد الكربون. ولعل خطورة هذا الوضع هي التي دعت إلى عقد مؤتمر دولي في لندن في فبراير 1989م لمناقشة الإجراءات والوسائل الكفيلة بضبط إطلاق ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي وتنمية مصادر إستهلاكه (النباتات) لوقف هذه الزيادة المطردة ومحاولة العودة بنسبته كما قدّرها سبحانه وتعالى. ومن ثمّ لا نستطيع أن نتصوّر تركيبة الهواء على غير النِسَب التي قدّرها الله سبحانه وتعالى، إذ أن أي خلل في مكوناته تُحدث الكثير من المخاطر. يقول تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) (الأنبياء/ 16). فالبيئة خُلقت بإتقان مسخّرة لخدمة الإنسان، خلقها الله تعالى وذلّلها لخدمته واستخلفه فيها، فهي خُلقت له ومن أجله ومن رحمة الله تعالى أنّ هذه البيئة التي جهّزها الله سبحانه وتعالى بكل مقومات الحياة لتصبح بيتاً آمناً للإنسان وتفي بكل متطلباته المعيشية قد حفظها الله سبحانه وتعالى وحماها من مخاطر الإشعاعات الكونية والفضائية والشهب والنيازك التي تندفع من الفضاء الخارجي نحو الأرض. يقول تعالى: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ) (الأنبياء/ 32). فقد أثبتت الدراسات أنّ الغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض يضم مجموعة من الطبقات ولكل طبقة وظيفة تؤدّيها في إعالة الحياة وحمايتها وتعتبر طبقة "الأوزون" أحد الطبقات الحافظة والدرع الواقي للبيئة ضد مخاطر الأشعة البنفسجية الضارة التي لو وصلت إلى سطح الأرض بكامل قوّتها المنبعثة بها من الشمس لدمّرت كلّ مظاهر الحياة، ومن ثمّ تجلّت قدرة الخالق العليم في بناء هذه الطبقة التي تقع على إرتفع يزيد عن 12 كيلومتراً فوق سطح الأرض وأودع فيه كميات هائلة من غاز الأوزون الذي تتمثّل إحدى وظائفه في ضبط وتقنين وصول الأشعة البنفسجية إلى الأرض حيث لا تسمح إلا بمرور كميات محدّدة ومقدّرة من قبل الخالق العليم يراها بعلمه أنها مفيدة وضرورية للحياة.. فما ذكرناه لم يكن إلا نموذجاً على كيفية صناعة وإتقان وإيجاد واحدة من العناصر البيئية فكيف لو أردنا التحدّث عن سائر هذه العناصر لكنّا إحتجنا لمجلدات كثيرة ولعلّها لا تكون كافية فما هو المهم البحث عن كيفية حمايتها ومنع الإنسان من العبث بها، لأنّ الوظيفة التي خُلق من أجلها هي الحفاظ على البيئة لا تدميرها.   المصدر: كتاب الإسلام والبيئة (دراسة تسلط الضوء على موقف الإسلام وتشريعاته في مجال الحفاظ على البيئة)

ارسال التعليق

Top