• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

إجابة الله دعاء عباده

إجابة الله دعاء عباده

(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) (البقرة/ 186)، في قلق المعرفة وحيرة الفكر، انطلاقاً من عالم الغيب الذي لا يملكون السبيل إليه بطريقة حسية، ومن علوّ الألوهية وسموّها وارتفاعها في آفاق العظمة التي لا يدركون كُنهها وحقيقتها، ولا يعرفون الوسيلة التي ينطلق فيها الإنسان إلى ربّه، والعلاقة التي تربطه به في حاجاته التي يتطلّبها، وفي مشاعره التي يحسّ بها، وفي تطلّعاته التي يهفو إليها، ولا يدرون كيف يتحدّثون معه، ويصلون إليه، وهو البعيد عنهم بعد السماء عن الأرض في الغموض الكثيف الذي يلف السماء في مفهومها الطبيعي في أفكارهم؛ الأمر الذي يخيل إليهم أنّه لا مجال لأيّة صلةٍ بينهم وبينه، لأنّها تنطلق من مواقع القرب المكاني الذي لا دور له هنا، والمعنوي الذي لا مجال له بين العبد في حقارة موقعه وبين الربّ الذي هو في العلو الأعلى الذي ليس فوقه شيء.

ولكن الله، الذي يعلم عمق أسرار عباده، ودقّة أحاسيسهم، وضبابية الغيب في تصوّراتهم، وقلق المعرفة في دائرة الحيرة في علامات الاستفهام الكامنة في ذواتهم، أراد أن يستبق السؤال - في حال صدوره منهم - بالجواب عن السؤال المتحرك في وجدانهم الخفي. وهذا هو الفرق بين أسلوب السؤال هنا، وأسلوب السؤال في الأسئلة التي قدمها الناس إلى النبيّ (ص)، مما حدّثنا الله عنه بعنوان "يسألونك" لأنّ هذا السؤال كان في الأعماق، وفي همسات النفس، وهواجس الفكر بحيث يمثل علامة استفهام جنينيةٍ، فهو الحالة الشأنية في السؤال. بينما ما ورد في القرآن من أسئلة الناس كان يمثّل الفعلية التي تبحث عن معرفة كلّ ما يدور في الذهن، مما يجهله الناس ويتطلّبون معرفته.

(فَإِنِّي قَرِيبٌ) (البقرة/ 186)، لأنّي لست وجوداً محصوراً في المكان لتكون المسافات هي التي تفصلني عنهم، بل هو الوجود الكلّي في القدرة والإحاطة والشمول؛ فلا يغيب عنه شيء، فهو العالي في علوّه في الوقت الذي هو الداني في دنوّه، فلا شيء أقرب إلى عباده منه. (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق/ 16)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال/ 24).

إنّه الحاضر الذي لا يملك أحد معنى حضوره في وجود الإنسان لأنّه سرّ وجوده، ولهذا كان قربه إليه من خلال ارتباط ذاته به، فهو الذي يمنحها الوجود في كلّ آن من جهة فقره المطلق إليه.

وإذا كانت المسألة بهذا المستوى من معنى قرب الله إلى عبده، فإنّ على عباده أن يتعاملوا معه من موقع هذا القرب، ليتحدثوا معه حديث القريب إلى القريب، سرّاً وجهراً، في همسة الروح، وتمتمة الشفاه، وانفتاح القلب... ليجدوا فيه المعنى الروحي للقرب من عمق رحمته، ليتحسّسوا وجوده في وجودهم، فلا يشعروا بالانفصال عنه، وليعيشوا لهفة الفقر في غناه، وصرخة الحرمان إلى عطائه لتكون حاجاتهم بين يديه؛ فهو الذي يسمع من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين، ويسمع الأنين والشكوى، ويعلم السرّ وأخفى، ويسمع وساوس الصدور.

وهكذا خاطب الله كلّ واحد منهم بالأمل الحيّ، الأخضر، المنفتح على النتائج الإيجابية لكلّ طلباتهم، باعتبار أنّهم عباده الذين خلقهم، وأفاض عليهم من نِعَمه، وتكفّل بتدبّيرهم في حياتهم كلّها، وقرّبهم إليه (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة/ 186)، من كلّ عمق الإخلاص في قلبه، وصدق المسألة في لسانه، وحقيقة الإحساس بالفقر والحاجة في روحه، وخفقة الإحساس في شعوره، ورقة الدموع في عينيه، ورعشة الخشوع في كيانه... إنّه الدعاء الذي ينبع من وجود الذات في إنسانيتها المؤمنة بخالقها، المنفتحة عليه، المستغيثة به، المستجيرة بقدرته، الراجعة إليه في كلّ أمورها، من دون وسيط بل، هو العبد بين يدي ربّه...

وإذا عاش الإنسان هذا الروح الإلهي في الدعاء، كانت الإجابة قريبة منه لطفاً به ورحمة له. وقد يؤخّر الله الإجابة لمصلحته، لأنّ المسألة التي أرادها لم تتوفر عناصر وجودها في هذا الوقت من خلال الظروف الخاصّة أو العامّة، أو لم تكن له المصلحة في الإجابة الآن، وقد لا تتحقق الإجابة أصلاً لأنّ مضمون الدعاء لم يكن مرضياً عند الله لاشتماله على طلب حرام، أو ترك واجب، أو مضرة إنسان لا يستحق إيقاع الضرر به، أو لتعلّقه ببعض الأمور التي لا تتناسب مع حركة النظام الكوني أو الاجتماعي العام، ونحو ذلك... فإنّ مسألة الإجابة ليست مطلقة من خلال رغبة الإنسان ومزاجه، بل من خلال مصلحته، لأنّ الآية واردة - على الظاهر - في التدليل على استجابة الله لدعاء الداعي من حيث المبدأ، في مقابل عدم الاستجابة له مطلقاً، كما قد يحدث في بعض الناس الذين لا يستجيبون للطلبات المقدمة إليهم تكبّراً وترفّعاً وتجبّراً على الطالبين، لتبيّن بأنّ الله يستجيب للداعين دعاءهم من موقع قربه إليهم، وإلى ما يصلح أمرهم ويحقق لهم غاياتهم، مع عدم وجود مانع ذاتي في متعلق الدعاء للإنسان أو لغيره من الناس أو للحياة من حوله.

وقد ورد أنّ من شروط استجابة الدعاء الإقبال على الله بقلبه، بحيث ينفتح على الله بوعي الكلمة والموقف بين يديه، فلا يستجيب دعاء اللاهي الغافل الذي يتحوّل الدعاء عنده إلى كلمات لا عمق لها في القلب. فقد جاء في حديث الإمام جعفر الصادق (ع) عن سليمان بن عمرو قال: سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: "إنّ الله عزّوجلّ لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساهٍ، فإذا دعوت فاقبل بقلبك ثمّ استيقن الإجابة".

وجاء في بعض الأحاديث أنّ صاحب اللسان البذيء، والقلب العاتي الجبّار، والنية غير الصادقة، لا يستجاب دعاؤه. فقد روي عن الإمام جعفر الصادق (ع) قال: كان في بني إسرائيل رجل، فدعا الله أن يرزقه غلاماً ثلاث سنين. فلما رأى أنّ الله لا يجيبه قال: يا رب أبعيدٌ أنا منك فلا تسمعني، أم قريب أنت مني فلا تجيبني؟! قال: فأتاه آتٍ في منامه فقال: إنّك تدعو الله - عزّوجلّ - منذ ثلاث سنين بلسانٍ بذيء، وقلب عاتٍ غير تقي، ونية غير صادقة، فاقلع عن بذائك، وليتقِ الله قلبُك، ولتُحسن نيتك. فقال: ففعل الرجل ذلك، ثمّ دعا الله فولد له غلام.

ولعلّ لبذاءة اللسان أي ألفاظه، وقسوة القلب في أحاسيسه، دور في إبعاد الإنسان عن الله، بحيث لا يعيش روحية الدعاء في موقفه البعيد عن خطّ التقوى.

وفي وصية الإمام عليّ (ع) لولده الحسن (ع)، كما في نهج البلاغة قال: "ثمّ جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب رحمته، فلا يقنطنّك إبطاء إجابته، فإنّ العطية على قدر النية. وربما أخّرت عنك الإجابة، ليكون ذلك أعظم لأجر السائل وأجزل لعطاء الآمل، وربّما سألت الشيء فلا تؤتاه، وأوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً، أو صرف عنك لما هو خير لك؛ فلربّ أمرٍ قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك في ما يبقى لك جماله وينفى عنك وباله. فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له".

ففي هذه الفقرات من الوصية أنّ الله ينظر إلى قلب الداعي في حجم القضايا التي يحملها ويتطلّع إليها في أعماقه، مما قد لا يعبر اللفظ عنه، لأنّ اللفظ قد لا يدلّ على الآفاق الواسعة التي ينفتح عليها القلب، الأمر الذي يؤكّد أنّ الدعاء في القلب قبل أن يكون في اللسان، وبمقدار النية قبل أن تكون بمقدار المعنى المدلول عليه باللفظ، فتكون الاستجابة على قدر النية.

وفي هذه الوصية أنّ الاستجابة قد لا تكون في دائرة المطلوب لأنّها لا تحقق مصلحة للداعي، أو قد تسبب مفسدة له؛ ولكن الله لا يهمل للداعي تطلّعاته للخير من خلال ما اعتقده خيراً في دعائه، بل يختار له في مبدأ الاستجابة ما هو الأفضل والأوسع والأغنى في الدنيا أو في الآخرة. وهذا هو سرّ الرحمة الإلهية في رعاية الله لعبده الذي يمنحه الخير من خلال دعائه وتضرعه إليه، حتى لو كان الدعاء في اتّجاهٍ آخر، لأنّ المسألة هي أن يستجيب له في انفتاح الخير على حياته لا في مفردات الدعاء بذاتها.

(فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) (البقرة/ 186)، في كلّ نداءاتي ودعواتي وأوامري ونواهيّ... التي أردت لهم من خلالها الصلاح في دنياهم وأخراهم، لتكون حياتهم متوازنة منفتحة على الخير في كلّ أوضاعهم، ولنطلق آخرتهم في خط الاستقامة المنفتح على الله.

(فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) (البقرة/ 186)، وبربوبيتي الشاملة، وبتوحيدي في الألوهية والعبادة والطاعة، لأنّ ذلك هو الذي يؤكد الصلة بين العبد وربّه، ليعيش الحضور الإلهي في عقله وروحه وحياته، وليدرك معنى القرب الذي يوحي به الله إليه، ليكون قريباً إلى ربّه بالاستجابة له والإيمان به كما أنّ ربّه قريب إليه، وفي كلا الحالين تعود المنفعة له.

(لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186)، لأنّهم إذا استجابوا لله انطلقوا في خطّ الوعي للحياة في كلّ قضاياها العامّة والخاصّة، ولإنسانيتهم في كلّ خصائصها الداخلية والخارجية، وتحرّكوا نحو الأهداف من موقع الرشد العملي الذي يضع الأمور في مواضعها.

وإذا آمنوا به الإيمان العميق الشامل الذي ينطلق من سكينة العقل وطمأنينة الروح، فإنّه يقف على أرضٍ صلبة ثابتة بعيدة عن الاهتزاز، ويسير إلى الحياة من خلال انطلاق الوجود من مبدأ الإله الواحد الذي ينطلق الخير منه، ويقف الحقّ عنده، وتنطلق الرحمة منه، مما يعني الانطلاق في خطّ الرشد الفكري الذي ينفتح على الله الذي هو الحقّ، ليكون الفكر كلّه حقّاً له لا مجال للباطل معه.

وإذا كان اعتبار الرشد هدفاً من الاستجابة لله والإيمان به، فإنّ من الممكن أن نستوحي من ذلك أنّ الله - سبحانه - يوجه عباده إلى السير على خطّ الإيمان بالله، الذي يجعل العقل يشرق بالنور الإلهي، ليتأسس التوحيد على قاعدة للفكر تبتعد به عن كلّ الآلهة المزعومين، ممن يؤلّهون أنفسهم، أو يؤلّههم الناس من دون الله، ليستقيم لهم أن يوحدوا الخطّ العملي في خط الاستقامة؛ وإلى الاستجابة لله في خطوط الإسلام الفكرية والعملية، حيث يتحول الإنسان من خلال تأثير ذلك في الشخصية إلى إنسانٍ رشيد في عقله وفي حركته وعلاقته بالآخرين، بحيث يحرّك طاقاته في المواقع التي تمنح الحياة العامّة ما تحتاجه منها، فلا يضيع منها شيء في الفراغ أو في ما لا ينفع الحياة والناس، سواء كانت الطاقات طاقات الإنسان في داخل ذاته، أو في الزمن الذي جعله الله مسؤولية الإنسان في الانتفاع به في كلّ مفرداته الصغيرة والكبيرة، لأنّه يمثل عمره في مراحله المتعدّدة، أو في القوى المادّية التي يملكها الإنسان مما رزقه الله إياه وأعده له وسخّره لخدمة حياته، فلا يريد الله لها أن تضيع في متاهات اللهو والعبث الذي لا يؤدي إلى أيّة نتيجة في الحياة.

إنّ الرشد يمثل الحركة الإنسانية السائرة في النور، لتصل بالطاقة إلى أهدافها التي خلقت لها في النتائج الكبرى التي تتحقق من خلالها في الحياة والإنسان، ليكون السفه عبارة عن إهدار تلك الطاقة وتضييعها وإطلاقها في صحراء الفراغ.

 

المصدر: كتاب مِن وحي تفسير القرآن

ارسال التعليق

Top