• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العبادة غذاء للروح

العبادة غذاء للروح

الإنسان ليس هو هذا الغلاف المادّي الذي نحسّه ونراه، والذي يطلب حظه من طعام الأرض وشرابها. ولكن حقيقة الإنسان في ذلك الجوهر النفيس الذي به صار إنساناً مكرماً سيِّداً على ما فوق الأرض من كائنات. ذلك الجوهر هو الروح.. الذي يجد حياته وزكاته في مناجاة الله عزّوجلّ، وعبادة الله هي التي توفر لهذا الروح غذاءه ونماءه، وتمدّه بمدد يومي لا ينفد ولا يغيض.

ولئن تراكم على هذا الجوهر المعنوي الغفلة والغرور، وران عليه صدأ الجحود أو الشك، لقد تهبّ عواصف المحن فتزيح الغبار، أو تندلع نار الشدائد فتجلو الصدأ. وسرعان ما يعود الإنسان إلى ربّه فيدعوه ويتضرّع إليه. وهذه حقيقة ذكرها القرآن، وأيدتها وقائع الحياة:

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (يونس/ 22).

إنّ القلب الإنساني دائم الشعور بالحاجة إلى الله، وهو شعور أصيل صادق لا يملأ فراغه شيء في الوجود إلّا حسن الصلة بربّ الوجود، وهذا ما تقوم به العبادة إذا أديت على وجهها.

فالقلب فقير بالذات إلى الله من جهتين: من جهة العبادة.. ومن جهة الاستعانة والتوكل.. فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا ينعم ولا يسر، ولا يلتذ ولا يطيب، ولا يسكن ولا يطمئن، إلّا بعبادة ربّه وحده وحبّه والإنابة إليه. ولو حصل له كلّ ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربّه - بالفطرة - من حيث هو معبوده ومحبّوبه ومطلوبه. وبذلك يحصل له الفرح والسرور، واللذة والنِّعمة، والسكون والطمأنينة.

وهذا لا يحصل له إلّا بإعانة الله له؛ فإنّه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلّا الله، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة/ 5).

فإنّه لو أعين على حصول كلّ ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده ولم يحصل له عبادة لله، فلن يحصل إلّا على الألم والحسرة والعذاب، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها إلّا بإخلاص الحبّ لله بحيث يكون الله هو غاية مراده، ونهاية مقصوده، وهو المحبّوب له بالقصد الأوّل، وكلّ ما سواه إنّما يحبّه لأجله، لا يحبّ شيئاً لذاته إلّا الله.

وهكذا كلما أخلص المرء العبودية لله وجد نفسه، واهتدى إلى سرّ وجوده، ووجد مع ذلك سعادة روحية لا تدانيها سعادة.. تتمثل فيما سماه الرسول (ص): "حلاوة الإيمان".

وإنّ لهذه الحلاوة لطعماً لا يتذوّقه إلّا مَن عرف الله، وآثره على كلّ ما سواه.

قال ابن القيم: "إنّه لا شيء أحبّ إلى القلوب من خالقها وفاطرها، فهو إلاهها ومعبودها، ووليها ومولاها، وربّها ومدبّرها ورازقها ومميتها ومحييها، فمحبّته نعيم النفوس، وحياة الأرواح، وسرور النفوس؛ وقوت القلوب، ونور العقول، وقرة العيون، وعمارة الباطن".

فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيّبة، والعقول الزاكية، أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا أسر ولا أنعم من محبّته والأنس به والشوق إلى لقائه. والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه بذلك فوق كلّ حلاوة، والنعيم الذي يحصل له بذلك أتم من كلّ نعيم، واللذة التي تناله أعلى من كلّ لذة. كما أخبر بعض الواجدين عن حاله بقوله: إنّه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها: إنْ كان أهل الجنّة في مثل هذا إنّهم لفي عيش طيب.

وقال آخر: إنّه ليمرّ بالقلب أوقات يهتزّ فيها طرباً بأنسه بالله وحبّه له.

وقال آخر: مساكين أهل الغفلة! خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها فقيل له: وما هو؟ قال: محبّة الله والأنس به، ومثل هذا ما قاله الآخر: أطيب ما في الدنيا معرفته ومحبّته. وأطيب ما في الآخرة رؤيته وسماع كلامه بلا واسطة.

وقال آخر - من أهل معرفة الله وطاعته -: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف!

ووجدان هذه الأمور وذوقها هو بحسب قوّة المحبّة وضعفها، بحسب إدراك جمال المحبوب والقرب منه، وكلّما كانت المحبّة أكمل، وإدراك المحبوب أتم، والقرب منه أوفر، كانت الحلاوة واللذة والسرور والنعيم أقوى.

فمن كان بالله سبحانه وأسمائه وصفاته أعرف، وفيه أرغب، وله أحبّ، وإليه أقرب، وجد من هذه الحلاوة في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه، ولا يعرف إلّا بالذوق والوجد، ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدّم عليه حبّاً لغيره، ولا أنساً به. وكلّما ازداد له حبّاً إزداد له عبودية وذلاً، وخضوعاً ورقاً له، وحرّية عن رق غيره.

فالقلب لا يفلح ولا يصلح ولا ينعم ولا يبتهج ولا يلتذ ولا يطمئن ولا يسكن إلّا بعبادة ربّه وحبّه، والإنابة إليه، وكلّما تمكّنت محبّة الله من القلب، وقويت فيه أخرجت منه تألهه لما سواه وعبوديته له:

فأصبح حرّاً عزّة وصيانة **** على وجهه أنواره وضياؤه

وقال فخر الدين الرازي:

"اعلم أنّ مَن عرف فوائد العبادة طاب له الاشتغال بها، وثقل عليه الاشتغال بغيرها. وبيانه من وجوه:

الأوّل: أنّ الكمال محبوب بالذات، وأكمل أحوال الإنسان اشتغاله بعبادة الله، فإنّه يستنير قلبه بنور الإلهية، ويتشرّف لسانه بشرف الذكر والقراءة، وتتجمّل أعضاؤه بجمال خدمة الله، وهذه الأحوال أشرف المراتب الإنسانية، والدرجات البشرية. فإذا كان حصول هذه الأحوال أعظم السعادات الإنسانية في الحال، وهي موجبة أيضاً لأكمل السعادات في الزمان المستقبل، فمن وقف على هذه الأحوال، زال عنه ثقل الطاعات، وعظمت حلاوتها في قلبه.

الثاني: أنّ العبادة أمانة، بدليل قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ) (الأحزاب/ 72).

وأداء الأمانة صفة من صفات الكمال محبوبة بالذات. ولأنّ أداء الأمانة من أحد الجانبين سبب لأداء الأمانة من الجانب الثاني؛ قال بعض الصحابة: رأيت أعرابياً أتى باب المسجد فنزل عن ناقته وتركها ودخل المسجد، وصلّى بالسكينة والوقار ودعا بما شاء، فتعجبنا، فلما خرج لم يجد ناقته، فقال: أديت أمانتك فأين أمانتي؟! قال الراوي: فزدنا تعجباً! فلم يمكث حتى جاء رجل على ناقته.. وسلم الناقة إليه.

قال الرازي: والنكتة أنّه لما حفظ أمانة الله حفظ الله أمانته، وهو المراد من قوله الرسول (ص) لابن عباس: "احفظ الله... يحفظك..".

الثالث: أنّ الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى عالم السرور. ومن الاشتغال بالخلق إلى حضرة الحقّ، وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة. يحكى عن أبي حنيفة أنّ حيّة سقطت من السقف وتفرّق الناس، وكان أبو حنيفة في الصلاة ولم يشعر بها... ومن استبعد هذا فليقرأ قوله تعالى في قصة يوسف: (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) (يوسف/ 31). فإنّ النسوة لما غلب على قلوبهنّ جمال يوسف (ع)، وصلت تلك الغلبة إلى حيث قطعن أيديهنّ وما شعرن بذلك. فإذا جاز هذا في حقّ البشر فلأن يجوز عند استيلاء عظمة الله على القلب أولى. ولأنّ مَن دخل على ملك مهيب فربّما مرّ به أبواه وبنوه وهو ينظر إليهم ولا يعرفهم، لأنّ استيلاء هيبة ذلك تمنع القلب عن الشعور بهم. فإذا جاز هذا في حقّ ملك مخلوق، فلأن يجوز في حقّ خالق العالم أولى".

وبهذا نتبيّن أنّ الذي يذوق طعم الإيمان الحقّ، وتزهر في قلبه مصابيح اليقين، لا ينظر إلى العبادة على أنّها مجرد خضوع أو "تنفيذ أوامر" فحسب، إنّه يجد فيها تلذذاً بمناجاة الله وطاعته، والسعي في مرضاته، ويجد فيها سعادة لا تدانيها سعادة أصحاب القصور والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة. وقد كان النبيّ (ص) ينتظر فريضة الصلاة انتظار الظمآن اللهف إلى شربة الماء العذب الزلال، ويهرع إليها كما يهرع السائر في الصحراء إلى الواحة الخضراء. وكان يقول لبلال - في شوق ولهفة - إذا حان وقتها: "أرحنا بها يا بلال". وقالت عائشة: كان رسول الله (ص) يحدّثنا ونحدّثه، فإذا حضرت الصلاة، فكأنّه لا يعرفنا ولا نعرفه. فلا عجب أن يقول (ص): "جعلت قرة عيني في الصلاة".

إنّ المؤمن ليجد في عبادة ربّه في ساعة الشدة، سكينة لنفسه، وأنساً لوحشته، وانشراحاً لصدره، وتخفيفاً عن كاهله، كما قال الله تعالى لرسوله: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر/ 97-99)، فدلّه على العبادة إذا ضاق صدره بأقاويل المتقولين، وأكاذيب المفترين.

وفي ساعة المحنة والنِّعمة يتذوّق المؤمن حلاوة الشكر للمنعم، والحمد لذي الجلال والإكرام. وما أروع خطاب الله لنبيّه في مثل هذا الموقف: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) (سورة النصر)..

 

المصدر: كتاب العبادة في الإسلام

ارسال التعليق

Top