• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الصحافة العربية في عصر القنوات الفضائية

ياسر الفهد

الصحافة العربية في عصر القنوات الفضائية

بات من الضروري تزويد الصحافة بوسائل جديدة لإثارة اهتمام القارئ، حتى تصبح قادرة على مواجهة منافسة القنوات الفضائية التلفازية الحديثة.
تتعرض الكلمة المكتوبة، بما فيها من صحافة وكتب، في الوقت الحاضر، لمنافسة قوية متزايدة، من جانب التلفاز، ولا سيما بعد ظهور القنوات الفضائية التي تجعل العالم الفسيح في قبضة المشاهد، وتبقيه على صلة دائمة بأحدث التطورات السياسية والعلمية والثقافية في شتى بقاع الأرض.
ولكن هذا الوضع لم يستطع أن يحشر الدوريات والكتب في زاوية ضيقة.. صحيح أنّه قد أفقدها بعض زبائنها الذين سئموا من التركيز على الحرف الجامد، وباتوا يفضلون الاستمتاع السهل بالأخبار المصورة الطازجة، على شاشات التلفاز المثيرة، إلا أنّه تبقى للصحافة المكتوبة صورتها الرصينة، وألقها المنير ومزاياها الكثيرة التي تجعل من المستحيل الاستغناء عنها. ومن هذه المزايا أنّ الصحافة يمكنها تزويد القارىء بدراسات منهجية معمقة وبحوث أكاديمية، في حين يعتمد التلفاز بالدرجة الأولى على الأخبار السريعة الطازجة والمناظر المجسدة. أي أن للأولى دوراً ثقافياً رصيناً وجدياً، بينما يقوم الثاني بدور إعلامي آني وسطحي.. ومنها أيضاً أنّ القارىء يستطيع التحكم بالدورية أو الكتاب، واختيار المادة التي تروق لها منها، والرجوع إليها متى شاء. أمّا التلفاز، فإنّه هو الذي يتحكم بالمشاهد ويفرض عليه زمان المشاهدة ومادتها. إلا أن هذا يجب ألا يجعلنا ننام على حرير الاطمئنان والشعور الزائف بأنّ الكلمة المكتوبة محصنة، وأنها ستظل محتفظة بمكانتها التقليدية المرموقة، وبالتالي نقف مكتوفي الأيدي لا نحرك ساكناً إزاء ما يحدث، بل على العكس، فإن علينا أن نفعل شيئاً ما للإرتقاء بصحافتنا العربية، حتى تستطيع مواجهة ما تتعرض له من منافسة شديدة من قبل التلفاز والفيديو، وحتى من جانب الإذاعة التي يمكنها إيصال الخبر إلى أقصى بقاع الدنيا، بأسهل الطرق وأوفر التكاليف وأسرع وقت. وبتعبير آخر، فقد بات من واجبنا التحرك بسرعة من أجل تطوير دروياتنا العربية. وليس المقصود، هنا التطوير العام الشامل، وإنما التطوير الخاص المحدد الذي يرتقي بإمكانات الصحافة العربية ويجعلها على درجة من الجاذبية تستطيع معها إغراء زبائن الثقافة على الإقبال عليها، بدلاً من انصرافهم إلى الاستمتاع بالكلمة المسموعة والصورة المرئية. وبذلك نرفع من شأن صحافتنا، من جهة ونخدم قضية الثقافة من جهة أخرى. وبادىء ذي بدء، نود أن نشير إلى بعض المشكلات الرئيسية التي تعوق مسيرة الصحافة العربية، وتلجم تطورها وتجعلها في وضع ضعيف أمام منافسة وسائل الإعلام الأخرى الحديثة. وأولى هذه المشكلات معروفة، وقيل فيها ما لا يكاد يترك مزيداً لمستزيد.

- حرية الكلمة:
ونقصد بذلك عدم وجود درجة كافية من حرية الكلمة. فبينما تستطيع بعض القنوات الفضائية تزويد المشاهدين بشتى وجهات النظر ومختلف الآراء، في جو كامل من الحرية، فإنّ الصحافة العربية محكومة إلى حد بعيد بأحادية التوجه ولا يمكنها تجاوز هذه الأحادية باتجاه التعددية، إلا ضمن ضوابط محسوبة. وفي هذا المجال، لا يمكن عمل الكثير، لأنّ المسألة سياسية بالدرجة الأولى، أكثر منها ثقافية، ولأنّ الأمر مرتبط بالديمقراطية التي لا يمكن عزلها عن جوانب التقدم الأخرى. وهي مظهر من مظاهر الرقي والتحضر، بقدر ما يعد غيابها من دلائل التخلف والتقهقر. ومعنى هذا أنّ الوطن العربي، عندما يتطور ويرتقي، ستكون الديمقراطية محصلة حاصل. ولكننا نستطيع القول، في الوقت نفسه، إنّ الديمقراطية هي التي تساعد على إحراز التطور والرقي. وهنا نقف أمام إشكالية محيرة: فهل الديمقراطية هي التي تقود إلى التقدم، أم أنّ التقدم هو الذي يأتي بالديمقراطية؟ الحقيقة أنّ الأمرين واردان معاً. ولسنا هنا، بالطبع، بصدد مناقشة هذه المسألة، ولكننا أشرنا إليها في معرض حديثنا عن الصحافة الحرة. وعلى الرغم من أن دور الكتاب في تنشيط الديمقراطية محدود، فإنّ الكتابة باستمرار حول مزاياها – ولا سيما مزايا الديمقراطية المسؤولة غير السائبة – سوف يقنع أولي الشأن وأصحاب القرار، بالتدريج، ومع مرور الزمن، بضرورة إدخال المزيد منها. ولا شك أنّ الصحافة الحرة التي تعرض مختلف النظرات وتتسم بتعددية الاتجاهات، هي الأقدر على جلب القراء وإثارة اهتمامهم.
ونأتي الآن إلى المشكلة الثانية التي تترتب عليها محاذير جسيمة تزيد كثيراً عما يبدو للوهلة الأولى، وهي مشكلة الأخطاء المطبعية. فمن ناحية المضمون، كثيراً ما تؤدي هذه الأخطاء، إذا زادت عن الحد المعقول، إلى تغيير المعنى تغييراً كلياً، وأحياناً إلى تزويد القارىء بمعلومات ومعارف غير صحيحة. أما من ناحية الشكل، فإن لها تأثيراً سيئاً للغاية على القارىء. والحال هنا تشبه حال إنسان يرتدي بدلة رائعة مصنوعة من أجود الأقمشة. ولكن يوجد فيها ثقب ظاهر يشوه منظرها.
وبالإضافة إلى ضرورة حل المشكلات التي تواجه الدوريات العربية، هناك إجراءات وخطوات عديدة لا تقع تحت حصر، يمكن اللجوء إليها لتحسين صورة هذه الدوريات والارتقاء بأدائها وجعلها أكثر قدرة على استقطاب القراء وحثهم على ارتياد حديقة الكلمة المكتوبة والقطف من أزهارها الجميلة.

- إجراءات مهمة:
ومن بين هذه الإجراءات:
1- التجديد:
القارىء عادة يسأم من المجلة التي تسير على منوال تحريري واحد وسنة صحفية لا تتبدل. لذلك فإن تغيير الأبواب والزوايا، بين كل حين وآخر، يساعد على جذاب القراء. ولا شك أنّ التجديد ينبغي أن يشكل الشكل والمضمون في آن واحد.
2- الجدية والرصانة:
وهذا يعني الابتعاد عن الإثارات المفتعلة التي تحاول إغراء القارىء على الإقبال على دورية ما بعناوين مثيرة وأخاذة وبراقة لا تتناسب مع المضمون الضحل والغث.. وتتخذ الإثارة المصطنعة أحياناً شكل نشر معلومات غير صحيحة أو على الأقل غير دقيقة. وكثيراً ما يحدث هذا بشكل خاص في مجال الأدوية والطب. فكم من مرة قرأنا في مجلات طبية أو منوعة عن أدوية جديدة تقضي على السكري والجلطات والسرطان، ثم تبين أنّ هذه الأدوية لا وجود لها، وأنّ الآفات المذكورة مازالت تقض مضاجع الناس وتسومهم مر العذاب. خلاصة القول إن إثارة القارىء ضرورية، ولكن هذه الإثارة يجب أن تقوم على مضمون صحيح، وإلا كان لها تأثير عكسي.
3- صحة المعلومات ودقتها:
هناك دوريات تنشر معلومات غير موثوقة، بسبب عدم إخضاعها قبل نشرها للمراجعة من قبل المختصين. وتتخذ هذه المشكلة أبعاداً جديدة عندما يتعلق الأمر بالمجال العلمي أو الطبي أو السياسي، ولا سيما إذا حدث الخطأ في الأرقام أو الأسماء. وقد اعتاد كثير من الناس، عند سماع بعض الأخبار، على القول أنّ "هذا كلام جرايد".
وكأن ما ينشر في الصحف غير صحيح. والمقصود هناك بشكل خاص الصحف اليومية. ولابدّ بالطبع من العمل على تغيير هذا الانطباع لدى الناس والاهتمام بمصداقية المعلومات ودقتها. ويتأتى هذا بطرق عديدة مثل النشر للكتاب الموثوقين المعروفين في مجالات تخصصاتهم، والحصول على الأخبار من مصادرها الأصيلة بقدر الإمكان، ومراجعة المواد قبل نشرها والتأكد من صحة المعلومات التي تتضمنها.
4- الوضوح:
كثيراً ما يتم نشر مقالات تتضمن معلومات ومعاني غامضة ومعقدة، لا يستطيع القراء أن يستخلصوا منها أي مغزى. فبعض الكتاب يوردون مصطلحات وتعابير متخصصة يفترضون أنّ القراءة يعرفونها سلفاً. ومن جهة ثانية، فإن بعض الكتاب يكتبون بطريقة غير مفهومة، إما لأنّ الأفكار ليست ناضجة أصلاً في أذهانهم، أو لأنّهم يريدون التباهي والظهور بمظهر المثقف رفيع المستوى. ويسود الغموض بشكل خاص في المقالات المترجمة، نظراً لاضطرار المترجم للتقيد بمعان لا يمكنه نقلها بوضوح إلى القارىء.
5- الاعتماد على الأعمال الإبداعية:
نستطيع هنا أن نوزع الكتاب الذين يمارسون الكتابة إلى فئتين، تتمثلان بالكتاب المبدعين والكتاب غير المبدعين.
الفئة الأولى هي فئة الكتاب الذين يجاهدون الأفكار ويتصيدون الجمل ويقتلون الموضوعات بحثاً واستقصاء ودراسة، ويصلون آناء الليل بأطراف النهار، حتى يأتوا بأفكار ونتائج وأحكام جديدة مواكبة للأحداث والتطورات الجارية، ومستمدة من الأبحاث والتحليلات الخلاقة التي يتم فيها بذل جهود مضنية، وتستغرق أوقاتاً طويلة.
أما الفئة الثانية، فتتألف من الكتاب الذين ينشرون موضوعات تقليدية تعتمد جميعها على المراجع والكتب والمطبوعات المختلفة، دون أن تتضمن أي جوانب إبداعية أو تحليلية. وهؤلاء يشكلون نسبة كبيرة. وهم قادرون على إغراق السوق الصحفية بعشرات، بل مئات المقالات.
لذلك، فإن من واجب الصحافة العربية أن تركز على نشر المواد المتعلقة بالموضوعات الحديثة غير التقليدية وغير المكررة. ونحن هنا عندما وزعنا الكتاب على فئتين، لم نتعرض إلى فئة لصوص الكتابة الذين يسرقون أفكار الآخرين وينشرونها بأسمائهم، لأن هؤلاء ليسوا، أصلاً كتاباً، وعددهم قليل نسبياً.
6- الإكثار من المادة العلمية والطبية المترجمة:
من المعلوم أنّ الطب والعلوم المختلفة، يتطوران في الدول المتقدمة بسرعة كبيرة، حتى أن كثيراً من الدراسات العلمية والطبية العربية الموضوعية التي تنشر في تاريخ معين، تتقادم وتصبح غير صالحة بعد فترة من الزمن، لأن معلومات أخرى أحدث تكون قد ظهرت إلى الوجود وألقت الظلال على المعلومات القديمة.
لذلك، فإنّ من الضروري، تلافياً لهذا التقادم، الاهتمام بنشر الدراسات والنبذ العلمية المنقولة عن أحداث الدوريات الأجنبية الموثوقة. ولا ننسى أنّ القراء يهتمون اهتماماً كبيراً بمتابعة أحدث ما يستجد من التطورات العلمية والطبية المرتبطة بحياتهم اليومية.
7- تحسين الشكل والإكثار من الصور:
إنّ من أهم العوامل التي تدفع المشاهد إلى الإقبال على التلفاز وقنواته الفضائية، الصور والمناظر المحسوسة التي تقوم بدور التوضيح والتجسيد. وقياساً على ذلك، فإن تحسين شكل الدوريات والإكثار من الصور والرسومات والخطوط الملونة الجميلة فيها، من شأن أن يساعد على جذب القارىء والأخذ بمجامع قلبه.
وكلنا يعرف أنّ هناك مجلات كثيرة قيمة تنشر معلومات منهجية حساسة ومهمة. ومع ذلك، فإنّ عدداً محدوداً فقط من الدارسين، يجدون ميلاً لقراءتها، وذلك لافتقارها إلى الشكل الأخاذ والصور اللافتة للنظر. ولا شك أنّ الدوريات معنية بإرضاء الملايين من القراء العاديين، وليس فقط المئات من الباحثين والدارسين، مما يوجب عليها إيلاء شكل الدورية وطباعتها وألوانها وصورها وخطوطها، اهتماماً مناسباً.

8- مواكبة الأحداث:
إنّ القراء يهتمون عادة بمتابعة الأحداث الطازجة والمعلومات الجديدة المتعلقة بأحدث التطوُّرات، في حين أنهم كثيراً ما ينصرفون عن القضايا والشؤون التقليدية التي تجاوزها الزمن. وهذا يوجب على الصحافة العربية أن تعنى بالمنجزات والأمور المستجدة، وأن تهتم بالموضوعات المسايرة للزمن مثل الإنترنت والاستنساخ والجراحة بالتنظير وتطبيقات أشعة الليزر والهندسة الوراثية والنفايات والمعلوماتية والقضايا المستقبلية والسلام والديمقراطية والفضائيات وغيرها.

9- رصد المناسبات:
ويتبع مواكبة الأحداث، بالطبع، مسايرة المناسبات، أيضاً.
فهناك كثير من المناسبات، الثابتة والطارئة، العالمية والمحلية، التي يستحسن أن ترصدها الدوريات، وتنشر حولها المقالات والأخبار في الوقت المناسب فقد يتقلد زعيم ما زمام السلطة، أو قد توافي المنية زعيماً آخر أدى دوراً مهماً في حلبة السياسة الدولية، أو قد تختطف عالماً فذاً لا يشق له غبار أو أديباً كبيراً طبقت شهرته الآفاق. ففي مثل هذه المناسبات، يشعر القراء بالرغبة في الحصول على أكبر قدر من المعلومات حول بطل المناسبة.
وفي العادة، فإنّ الإذاعة والتلفاز، أكثر وسائل الإعلام قدرة على التغطية السريعة والفورية للمناسبات.

- الخلاصة:
وبعد، فإنّ تطوير صحافتنا العربية تطويراً مناسباً، في الشكل والمضمون، بالإضافة إلى أنّه كفيل بجذب المزيد من الزبائن إلى حلبة القراءة، بدلاً من انصرافهم عنها إلى مشاهدة التلفاز، فإنّه ينطوي أيضاً على خدمة لقضية الثقافة. إذ إن مشاهدة التلفاز مفيدة إعلامياً، ولكنها لا تزود المشاهد بالثقافة الحقيقية المعمقة مثل الدراسات والبحوث المنهجية، كما تفعل الدوريات. وفضلاً عن تحسين السياسات التحريرية، فإنّ أقصر طريق لتطوير الصحافة العربية أن تنفق الدولة بسخاء على المشروعات الصحفية، وأن تزيد الاعتمادات المالية المخصصة لها، ما وسعها ذلك، حتى يتمكن المسؤولون الصحفيون من التحرك في الاتجاهات الصحيحة الموصلة إلى إعادة الكلمة المكتوبة إلى مكانتها التقليدية العظيمة، وإلى تحصينها في وجه الإثارات الإعلامية للقنوات الفضائية التلفازية التي تأسر قلوب المشاهدين وتأخذ بمجامع قلوبهم، وتصرفهم إلى حد ما عن الاهتمام بوسائل الثقافة الجادة.

المصدر: مجلة العربي/ العدد 486 لسنة 1999م

تعليقات

  • سمية

    الله يعطيكم العافية أنتم تزودوننا بما نحتاجه دائماً إلى المزيد ان شاء الله

ارسال التعليق

Top