"إنّ الألم يقوّي الفرح الكبير ويغذّيه".
- الفرح الكبير:
كنا في أجواء العيد، والعيد مناسبة للفرح الذي يتخفف فيه الإنسان من آلامه وأحزانه ليعطي لنفسه إجازة من بعض الألم ومن بعض الحزن، لأنّ الحياة بكل أحداثها وتحدياتها وتطوراتها تخترق أمن الإنسان تارة وصحته أخرى وأوضاعه الاقتصادية ثالثة، وبذلك فإنّه لن يعيش الفرح الكبير، لأنّه حتى إذا فرح فإنّ فرحه يبقى مجرد فرح ممزوج بالألم حيث قد يضحك وقلبه يعتصر من البكاء وإحساسه يعيش في عمق الألم.
- استنطاق القرآن:
لذلك ربما كان من الضروري لنا كمسلمين أن نستنطق القرآن فيما يريده الله لنا من الفرح الكبير. فما هو الفرح الكبير الذي لا حزن فيه ولا يلتقي بالألم بل إنّ الألم يقوّيه ويغذّيه؟
لقد تحدّث القرآن الكريم في أكثر من آية عن مسألة الفرح الذي يعيشه الإنسان من دون عمق والذي يستغرق في داخله فلا يجد هناك امتداداً لمعناه في نفسه وفي حياته، وربما يفرح الإنسان ببعض الانحراف عن الخط، وربما يفرح بلذة عابرة، وربما يفرح بمكسب بسيط لا امتداد له ولا بقاء. لهذا فإنّ الله سبحانه وتعالى حدثنا عن هذا الفرح الذي لا عمق له وأراد للإنسان أن لا يعيش له ولم يحرّمه عليه، وحدثنا عن الفرح الذي هو الفرح الكبير ليضع الإنسان لنفسه القاعدة فيما يفرح ليكون فرحه الفرح الكبير، وليضع لنفسه القاعدة فيما يحزن ليكون حزنه الحزن الهادف.
فلنستنطق آيات الله، ففي آيات الله النور كل النور، وفي آيات الله المنهج كل المنهج (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا) (الشورى/ 48)، وقد تكون الرحمة نعمة طارئة، وقد تكون الرحمة ربحاً محدوداً، وقد تكون ظروفاً ملائمة للإنسان وقد يفرح الإنسان بآلام غيره من خلال عقدته، أو من خلال حسده، أو من خلال بعض الأوضاع القلقة التي تصيب الناس الآخرين. وهذا هو الذي يعيشه بعض الناس الذين يفقدون إحساسهم بإنسانيتهم، لأنّ الإنسانية – أيها الأحبة – لا يمكن أن تتجمد في ذاتك، فإذا كنت إنساناً مؤمناً فالإنسانية تتحرك في كلك، ولا يمكن أن تعيش إنسانيتك وتفرح لألم غيرك أو تسر بحزن غيرك، لأنّ الإنسانية هي أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك وأن تتحسس معناه فيما تريده من معناك.
- الفرح بمصائب الآخرين:
ولكن الله يحدثنا عن هؤلاء (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) (آل عمران/ 120)، وقد لا يقتصر هذا على المشركين الذين كانوا يفرحون بما يصيب المسلمين من آلام ونكبات ومصائب، بل إن ذلك يمتد في الجانب الشخصي، فإذا كانت هناك مشكلة بين شخص وآخر كان أحد الشخصين يفرح بما يصيب الآخر من مشاكل، وهكذا عندما تنشأ مشكلة بين عائلة وعائلة، فهذه العائلة تفرح بما يصيب العائلة الأخرى من خسائر وآلام ومشاكل.
وقد امتد ذلك إلى المذاهب الإسلامية، فكل أهل مذهب يفرحون بما يصيب أهل المذهب الآخر من نكبات ومشاكل وآلام وويلات. وقد امتد ذلك حتى إلى بعض فصائل الحركات الإسلامية في صراعها اللاإسلامي، عندما يفرح هذا الفصيل بما يصيب الفصيل الآخر حتى من الظالمين، لأنّهم يفكرون أنّهم الإسلام وحدهم وأنّ غيرهم لا يمثل من الإسلام شيئاً. بل وحتى على مستوى حياة المؤمنين الفردية عندما تعيش عندهم العقدة في جماعة مرجعية تختلف مع جماعة مرجعية أخرى وفي جماعة وجيه تختلف مع جماعة وجيه آخر، إنّهم يفرحون إذا أصابت أحدهم سيئة، ونحن نعرف أنّ ذلك ليس من الإسلام في شيء، إذ لا يمكن لمؤمنٍ أن يفرح بمصيبة مؤمن، ولا يمكن لمسلم أن يفرح بمصيبة مسلم، لأنّ الله أراد للمسلمين في توادهم وتراحمهم أن يكونوا "كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر" حتى إنّ رسول الله (ص) وهو نبينا وإمامنا وهادينا وقائدنا يقول لكل المسلمين "من لم يهتم بأمور المسلمين" – في أية جماعة وفي أية واقعة – "فليس بمسلم".
(وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) (آل عمران/ 120)، هذا هو خلق المشركين فمن كان خلقه هذا الخلق بحيث يفرح بما يصيب المسلمين لاختلافه عنهم في مذهب، أو اختلافه عنهم في حركة أو في مرجعية أو عائلية أو مناطقية أو عرقية أو في أي شيء آخر، فهو كالمشركين خلقاً وإن لم يكن كالمشركين عقيدة. وقيمة العقيدة – أيها الأحبة – أن تتحول إلى خلق يحكم فكرك فيكون فكر الحق الذي يحتضن أهل الحق، وحتى تحتضن العقيدة قلبك فتكون عاطفتك عاطفة الحق، وحتى تحتضن العقيدة حركتك فتكون حركتك حركة الحق.
- الفرح الشاغل عن المسؤولية:
ويحدثنا الله عن فرح الناس الذين يشغلهم الفرح عن النهايات وعن المسؤولية بحيث يجعلهم يعيشون الأمل الطويل فينسون الموت وينسون الآخرة (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً) (الأنعام/ 44)، ويقول سبحانه وتعالى: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) (يونس/ 22)، هذا الفرح الذي يشغل الإنسان عن التفكير في العواقب، والتفكير في النهايات، هذا الفرح الغبيّ، الفرح الذي يستغرق فيه الإنسان فيعيش في داخل لحظته من دون أن يفكر بالمستقبل الذي يمكن لو كان واعياً أن يأخذ احتياطاً له من خلال عِبَر الماضي، حيث يعلّمه الماضي في دروسه أنّ الكثير من الناس الذين فرحوا باللحظة جاءتهم الأحزان كالأمواج بعد هذه اللحظة.
ولذلك إذا جاءك الفرح فحاول أن تكون حذراً فقد يعقب الفرح حزن وألم. وإيحاء هذه الآية هو أن لا تستغرق في لحظتك، ولكن أن تعيش الحذر في مستقبلك وأن تدرس سنّة الله في الحياة على أساس ما قاله الله (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران/ 140)، (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الرعد/ 26)، كما لو كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف هذا الفرح الذي يجعل الحياة الدنيا كل شيء، فغناها هو الغنى ولذتها هي اللذة ومجدها هو المجد، هذا الفرح في الحياة الدنيا يطغي الإنسان فينسيه معنى الحياة الدنيا لأنّها تُعشي عينيه كما قال علي (ع) "من أبصر بها" – جعلها عيناً يبصر بها عمق الأشياء – "بصّرته ومن أبصر إليها – إلى كل زخارفها ومباهجها وأضوائها – "اعمته"، يقول تعالى: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ) (الرعد/ 26).
- الفرح بغير الحق:
وهكذا يحدثنا الله عن بعض الناس الذين فرحوا بغير الحق (ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (غافر/ 75)، كنتم تفرحون بالباطل وكنتم تفرحون بالكفر وكنتم تفرحون بالسير مع الاستكبار ومع الظالمين ومع الفاسقين. لقد كنتم كذلك فرأيتم النتائج المؤسفة، لأنّ من يفرح بالباطل لابدّ من أن يجني في نهاية المطاف كل نتائج الباطل فيما يتضمنه الباطل من عواقب سيئة.
وهكذا يحدثنا الله عن بعض الناس الذين لا يعيشون الحقيقة في أنفسهم (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ) (آل عمران/ 188)، الفرح الذي لا يستحقونه لأنّهم لم يفعلوا ما يؤكد ذلك، فلا تحسبنهم فرحين، لأنّ هذا الفرح ليس فرح الحقيقة وإنما هو فرح الوهم.
- فرح الأحزاب المتقطّعة:
وهكذا يحدّثنا الله تعالى عن الأحزاب وعن الجماعات التي تتقطع بحيث تكون حزباً واحداً من خلال قضية واحدة وخطاً واحداً، ثمّ تلعب الأهواء فيما بينهم فيتقطّعون قطعاً قطعاً (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (المؤمنون/ 53)، وتموت القضية ويبقى التحزّب، في حين يبدأ الحزب قضية ويبدأ الإسلام ديناً وتبدأ الأُمّة رسالة ثم تتقطع الأمور وينفذ الشيطان وتتحرك الأهواء وتنطلق الأطماع فتقطّعهم قطعاً قطعاً كما نعيش ذلك في حياتنا.
وهكذا نجد في مجال آخر (وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم/ 32)، ونجد كذلك بعض الناس الذين يعيشون بعض المشاكل ثمّ تزول عنهم (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) (هود/ 10).
- الفرح القاروني:
ويحدثنا الله عن (قارون) فيقول: (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ) (القصص/ 76)، وهو يعيش فرح البطر وفرح الاستكبار وفرح النشوة وفرح المال ويكاد فرحه يطغى على عقله وقلبه ليكون عقله حفنة من نقود، ولتكون عاطفته حفنة من نقود، ولتكون مشاريعه حفنة من نقود، ولتكون النقود كل فرحه (إذ قال له قومه) وهم المستضعفون ولكنهم كانوا من الواعين الذين عرفوا الله وعرفوا انّ الدنيا مهما امتدت فلابدّ أن تلتقي بالآخرة، وعرفوا أنّ قيمة الدنيا عند الله بمقدار ما تقدم للآخرة من حركة القيم التي تجسد أوامر الله في حياة الإنسان وتجسد رسالة الله في الواقع (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ) (القصص/ 76) – ولم يقصدوا انّ لا تفرح بأنّ السرور محرّم، ولكنهم قصدوا فرح البطر وفرح سكرة المال – (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (القصص/ 76)، الذين يستغرقهم الفرح فينسيهم الآخرة وينسيهم الله وينسيهم مسؤوليتهم (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ) (القصص/ 77)، بل اعتبر أنّها نعمة من نعم الله عليك، وأنّ مسؤوليتك أمام النعمة هي أن تسخّر النعمة فيما يرضي الله سبحانه وتعالى ولا تنسي نصيبك من الدنيا، فللجسد حاجاته وللعيال حاجاتهم وللمطامح حاجاتها (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (القصص/ 77)، فمالك أمانة عندك (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذاريات/ 19)، (وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/ 77). فلم ينتفع قارون بالموعظة وقال (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) (القصص/ 78)، على شطارتي، ونسي الله (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ) (القصص/ 81)، وانتهى كما انتهى الآخرون من قبله ومن بعده. هذا هو الفرح الذي لا يريد الله للإنسان أن يجعله كل غايته وكل طموحه.
- الزهد في الحياة:
وتتحرك آية أخرى في مستوى القاعدة في فهم الحياة وفي النظرة إليها وفي تأكيد معنى الزهد فيها: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (التحديد/ 23)، إنّها تقول لك: أيها الإنسان (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) (الحديد/ 22)، إنّ الله نظّم الحياة على منهج وبرنامج فيه الفرح فيما تنجح في نجاحاتك وفي انتصاراتك وفي كل أوضاعك الإيجابية.
وفيه الألم لخسائرك ولهزائمك ولفشلك. فللنجاحات أسبابها في عمق سنّة الله في الكون وسنة الله في الإنسان، وللخسائر أسبابها في عمق سنّة الله في الكون وسنّة الله في الإنسان، فما آتاك الله يأتيك بشكل طبيعي لتوفر أسبابه، وما لم يؤتك فإنّه لا يحصل لعدم توفر أسبابه، لأنّ الله جعل للحياة في كل ظواهرها الكونية وفي كل حركتها التأريخية وفي كل واقع الإنسان، جعل للحياة نظاماً، وجعل لكل ظاهرة كونية أو إنسانية سبباً، تماماً كما هو الليل والنهار، فهل نعيش فرح البطر الطاغي عندما يأتي النهار، وهل نعيش الحزن الساحق عندما يأتي الليل.
نحن نتقبل النهار بشكل طبيعي باعتبار أنّ هذه الظاهرة وجدت سببها في نظام الكون، وهكذا بالنسبة إلى الليل (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس/ 40)، وهكذا هي الحياة.. نظامك كإنسان هو نظام الحياة (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (الحديد/ 23)، تقبلوا الحياة في خسائرها وادرسوا أسباب الخسائر، فلا تسقطكم الخسائر، وتقبلوا السرور في أرباحها فلا يطغيكم السرور، بل ادرسوا أسبابه.
- منهج السرور والحزن:
وقد التقط علي (ع) وهو الذي يلتقط في عقله كل حقائق الحياة كما التقط كل حقائق الإسلام من رسول الله (ص) فقد علّق على هذا الموضوع بكلمتين، الكلمة الأولى: "الزهد كله بين كلمتين من القرآن العزيز قال الله سبحانه: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ)"، ليس الزهد أن لا تأكل جيِّداً ولا تلبس جيِّداً، ولكن أن لا يكون قلبك متعلقاً بشؤون الحياة بحيث تسقطك الخسارة ويطغيك الربح بحيث لو جاءتك الحياة لتقبلتها بشكل طبيعي بحسب برنامجها، ولو فقدتها تتقبل ذلك بشكل طبيعي، بل هو أن لا يكون قلبك مفعماً بالاستغراق في حب الحياة كما لو كانت الفرصة الأولى والأخيرة.
وقال في كلمة أخرى في رسالته لابن عباس "أما بعد فإنّ المرء ليفرح بالشيء الذي لم يكن ليفوته ويحزن على الشيء الذي لم يكن ليصيبه، فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذة أو شفاء غيظ ولكن إطفاء باطل أو إحياء حق" – ويرسم علي (ع) منهج السرور والحزن والهم – "وليكن سرورك" – هذا السرور الكبير الذي لا حزن معه – "وليكن سرورك بما قدمت" – (وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ) (المزمل/ 20)، وعلي (ع) تلميذ القرآن وشريكه – "وأسفك" – أن تأسف لا عن مال فقدته – "بل على ما خلّفت" – من فرص ومن سيئات – "وهمك فيما بعد الموت" ويعطينا الله الفرح الكبير (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس/ 58).
- الفرح الحقيقي:
فإذا أردت أن تفرح فافرح بفضل الله عليك، وافرح برحمة الله عليك، فإنّ ذلك يعني أنّ الله يحبك وأنّ الله يرضاك وأنّه يفتح أبواب رحمته عليك، وأنّه يحتضنك في مصيرك بكل حنانه وعطفه ولطفه واحتضانه. وهذا هو الفرح الكبير (هو خير مما يجمعون)، لأنّ الله قال: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا) (الكهف/ 46)، (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى) (سبأ/ 37)، لذلك فالله يقول: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
هذا هو الفرح الكبير، وقد جاء في القرآن وفي الحديث عن رضوان الله أمام كل نعيم الآخرة (ورضوان من الله أكبر)، وهكذا يحدّثنا الله سبحانه وتعالى (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (الرعد/ 36)، يفرحون الفرح الروحي والمعنوي بالوحي الإلهي الذي ينزل على النبي ليفتح لهم كل آفاق الله سبحانه وتعالى.
وهكذا يحدثنا الله عن هؤلاء الذين قتلوا في سبيل (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ...) (آل عمران/ 170-171)، وهكذا يحدثنا عن الذين يستمعون آيات الله (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (التوبة/ 124)، (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ) (التوبة/ 111).
فكل العلاقات هي مع الله، وكل السير هو في طريق الله، وكل حركة المسؤولية هي بين يدي الله، وكل الانفتاح هو على ما عند الله، وكل الطموح هو للحصول على رضوان الله، ويبقى القرب من الله هو الفرح الكبير.
- فرح العيد:
ولذلك اختصر علي (ع) فرح العيد في هذا الاتجاه بقوله "إنما هو عيد لمَن قَبِلَ الله صيامه وشكر قيامه" – لأنّ الله إذا قبل صيامه وقيامه فإنّ ذلك يجعله مرضياً عند الله، ويجعله قريباً عند الله، ويجعله فرحاً بما عند الله – "وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو يوم عيد". وعلى هذا نستطيع – أيها الأحبة – حتى لو كنّا في أشدّ حالات الألم قسوة، وحتى لو كنا في عمق المشاكل ألماً، وحتى لو حاصرتنا الحياة بكل ضغوطها وبكل تحدياتها وبكل مشاكلها، وكان الله راضياً عنّا، فتلك هي السعادة التي عاشها رسول الله (ص) ورجلاه تدميان من الحجارة رماه بها أوباش الطائف عندما زارهم هناك، وأذناه تستمعان إلى كل الكلمات غير المسؤولة من السباب والشتائم والاتهامات الباطلة، ولكنه كان فرح القلب "إن لم يكن منك غضب علي فلا أبالي"، هذا هو الفرح الكبير الذي عاشه رسول الله في كل حياته وكان هو الذي يمنحه القوة عندما يعيش مع الله ويرى ألطاف الله تفيض عليه وتهمي (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة/ 40)، وعاش السكينة من خلال ذلك. وهذا هو الفرح الروحي الكبير الذي عاشه أبو عبدالله الحسين (ع) عندما تلقّى بيديه دم طفله الرضيع وكان في قلب الألم الأبوي في عمق معناه يعيش امتداد الفرح الروحي في ذلك "هوّن ما نزل بي انّه بعين الله".
فليتك تحلو والحياة مريرة **** وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ **** وبيني وبين العالمين خرابُ
هذا هو الفرح كل الفرح، وعلينا أن نعيشه عقلاً وقلباً وحركة وحياة حتى نحصل على تلك الهمسة الروحية ونحن نودع هذه الحياة (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) (الفجر/ 27)، بكل حنان الله وبكل عطف الله وبكل رحمة الله، تعالى إليّ (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) (الفجر/ 28-29)، بأنك عشت العبودية كأعمق ما تكون وكأرحم ما تكون وكأقوى ما تكون (وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر/ 30)، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين/ 26).
المصدر: كتاب الندوة/ ج4
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق