• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

منزلة العلم في الخطاب الديني

منزلة العلم في الخطاب الديني

إنّ (حب العلم) تتضح في الخطاب الديني في حالتين نظرية وتطبيقية ... فأما النظرية فهي تتجلى في تراكم من الإشارات والترميزات الواضحة، على رأسها:
1 ـ تسفيه الجهل والجهلة... فمع أنّ الدين نطق بكرامة الإنسان بما هو إنسان في قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء/70)، حيث يظهر من ذلك تقديراً خاصاً لكل مَن يمتد نسبه إلى نبي الله آدم (ع)، بل تجاوز حد التكريم وأعطاه وساماً شرفياً عظيماً حين اعتبره خليفة لله سبحانه وتعالى على أرضه، حيث قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة/30)، وظاهر هذا القول العظيم شامل لكل إنسان، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد حيث التكريم والتوسيم التشريفي، وإنما تخطاه أيضاً إلى حد تسليمه فعلاً مهمة من أشرف المهمات، تمثلت في اختصاصه بحمل المسؤولية الدينية، كما جاء مقرراً في قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) (الأحزاب/72)، ولا شك في شملوها لمطلق الإنسان... فمع أنّ الدين أعطى الإنسان هذه المنزلة الرفيعة، ونظر إليه نظرة مثالية ارتفع بسببها على كافة المخلوقات، إلا أنّه قيد هذا الإطلاق بإعلانه تسقيط الإنسان إلى ما دون الحيوانات عند افتقاد الشروط الأساسية المكونة لإنسانية الإنسان. فحيث إنّ الإنسان تقوّم بعقله وتميز به على سائر المخلوقات، فلابد أن يكون لهذا العقل حركة يؤدي من خلالها دوره الحقيقي، فإذا انعدمت هذه الحركة انسلت مميزات الإنسان، وهذا الانسلال لا يخرج الإنسان فقط عن دائرة الإنسانية ويجعله في صف واحد مع سائر المخلوقات، وإنما يجعله أنزل منها مرتبة، لأنّه حاز ما لم تحزه (وهو العقل) فأهمله، بينما هي لم تملك القدرة العقلية فأصبحت معذورة. إنّ هذا الانسلال هو الجهل بذاته، وهو ما يخرج الإنسان عن إنسانيته، ويجعله دون الحيوانات شأناً.  يقوله تعالى: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا) (الفرقان/44).
اُنظر كيف أنّ الدين أنزل الجاهل الذي لا يسمع ولا يعقل ـ فعدم الاستماع وعدم التعقل هو الجهل بعينه لأنّ أبرز علامات الجهل توقف حركة العقل ـ إلى ما دون الحيوانات ... وفي ذلك تسفيه وتحقير شديد للجهل ولمن يتصف به.
هذه صورة تقع في سياق تسفيه الجهل، وهي تقتضي سحب المميزات الخاصة بالإنسان (الإنسانية-العقلائية)، وهناك صورة أخرى تزيد من حدة التسفيه، تمثلت في حرمان الجاهل من روح الحياة وذلك بتنزيله منزلة الميت، كما لوحظ ذلك في كلام للإمام علي (ع).
(الجهل موت).
(الجاهل ميت وإن كان حياً).
(الجاهل صخرة لا ينفجر ماؤها، وشجرة لا يخضر عودها، وأرض لا يظهر عشبها).
فإنزال الجاهل منزلة الميت إعدام لمكانته وتحقير لذاته، واعتباره شيئاً مؤذياً بين عامة الناس لابد من إقباره.
ثم تتوالى عبارات الإسقاط والتهميش للجاهل في الخطاب الديني...
يقول الإمام علي (ع):
(الجهل أدوء الداء).
(الجهل داء وعياء).
وإن كان في كل ذلك تسقيط للجاهل، فإنّ في الخطاب الديني ما قد يكون أشد وقعاً على الجاهل، وذلك حين صوّره على أنّه وباء اجتماعي ينبغي تجنبه... فقد تضافرت النصوص الداعية للهروب والإعراض عن الجهلة، جاء على رأسها قوله تعالى للنبي محمد (ص): (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف/199). ثم أعقبه نصيحة مهمة في هذا الشأن، صدرت من رسول الله (ص) لأمته: (أحكم الناس مَن فرّ من جهال الناس). وتبعها إرشاد آخر للإمام علي (ع): (صديق الجاهل معرض للعطب). ثم قول للإمام الرضا (ع): (يا صديق الجاهل في تعب). وآخر للإمام العسكري (ع): (صديق الجاهل تعب). وفي كل هذه الأقوال العظيمة دعوة صريحة لمقاطعة الاجتماعية مع الجهلة وكلنا يعلم ما للمقاطعة من أثر على نفسية الإنسان. هكذا نرى في الإشارة الأولى كيف أنّ الخطاب الديني وضع الجاهل موضعاً لا يحسد عليه، حيث سلبه إنسانيته واعتبره عديم الفائدة وأوصى بمقاطعته، وفي كل ذلك تسفيه شديد له.
2 ـ إكبار العلم والعلماء... ففي الوقت نفسه الذي حطّ الخطاب الديني من مكانة الجاهل وأسقطه إلى الحضيض، فإنّه رفع من مكانة العالم ووضعه في منزلة أقرب ما تكون إلى النبوة.
إنّ الخطاب الديني في هذا الشق من المسألة أثار أمراً بالغ الأهمية ذا أثر نفسي واجتماعي كبير، وذلك حين قرر عدم المساواة بين الشريحتين، شريحة العلماء وشريحة الجهلة في قوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر/9). (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة/11). (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) (الرعد/19).
فإعلان عدم المساواة بين العالم والجاهل فيه ما لا يخفى من الأثر، إذ إنّه على الصعيد النفسي يشعر الجاهل بالدونية، وفي ذلك تثوير له، حيث يخاطب علناً بأنّك أنت جاهل وشأنك دون شأن العالم. والشعور بالدونية ليس أمراً اعتباطياً عديم الأثر والضغط على الانسان، بل هو بالعكس تماماً، فضغطه شديد لأنّه يرتبط مباشرة بكرامته الذاتية ومكانته الاجتماعية.. ومن طبيعة الإنسان ـ أي إنسان ـ أنّه يحب ذاته ويريد لها الرفعة والتفوق على الغير، كما أنّ من طبيعته التطلع للحصول على مكانة اجتماعية حسنة في محيطه، فلا يكاد إنسان يخلو من هاتين الطبيعتين، ولهذا فإنّ عدم مساواته بغيره يعد ضغطاً خطيراً في حياته. كيف إذا كانت عدم التسوية بالغة جداً، حيث وضع واحد في الحضيض، بينما رفع الآخر إلى القمة... لا شك أنّ هذا الأمر بالغ الخطورة وشديد الأثر، وهو من المحفزات المهمة نحو العلم... ويمكن ملاحظة هذا الأثر بوضوح عند قوم طالوت، عندما أشكلوا على ترؤسه عليهم... يقول تعالى: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ...) (البقرة/247).  فالخطاب الديني بداية جعل العالم في قمة الهرم الاجتماعي، وفي ذلك لغة تثويرية كافية للإعراب عن تكريم العلم والعلماء لكن مع ذلك قد سبقت هذه اللغة تصويرات تأسيسية كانت هي الخلفية الحقيقية لاستخدام هذه اللغة القاضية بعدم التسوية. لقد ابتدأ الخطاب الديني في سياق تأسيسه لمكانة العلم والعلماء، بأن أعطى العالم شرف التعرف على الحقيقة الكبرى وهي التوحيد... فإنّ مجرد المعرفة والاطلاع على تلك الحقيقية التي هي أسس الدين شرف عظيم يمنّ به الخالق جل وعلا على عباده... وإنما يدرك هذا الأمر العارفون بالله سبحانه، حيث يرون بأنّ مجرد تأهيلهم لمعرفة وجوده ووحدانيته منّة تستحق الشكر، أما الجهلة والغافلون فإنّهم لا يدركون هذا المعنى أبداً، ولهذا عابت عليهم الآيات ذلك في قوله تعالى: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف/40). فمجرد الاستدلال على الله سبحانه، والتحقيق من وحدانيته أمر عظيم راجع لعظمة المستدل عليه جلت قدرته... وقد أشار إلى هذا الأمر إمامنا زين العابدين (ع) في دعائه المشهور بدعاء (أبو حمزة الثمالي) بقوله: (بك عرفتك وأنت دللتني عليك ودعوتني إليك ولولا أنت لم أدرِ ما أنت). وإنما كان الطريق إلى هذه المعرفة الجليلة هو العلم والعالم الذي يحمله، حيث يقول تعالى: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ... ) (سبأ/6). (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ...) (الحج/54). فهذا الأمر لوحده يعد من أكبر المدح التي وجهها الخطاب الديني للعلم والعلماء... ولقد أحسن وأجاد شيخنا الشهيد زين الدين العاملي في تقريره لهذا الأمر حين قال في سياق نصائحه للعلماء: (اعلم أنّ الله سبحانه وتعالى جعل العلم هو السبب الكلي لخلق هذا العالم العلوي والسفلي طراً وكفى بذلك جلالة وفخراً).
قال الله في محكم الكتاب تذكرة وتبصرة لأولي الألباب: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) (الطلاق/12). وكفى بهذه الآية دليلاً على شرف العلم لاسيما علم التوحيد الذي هو أساس كل علم ومدار كل معرفة. وجعل سبحانه العلم أعلى وأشرف وأول منّة امتنّ بها على ابن آدم بعد خلقه وإبرازه من ظلمة العدم إلى ضياء الوجود، فقال سبحانه في أول سورة أنزلها على نبيه محمد (ص): (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/1-5).
فتأمل كيف افتتح كتابه الكريم المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومَن من خلفه تنزيل من حكيم حميد، بنعمة الإيجاد، ثم أردفها بنعمة العلم، فلو كان ثمة منة أو توجد نعمة بعد الايجاد هي أعلى من العلم لما خصه الله تعالى بذلك.
هكذا ابتدأ الخطاب الديني تأسيسه لمكانة العلم والعلماء، ثم انطلق التصوير في هذا الخطاب ليبين لنا مكانة العلماء في السلّم الاجتماعي، فأعلن عن أنّ مكانته تقترب من مكانة النبوة، وأي مكانة أعظم من هذه المكانة الراقية... فقد قال رسول الله (ص): (أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد...). (فضل العالم على غيره كفضل النبي على أمته).
فمكانة العلم إذاً ليست بذات بعد عن مكانة النبوة، وهي بذلك تتعالى حتى على مكانة العباد والمتنسكين... فمن جهة، العلم أفضل من العبادة، بل قليل العلم يرجح وزناً الكثير من العبادة، كما قال رسول الله (ص): (قليل من العلم خير من كثير العبادة).
ومن جهة أخرى، العالم يفوق العابد مكانة ووزناً بالشيء الكثير... بيّن ذلك رسول الله (ص) في قوله: (إنّ فضل العالم على العابد كفضل الشمس على الكواكب...). وأكد ذلك الإمام الباقر (ع) بقوله: (عالم ينتفع بعلمه أفضل من عبادة سبعين ألف عابد). كل ذلك يزيد من شرف العلم ومكانة العلماء... لكن الخطاب الديني لا يتوقف عند هذا الحد ونما يواصل تسجيله للمدح والإطراءات في عرض مقارن بين العالم والجاهل فيلفت انتباهنا إلى حقيقة بالغة الأهمية فيها شيء من المقارنة بين الاثنين، بتأكيده على أنّ الجاهل إن كان وجوده وعدمه سواء لأنّه بمنزلة الميت ـ كما هو ـ فإنّ العالم يرزق الحياة الأبدية لأنّه يبقى علماً يستضاء به وإن مات.. إلى هذا أشار الإمام علي (ع) في قوله: (مات خزان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة). ثم بعد كل هذا العرض، تتواصل فصول الخطاب الديني مقررة مكانة لعلم، فتصل بنا إلى كلمة بليغة يلخص فيها قائلها (ع) المكانة الرفيعة للعلم، حيث يقول الإمام علي (ع): (لا شرف كالعلم).
فكل الفضائل والكرامات تتصاغر أمام المكانة العظيمة التي يحتلها العلم، والتي يضفيها بدوره على المتلبسين به. هذه هي إذاً إشارة أخرى يمكن أن نفهم من خلالها الصورة الفعلية للعلم في الخطاب الديني. وقبل أن أغلق باب هذه الإشارة، أحب أن أستعرض رواية مفصلة وردت بأسانيد عديدة، كلها تمتد إلى رسول الله (ص) ... وهي رواية رائعة تبين المكانة الحقيقية للعلم.
فقد نقل المجلسي في البحار هذه الرواية بثلاثة أسانيد أحدها عن (جماعة عن أبي المفضل، عن جعفر بن محمد بن جعفر الحسني رحمه الله، عن محمد بن علي بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال: حدثني الرضا علي بن موسى الرضا، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: طلب العلم فريضة على كل مسلم، فاطلبوا العلم من مظانه، واقتبسوه من أهله فإن تعليمه لله حسنة، وطلبه عبادة، والمذاكرة به تسبيح، والعمل به جهاد، وتعليمه مَن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة إلى الله تعالى لأنّه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل الجنة، والمؤنس في الوحشة، والصاحب في الغربة والوحدة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الإخلاء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة تقتبس آثارهم، ويهتدى بفعالهم، وينتهى إلى رأيهم وترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلاتها تبارك عليهم، يستغفر لهم كل رطب ويابس حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، إنّ العلم حياة القلوب من الجهل، وضياء الأبصار من الظلمة، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منازل الأخيار، ومجالس الأبرار، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، الذكر فيه يعد بالصيام، ومدارسته بالقيام، به يطاع الله ويعبد، وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام، العلم أمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء، فطوبى لمن لم يحرمه الله من حظه).
3 ـ ضرورة تصوير العلم على أنّه قنطرة سالكة للأحسن، وفي قباله الجهل طريق للأدنى ...
ففي النقطتين السابقتين كان العرض من قبل الخطاب الديني موضوعاً، أما في هذه النقطة فالعرض طريقي... إذ في السابقتين كان الحديث عن العلم بذاته، وأنّه بصفته موضوعاً كيف صوّره الدين، أما في هذه النقطة فالخطاب متوجه إلى مؤديات العلم، وقد بين فيها أنّ العلم طريق إلى كل خير وصلاح، بينما الجهل على العكس من ذلك فهو طريق إلى كل شر.
قال رسول الله (ص): (العلم رأس الخير كله، والجهل رأس الشر كله).
وقال الإمام علي (ع): (اكتسبوا العلم يكسبكم الحياة).
ولو نعود إلى القرآن الكريم، ونراجع آياته الواقعة ضمن هذا السياق، نلاحظ كيف أنّها تؤكد على أنّ أكبر الانحرافات في العقل البشري والسلوك الإنساني تعود في حقيقتها إلى عامل الجهل. فالجهل الذي كان شائعاً عند العديد من الأقوام والحضارات القديمة، بما فيهم مَن عاصر الرسول (ص) من كفار قريش وغيرهم، ذلك الجهل كان السبب الأساسي في حدوث الانحرافات العقلية كالكفر بالله سبحانه، وعدم الاقتناع بالرسل (ع)، وعدم التسليم للقيم الدينية... كما أنّه السبب أيضاً في تشوه السلوك والمعاملات الاجتماعية، فبسبب الجهل تحدث الجرائم والتحاسدات والاعتداءات والمظالم والتمزق الاجتماعي... ولأنّ الجهل هو السبب في حدوث هاتين الإشكاليتين، فإنّنا وبتوسط المفهوم نستدل على أنّ العلم هو السبب في هداية العقل البشري وسلامة الحياة الاجتماعية.
لنلاحظ كيف تبين الآيات سببية الجهل في انحراف العقل ... يقول تعالى: (قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (الأعراف/138).
(قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ *قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) (الأحقاف/22-23).
وهناك آيات كثيرة غيرها، بالذات في هذه المفردة (لا يعلمون)، كلها تقود الذهن إلى هذه الحقيقة... وأما الآيات التي تشير إلى سببية الجهل في تشوه المعاملات الاجتماعية فهي كثيرة، منها قوله تعالى: (قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ) (يوسف/89).
(أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (النمل/55). (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان/63).
هذه هي مؤديات الجهل العقلية والاجتماعية، أما العلم فهو على العكس من ذلك تماماً في لسان الدين، فمؤدياته استواء العقل والمجتمع... وقد تلخص كل ذلك في آية واحدة في القرآن الكريم، حيث قال تعالى: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) (مريم/43). فالهداية إلى الصراط السوي الذي يستوعب كل مناحي الحياة، إنما هي نتيجة طبيعية لتوفر عنصر العلم، وفي ذلك إشعار بأنّ الجهل لا يؤدي إلا إلى عكس ذلك تماماً (قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ). فهذه الإشارات الثلاث عندما نجمعها ونضمها إلى بعضها تتضح لنا صورة العلم في الخطاب الديني النظري...وأما الخطاب الديني التطبيقي، فتجلياته كثيرة جداً، ومع ذلك يمكن حصرها من خلال الاستقراء في أمور أربعة، سأرمز لها باختصار:
أول هذه التجليات يتمثل في إظهار الاحترام للعلماء والتنصيص عليه، كما في كلام الإمام علي (ع): (مَن وقّر عالماً فقد وقّر ربه).
وكذلك ما ورد عن الإمام الكاظم (ع): (عظم العالم لعلمه ودع منازعته...). ومثله ما روي عن أبيه الصادق (ع): (مَن أكرم فقيهاً مسلماً لقي الله يوم القيامة وهو عنه راض، ومَن أهان فقيهاً مسلماً لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان).
وقد ظهر هذا التعظيم على هيئة أفعال عند المعصومين (ع)، حيث إنّهم كانوا يبدون الاحترام والتقدير لهم أمام الناس، كما حصل مع هشام بن الحكم حسبما روي عندما دخل على الصادق (ع) ذات يوم وكان في حضرة الإمام عدد من الرجال الذين يكبرون هشاماً سناً، فبالغ الإمام في احترامه وأدناه منه.
فقد ورد في رواية مفصلة أنّ رجلاً من الشام من أهل الكلام دخل على الصادق (ع) وأراد مناظرة أصحابه، وكان عند الإمام (ع) جمع من أصحابه ثم جاء آخرون وليس فيهم هشام بن الحكم. وبينما الإمام كان جالساً بعد استقرار المجلس، تقول الرواية: فأخرج أبو عبدالله رأسه من فازته فإذا هو ببعير يخب، فقال: هشام ورب الكعبة، قال الراوي: فظننا أنّ هشاماً رجل من ولد عقيل كان شديد المحبة له.
قال: فورد هشام بن الحكم وهو أول ما اختطت لحيته، وليس فينا إلا مَن هو أكبر سناً منه، قال: فوسع له أبو عبدالله (ع) وقال: ناصرنا بقلبه ولسانه ويده... إلى آخر الرواية وفيها ثناء جميل على هشام ولطائف علمه.
وروي أيضاً في (أمالي المفيد) أنّ أحد الرواة قال يوماً للإمام الصادق (ع): (ما أكثر ما أسمع منك سيدي ذكر سلمان الفارسي؟ فقال (ع): لا تقل: سلمان الفارسي، ولكن قل: سلمان المحمدي. أتدري ما كثرة ذكري له؟ قلت: لا، قال: لثلاث خلال إحداها إيثاره هوى أمير المؤمنين (ع) على هوى نفسه، والثانية حبه للفقراء واختياره إياهم على أهل الثروة والعُدد، والثالثة حبه للعلم والعلماء).
وثانيها حث أبناء المجتمع للإقتراب من العلماء، وقد شاع هذا الأمر حتى أصبح سيرة في وسط المسلمين.
ولا يخفى على مَن لديه أدنى أنس بالروايات مستوى هذا الحث وكثرته، فقد تضافرت عليه الروايات المعصومية، ويكفينا منها ما رواه بعض الصحابة عن رسول الله (ص)، قال: جاء رجل من الأنصار إلى النبي (ص)، فقال: يا رسول الله إذا حضرت جنازة ومجلس عالم أيهما أحب إليك أن أشهد؟
فقال رسول الله (ص): إن كان للجنازة مَن يتبعها ويدفنها فإنّ حضور مجلس عالم أفضل من حضور ألف جنازة، ومن عيادة ألف مريض، ومن قيام ألف ليلة، ومن صيام ألف يوم، ومن ألف درهم يتصدق بها على المساكين، ومن ألف حجة سوى الفريضة، ومن ألف غزوة سوى الواجب تغزوها في سبيل الله بمالك ونفسك وأين تقع هذه المشاهد من مشهد عالم؟ أما علمت أنّ الله يطاع بالعلم ويعبد بالعلم؟ وخير الدنيا والآخرة مع العلم، وشر الدنيا والآخرة مع الجهل؟).
وثالثها التشجيع على طلب العلم بكل السبل، فقد دفع المعصومون (ع) عموم الناس إلى طلب العلم وحببوه إليهم، حتى قال رسول الله (ص): (مَن جاء أجله وهو يطلب العلم لقي الله تعالى ولم يكن بينه وبين النبيين إلا درجة النبوة).
كما ورد عن الإمام أبي جعفر الباقر (ع): (سارعوا في طلب العلم، فوالذي نفسي بيده لحديث واحد في حلال وحرام تأخذه من صادق، خير من الدنيا وما حملت من ذهب وفضة. وذلك أنّ الله يقول: (ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).
بل نقل أنّ الإمام علي (ع) كان يختص شيئاً من بيت مال المسلمين لتشجيع طلبة العلم الذين تفرغوا لتعلم القرآن الكريم. وأما رابع التجليات في هذا السياق، فهو الارتقاء بالعلماء إلى المناصب المهمة في الأمة دون سواهم... فهناك مواقع بارزة ومهمة جداً في الأمة اشترط في تسلمها توفر عنصر العلم... ويمكن ملاحظة ذلك في مواقع عديدة من بينها منصب القضاء حيث اشترط فيه العلم ولم يؤهل له إلا العلماء... فقد ورد في مشهورة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال: قال أبو عبدالله جعفر بن محمد الصادق (ع): (إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه). فالمدار في هذه الرواية يتركز في قوله (ع): (يعلم شيئاً من قضايانا)، وهي تعبير عن العلم المشترط في التأهل لمنصب القضاء. وكذلك مقبولة عمر بن حنظلة، قال: سألت أبا عبدالله (ع) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل ذلك؟ قال: مَن تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران مَن كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا كالراد على الله، وهو على حد الشرك بالله).
فقوله (ع) في هذه الرواية (فمن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا)، دليل على شرطية العلم في القضاء والحكم.
وكما هو حال القضاء، كذلك حال الإفتاء، حيث لا يسوغ لأحد مهما كانت مكانته ممارسة دور الإفتاء، ما لم يكن متمتعاً بقسط وافر من العلم.
وقد ورد في تأكيد ذلك العديد من الروايات، من بينها خبر سليم بن أبي حية، قال: كنت عند أبي عبدالله (ع) فلما أردت أن أفارقه ودعته وقلت: أحب أن تزودني، فقال: (إئت أبان بن تغلب فإنه قد سمع مني حديثاً كثيراً، فما روى لك فاروه عني).
وهكذا يقفز العلم ليصبح نقطة القوة التي بها يتأهل الانسان للتصدي للكثير من المواقع القيادية، كما يظهر ذلك في العديد من الروايات، من بينها ما ورد في كنزل العمال: بعث النبي (ص) وفداً إلى اليمن، فأمّر عليهم أميراً منهم وهو أصغرهم، فمكث أياماً لم يسر... فقال له رجل: يا رسول الله أتؤمّره علينا وهو أصغرنا؟ فذكر النبي (ص) قراءته القرآن. وقراءة القرآن في العصر الإسلامي الأول، خاصة على عهد رسول الله (ص)، كانت العلامة الأبرز على القدرة العلمية عند الإنسان. فبضم هذه التجليات الأربعة تتضح لنا الصورة الحقيقية للعلم ومكانته في الخطاب التطبيقي للدين...
ومن خلال تأملنا في الخطاب النظري والتطبيقي معاً، نجد أنّ الدين يدعو إلى (حب العلم)، إذ لا يمكن ترجمة كل المقدمات والإشارات الكبيرة الكثيرة الأهمية التي تم استعراضها في الخطابين، إلا بذلك فكلها يفهم منها الدعوة لحب وتقديس العلم.

المصدر: كتاب ثقافة النهضة

ارسال التعليق

Top