• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

إنّ الدين عند الله الإسلام

إنّ الدين عند الله الإسلام

إنّ الدين عند الله هو الإسلام الذي أُنزل على خاتم الرسل محمد (ص)، وأوحى به إليه لهداية الناس كافة. (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (الأعراف/ 158)، لأهديكم الطريق المستقيم، وآمركم بالمعروف وأنهاكم عن المنكر، وأجمع كلمتكم، وأربط بين قلوبكم، وأنشر التوحيد والعدالة والمساواة بينكم، حتى لا تعيشوا في نزاع دائم، وشقاق مستمر.
لقد تعدّدت الديانات في هذا العالم، وتنازع أتباع كل دين، مع أنّ الخالق واحد، والدين لديه واحد، والموحى به واحد، هو الله أحد، الله الصمد الذي نحتاج إليه في كل صغيرة وكبيرة، لم يلد، ولو يولد، ولا مثيل له. هذا الدين عند الله هو الإسلام.
قال جلّ شأنه، بعد أن أدى الرسول الكامل رسالته خير أداء: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) (المائدة/ 3).
وقال (ص): "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها، يتعجبون ويقولون: لولا موضع اللبنة!، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين".
وقد كان الإنسان قبل الإسلام مقيداً في آرائه وأفكاره، محاكياً آباءه وأجداده فيما يقولون وما يفعلون، وما يعبدون. فلما جاء الإسلام أيقظ العقل الإنساني من سباته، وحرره من التقيد بآراء أسلافه وعقائدهم، وتقاليدهم وعاداتهم، وشجعه على حرية الرأي والتفكير، وحثه على التعلم والتدبر. حتى يعرف أسرار الكون، وأسرار الطبيعة والمخلوقات وأرشده إلى طرق البحث والتعليم، وهداه إلى الطريق المستقيم، وجعله إنساناً حر الرأي والفكر، مستقل الإرادة، محاولاً أن ينتفع بما منحه الله من المواهب والنعم كالتفكير والوجدان والإرادة.
فالإسلام دين العقل والمنطق، دين الحرية في الرأي والتفكير. قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) (آل عمران/ 19)، وقال عزّ وجلّ: (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران/ 20)، وقال أصدق القائلين: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران/ 67).
لقد نادى الإسلام بالحرية، وقضى على الرق والعبودية، والتفرقة العنصرية.
لذلك فإنّ الإسلام يمنع الإكراه في الدين، وقد ورد في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة كثير من الآيات والأحاديث التي تنهى عن إكراه أحد على اعتناق الإسلام، وأن يكون الدخول في الدين برغبته وكامل حرِّيته، فمن أسلم في صدر الإسلام أسلم بعد الامتناع والإيمان وهو في قمة حرِّيته، ولا شك أنّ الإسلام قد أسس على المنطق والحجة، والبرهان والإقناع، لا على الإجبار والإكراه، قال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 256).
والمعنى: لا إكراه في الدين ولا إجبار؛ وإنما بكامل الرغبة والحرِّية؛ فقد تبين الرشد من الغي، أي قد تبين طريق الحق من طريق الضلال والفساد...
وقال عزّ من قائل: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ) (الشورى/ 48).
أي فإن أعرضوا عن الإيمان فما أرسلناك عليهم حفيظاً أي مراقباً ومهيمناً عليهم ترغمهم على الإيمان ما عليك إلا التبليغ، ومنه يتضح مدى إعطاء كامل الحرية في الدخول في الدين.
وقال جلّ شأنه: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف/ 29)، والمعنى: وقل يا محمد إنّ هذا القرآن الحق من عند الله ربكم، فمن أراد أن يؤمن بما فيه من أحكام وشرائع فليؤمن ومن أراد أن يكفر به فليكفر. فللإنسان الحرية المطلقة في الإيمان أو الكفر. وقد منحه الله عقلاً يفكر به، فليختر لنفسه ما يحلو له.
وقال عزّ وجلّ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس/ 99)، والمعنى: لو شاء الله لآمن الناس جميعاً، واعتنقوا دين الإسلام. فالإسلام لم يكره أحداً على اعتناقه.
وقال تعالى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) (ق/ 45).
والمعنى: نحن أعلم بما يقوله كفار قريش وغيرهم، وما أنت عليهم بجبار تجبرهم وتكرههم على الإيمان، فذكر بالقرآن المؤمنين الذين يخافون وعيدي وتهديدي بالعذاب.
مما سبق يتضح تماماً أنّ الإسلام لم يؤسس ولم ينشر بوسائل الإكراه والإجبار، ولكنه أسس ونشر بالمنطق والإقناع والدليل.

- الإيمان طمأنينة وانشراح قلب والإكراه ليس كذلك:
من الواقع أن نقول إنّ مبدأ عدم الإكراه في الدعوة إلى الإسلام هو أسمى وسيلة من وسائل هذه الدعوة وهو مبدأ ينبع من روح الرسالة وخصائصها.
والمكره على شيء قد يتصرف أمام الناس بما يفسر على أنّه قد امتثل ورضى دون أن يخالط قلبه الإيمان بما يؤدي من أعمال أو عبادات أو بما يقول من قول. وهذه حالة تتعارض مع هدف الإسلام من ربط القلوب بالله سبحانه وتعالى، وإسلام النفس والقلب والجوارح له، والعمل لا يكون مقبولاً عند الله ولا يستحق ثواباً إلا إذا كان خالصاً للعلي القدير صادراً بنية التقرب منه سبحانه وتعالى.
يقول (ص) في الحديث الصحيح:
"إنّما الأعمال بالنيات، وإنكما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه". (متفق عليه)
ولا شك أن كل وسيلة من شأنها صرف القلوب عن الحق أو إيغار الصدور أو إثارة الكراهية يرفضها الإسلام من أوّل الأمر.
وكما يحرص الإسلام على مظهر العبادة وشكلها العام الظاهر يحرص في الأصل على جانب المصلحة الأخروية المترتبة على العبادة والتي هي مناط الثواب والعقاب وتلك لا تتحقق إلّا بالنية الصادقة بين العبد وربه، وهي تتم بالتدريج وتسمو شيئاً فشيئاً بالتربية وحسن العلاقات بين المسلمين.
والمبادئ والعبادات الإسلامية لا يظهر لها تأثير حقيقي في حياة الإنسان إلا إذا اختمرت في قلبه على مهل ونزلت بالتدريج من أعالي النظر السطحي إلى عالم المشاعر المستقر.
والإكراه يتطلب قوة وسلطاناً في يد من يفرض هذا الإكراه وتكون الاستجابة إذن فيها شبهة الخوف من التبعات التي قد تترتب على المقاومة لتلك القوة أو ذلك السلطان، والتأثير الذي يستقر في نفس المكره المغلوب على أمره لا يمكن أن يساعد على بعث قلب متفتح للدين الجديد، أو تغييره عقيدة ما مهما كانت فاسدة.
وينعكس ذلك على سلوك الناس وتصرفاتهم، ويصبح الخوف من سلطان البشر لا من الله، وبذلكم ينعدم الوازع النفسي الذي هو لب العبادة وصريح الإيمان.
إنّ مبدأ عدم إكراه الناس على دخول الإسلام يشمل كذلك إكراه الناس بالقتال، بل إن هذا اللون من الإكراه لا علاقة له بالإسلام بتاتاً، وقد جاء جهل من جهلِ لخلطهم بين الدعوة إلى الله وبين رد الاعتداء.
فالقتال في الإسلام ردّ لاعتداء وقع على المسلمين، وإذا كان المسلمون قد بدأوا القتال في بعض المواقف وتحركوا نحو ديار عدوهم فقد كان ذلك بعد إيمان راسخ أنّ العدو قد قرر ضربهم وأعد العدة لهم، فمن حقهم ألا ينتظروا الهجوم عليهم، فإذا كان الأسلم لهم بدء الهجوم فليبدأوه لأنّ العدو لن يتوانى عن ضربهم في أي لحظة إذا هم قصروا في المبادأة، وهذا لن يخرج عن كونه ردّاً للاعتداء المتوقع.
وردّ الاعتداء هذا بكل صوره لا يمكن أن يُفهم على أنّه نوع من الإكراه على الدخول في الإسلام بل هو على العكس محاولة لعدم تمكين العدو من إكراه المسلم بالقتال على الفتنة.
وهذا معنى قوله تعالى في سورة البقرة: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (البقرة/ 193).
وقد فسر بعض المفسرين كلمة (فتنة) الواردة في الآية بمعنى الشرك ومعنى ذلك أنّ الآية الكريمة توجب قتال المشركين حتى لا يبقى مشرك ومشركون، ويسود الإسلام مهما كانوا مسالمين أو معاهدين، وهذا بعيد الاحتمال، فالفتنة المقصودة في الآية هي محاولة المشركين والكافرين صرف الناس عن دين الله بالقوة والقهر والسيف، ولذلك لابدّ من مواجهتهم بالقوة ردّاً لاعتدائهم على المسلمين، وخوفاً من صرفهم الناس عن دين الله، حتى إذا انتهوا عن معاندتهم ولزموا حدودهم فقد تمّ المراد، ولذلك فختام الآية السابقة هو قوله تعالى: (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة/ 193).
لأن تأديب المعتدين الظالمين الذين يحولون بالجبروت والقهر بين الناس وبين الله هو الذي يمنع الفتنة.
وفي تأويل كلمة (الفتنة) بالشرك تجوّز كبير، فقد وردت الآية في مواضع أخرى بالقرآن بمعنى إرغام الناس على الارتداد، ففي سورة البروج، الآية 10:
(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ).
وجاء في سورة النحل، الآية 110:
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).
وقال المفسرون في معناها:
إنّ هؤلاء المفتونين الذين تكلموا بكلمة الكفر مكرهين إذا صلحت أعمالهم وجاهدوا في الله وصبروا فإنّ الله لغفور رحيم بهم.
والآية مكملة لآية سابقة لها:
(مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل/ 106).
والآيات إذن في معرض توضيح مواقف مختلفة لقوم تعرضوا للفتنة فمنهم من كفر فعلاً وشرح بالكفر صدراً، ومنهم من قال كلمة الكفر وقلبه متعلق بالإيمان مطمئن به.
وكلمة (الفتنة) هنا لا تفيد إلا الإكراه على ترك الدين، ولا يمكن أبداً أن تؤول على أنها الشرك، لأن ذلك قد يفتح الباب لإقرار نوع بغيض من إكراه الناس على الإسلام وهو القتال حتى لا يبقى على الأرض مشرك، وأنّه لا حياة لمشرك في أي مكان في الأرض مع وجود الإسلام، وبذلك يرفع المسلمون السيف لنشر دعوتهم لا للدفاع عن العقيدة وردّ الاعتداء، ولكن للإكراه، وهذا لا يجوز أبداً، ومن هذا المفهوم الخاطئ خرجت الأفكار القائلة بأنّه مادام العالم الآن لا يقيم دولة الله في الأرض، ومادامت شريعة الله غير مطبقة، فالعالم كله جاهلي مشرك، ولابدّ أن تدخل الجماعات المؤمنة في حرب ضد هذا العالم المشرك، حتى ولو سالم المسلمين، وهذا تعنت واضح وحرج كبير أمام أي دولة إسلامية يقيمها أمثال هؤلاء المؤمنين بتلك التأويلات الغير سليمة، فعليهم في أوّل لحظة من لحظات قيام دولتهم أن يعلنوا الحرب على حوالي ثمانمائة مليون صيني بوذي، وثلاثمائة مليون شيوعي أو أكثر، وباقي الدول في أوروبا وأمريكا إذا لم يعتبروا أهلها أهل كتاب، ووضعوهم في زمرة المشركين، فما هذا بالله عليك! كما أنّه لا يجب أن يخفى على الأذهان أن آيات القتال لمنع الفتنة كآية البقرة هذه:
(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)، وآية سورة الأنفال: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال/ 39)، هي آيات مدنية نزلت بالمدينة بعد أن أصبح للإسلام دولة وبعد أن أذن للمؤمنين بالقتال في ظل نبي يمثل رئاسة هذه الدولة، ولكن هذا الأمر ليس متروكاً للأفراد أو للجماعات الصغيرة فلا يحق لإنسان أن يقاتل باسم الإسلام إلا في ظل الدولة وبأمر أميرها.
نعم هناك حالات قد يضطر فيها المؤمن إلى الدفاع عن دينه وعن نفسه، ولكنه لا يبدأ بالاعتداء، ولا يتعمد استثارة عدوه ولا يفتعل معركة. وهو حين يدافع عن نفسه كفرد في مواقف تهدد فيها حياته ملتزم بأوامر الله، فلا يغدر ولا يقتل حقداً ولا ضغينة ولا حباً في القتال.
والدولة في الإسلام مهمتها الأساسية الدعوة إلى الله بوسائل الدعوة المشروعة، وليست السيادة العسكرية والتغلب، إلا مرحلة من مراحل الدفاع لتحطيم العقبات أمام الخير، ولكسر الحواجز التي تحول بين القلوب وبين نور الله، ولذلك يقول جلّ شأنه في (الآية 41 من سورة الحج):
(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ) (الحج/ 41).
إنّ الله يمكنهم في الأرض ليرتفع صوت المعروف، فإذا كانوا قد رفعوا السيف اعتداء فأي معروف ينشدون وأي منكر يدفعون؟.
وبالرجوع إلى آية البقرة وآية الأنفال في الأمر للدولة الإسلامية بالقتال لرد الفتنة نجد أن سياق الآيات قد وضع كثيراً من الضوابط التي تجعل هذا القتال مشروطاً بشروط خاصة لا تخرج به عن أهداف الإسلام الكبرى في السلام والسماحة.
فقبل آية القتال لرد الفتنة في سورة البقرة هذه الآيات البينات من 190-193:
(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ).
أنظر كيف تخللت آيات الأمر بالقتال تلك التحفظات الواضحة الدلالة على أنّ القتال ليس هو الأصل وأنّه شيء اضطراري تحت وطأة إصرار العدو على القتال والاعتداء، وصرف الناس بالقوة عن الدين وأنّه في مراحل هذا القتال لا تنسى الدولة مهمتها الأصلية في السلام والعدل.
(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ).
هذا هو التحفظ الأول. لا تقاتلوا إلا من يبدأونكم، والذين يقاتلونكم فعلاً، فلا تقتل امرأة ولا طفلاً ولا شيخاً، ولا يتعرض الجيش المسلم لقوم عكفوا إلى الصوامع وبيوت العبادة، ولا لمدنيين لم يرفعوا السلاح.
وهؤلاء الذين يفكرون في احتجاز رهائن عزل من السلاح لفرض مطالبهم كيف تسول لهم نفوسهم أنهم بذلك يخدمون الإسلام أو يرفعون لواء الدعوة إلى الله؟.
إنّ احتجاز الرهائن الأبرياء تحت تهديد القوة، أو أسر مواطن مسالم أو التهديد بقتل إنسان لم يقاتل أو يشترك في قتال، كلها أمور دخيلة على روح الإسلام، بل هي أقرب في روحها إلى وسائل الإرهاب الذي لا يقره الإسلام.
اللّهمّ إلا إذا كان العدو ينتهك الحرمات ويعتدى على الأبرياء وليس من سبيل لردعه إلا طرق كل السبل حتى يتنبه إلى خطورة ما يفعل كما هو حال العدو الصهيوني المحتل مع المقاتلين الفلسطينيين فقد انتهكت إسرائيل كل الحرمات وأهلكت الحرث والنسل وهدمت البيوت واقتلعت الزروع، بأسلحة فتاكة حديثة ومعدات متكاملة أمام شعب أعزل إلا من قوة الإيمان والإصرار على تطهير البلاد من هذا العدو البغيض.
أما التحفظ الثاني فواضح كل الوضوح.
(وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة/ 190).
ثم تبين الآيات أنّ المبدأ كان مبدأ المعاملة بالمثل... فالمشركون والكفار الذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وأموالهم ولم يكتفوا بذلك بل تعقبوهم إلى دار هجرتهم الجديدة يؤلبون عليهم الأعداء يعاملون الآن بالمثل:
(وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ).
وهذا تحفظ رابع:
(وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ).
إنّ جيوش الدولة المسلمة تتحرك إلى أرض العدو فإن طلب السلام أجيب إلى طلبه، وإن أصر على القتال قوتل، وقد تحرك رسول الله (ص) إلى مكة بجيش يتفجر حماساً وإيماناً لو طلب منهم أن يزيلوا الجبال لأزالوها، فخرجت قريش تطلب السلام والصلح فأجيبت إلى طلبها، ووقع النبي (ص) معهم صلح الحديبية المشهور في الوقت الذي رأى فيه المسلمون الفرصة سانحة لرد الصاع صاعين إلى قريش الباغية العاتية.
وهذا تحفظ آخر:
(فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
ومعنى فإن انتهوا: أي طلبوا السلام وكفوا عن إيذاء المؤمنين ومحاولة فتنتهم فلهم المغفرة والرحمة.
المغفرة إن دفعهم موقف المسلمين المتسامح إلى الدخول في دين الله، والرحمة إن جنحوا للسلم فحقن المؤمنون دماءهم بعد أن ظفرهم الله على عدوهم.
ثمّ تأتي آية القتال لرد الفتنة:
(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) ولكنها تتبع بالعدل والإنصاف.
(فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ).
تلك هي آية البقرة التي أساء تأويلها واتخذها البعض دليلاً على أنّ المؤمن من حقه أن ينقض على غير المعتنقين لدينه لأن مجرد وجودهم فتنة، والفتنة كما زعموا هي عدم الإيمان بالإسلام، فيجب أن تتحرك الجماعات المؤمنة في تنظيم حركي لا يهادن ولا يسالم، مهمته ضرب الشرك في أي مكان على الأرض، فانظر كيف لووا بأعناق الآيات وتعسفوا في فهمها وأولوها لتناسب رأيهم ولتتفق مع هواهم...
(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) (القصص/ 50).
أمّا آية سورة الأنفال فقد وردت بعد سياق طويل وضح فيه أن مطالبة الدولة المسلمة بأن تهب لرد الفتنة كان بعد مرحلة طويلة من اعتداء العدو وفكره ومؤامراته وسخريته بالدين، وصدهم الناس عن المسجد الحرام بعد أن فرضوا أولياء عليه، وبعد أن أقيمت شعائر الكفر حول البيت الحرام بالصفير والتصفيق.
والمؤمنون في المدينة وقد قامت لهم دولة، وأصبح لهم جيش قادر على ردّ الاعتداء يتجهون إلى المسجد الحرام في صلاتهم وهم يعلمون أن عدواً غادراً قد صد الناس عنه، وأقام فيه شعائر الكفر والفسوق والعصيان. بل تجرأ على السخرية بدين الله وتحقير المؤمنين: في (الآية 11 من سورة الأنفال):
(وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (الأنفال/ 32).
لقد تآمروا على رجل دعاهم إلى الله، وتحمل في سبيل الله سخريتهم وإيذاءهم، ووضعوا الخطة لقتله أو أسره أو طرده من بيته وبلده.
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال/ 30).
ولما هاجر (ص) واصلوا إعداد العدة وإنفاق المال استعداداً لمعركة أخرى تضرب فيها الدولة الجديدة في عقر دارها.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) (الأنفال/ 36).
وليس من فضل الكلام أو الاسترسال فيه أن نؤكد الحقائق التالية:
أوّلاً: أنّ القتال أو العنف ليس وسيلة من وسائل الدعوة إلى الإسلام.
ثانياً: أنّ القتال لمنع الفتنة يكون بعد مرحلة تكوين الدولة الإسلامية، ويكون القتال بأمر قائد هذه الدولة، وبعد أن يرى أنّه لا سبيل للدفاع عن كيان الدولة إلا ببعث الجيوش.
ثالثاً: أنّ هذا الأمر بالقتال تحكمه ضوابط وتحفظات لا مناص من اعتبارها للحفاظ على قيم الإسلام كلها، وتأكيد أن هدفه الأسمى ليس القتال بل السلام والسماحة.
رابعاً: أنّ هذا القتال أمر مؤقت، فالسيوف تعود إلى أغمادها فوراً إذا انتهى العدو وكف عن عدوانه، وأنّه يجاب إلى الصلح إنّ طلب ذلك، وعلى رئيس الدولة المسلمة ألا يتردد في حقن الدماء فهو رسول إلى الخير وليس سبيلاً إلى الخراب والدمار.

- مبدأ عدم الإكراه في الدعوة مبدأ ثابت في كل مراحلها:
ربما قيل إن مبدأ عدم الإكراه هذا لم يكن قدر تقرر إلا في العهد المكي حين كان المسلمون قلة مستضعفة، وأنّه بعد نزول الإذن بالقتال كان لابدّ للمسلمين أن ألا يقبلوا وجود الشرك أو الكفر في أي مكان، مسالماً كان أو غير مسالم.
ولكن الملاحظ في القرآن الكريم أنّه قد قرر عدم الإكراه في الدين في مختلف أدوار التنزيل المكي والمدني عدة مرات، وبأساليب متنوعة، وأن أسلوب الدعوة إلى الله في الآيات المكية لا يختلف عنه في الآيات المدنية.
أي أنّ الانتقال من مكة إلى المدينة وإقامة الدولة لم يستتبعه تغيير في نظام الدعوة ووسائلها، وهذا واضح من معاني الآيات في القرآن الكريم.
ففي سورة يونس المكية يقول الله سبحانه وتعالى:
(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (يونس/ 41).
وفي سورة الكهف:
(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف/ 29).
وفي سورة الأنبياء:
(قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ * إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ * وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (الأنبياء/ 108-112).
وفي سورة النمل:
(إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (النمل/ 90-92).
ففي الأمثلة الأربعة السابقة من آيات القرآن المكي ما يدل على أن أسلوب الحوار مع الكافرين والمشركين كان أسلوباً هادئاً خالياً من الانفعال وأنّ الله هو الذي أمر رسوله بالتبليغ.
(قُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) (يونس/ 41)، (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) (الكهف/ 29)، (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ)، وهكذا.
فلابدّ للمسلم أن يبلغ رسالة الله، وأن يقول الحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، عليه أن يؤدي واجبه في النصح وألا يقصر في التبليغ، ولكن ليس عليه أن يستجيب الناس مادام يستفرغ جهده في التوجيه على قدر طاقته.
(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية/ 21-22).
أمّا في القرآن المدني فقد ظل ذلك المبدأ يتردد حتى آخر سورة نزلت بالمدينة بنفس الأسلوب الهادئ الخالي من الانفعال. أسلوب المؤمن الواثق من سلامة عقيدته، ومن قوة تأثيرها في النفوس لو أفسح المجال للتلقي وهو لذلك حريص على ألا يجعل بينه وبين المستمع شيئاً يوغر صدره، أو يحول بينه وبين الاستجابة.
ففي (سورة البقرة الآية 256) هذا القرار الرباني الحاسم:
(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة... أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنّه دين واضح جلى في دلائه وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحداً على الدخول فيه، بل من هداه الله إلى الإسلام وشرح صدره، ونوّر بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنّه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً.
وقال صاحب تفسير الكشاف: "أي لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار، ولكن على التمكن والاختيار، واستشهد بقول الله تعالى: (لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس/ 99).
أي أنّ الله – سبحانه وتعالى – لو شاء لأرغم الناس على الإيمان، ولكنه سبحانه وتعالى لم يفعل وبنى الأمر على الاختيار.

المصدر: الإسلام دين الحرية

ارسال التعليق

Top