◄نرى جميع ما حولنا من حيوان ونبات وجماد في غاية الكمال. أي انّ العالم المادي بما أودع الله تعالى فيه من دساتير دقيقة وخواص متعددة وقابليات خطيرة قد بلغ الغاية من الكمال. وأنّ أجزاءه مرتبطة بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً بدساتير رياضية رصينة، مما يدل على أنّ الكمال قد بلغ منتاه فقد جاء في القرآن الكريم: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) (الملك/ 3-4).
وانّ العلم الحاضر لم يكتشفه عشر معشار ما أودعه الله تعالى من قوانين وخواص في هذا الكون المادي. وانما قلت: (الكون المادي)، ذلك لأنّ العلم الحاضر علم مادي بجميع شراشره. لا يعمل إلا في المادة ولا يقف إلا على جزء ضئيل مما أودع الله تعالى من خواص ومعادلات لقوانين تربط عوالم المادة بعضها ببعض.
على أنّ ما ظفر به المتتبعون والمجربون (بفضل الله تعالى) من بعض الدساتير والخواص المودعة في هذا الكون بأمره تعالى، لا يزال في حضيض لا يتناهى (الأصغر غير المتناهي). وسيبقى كذلك أبد الآبدين. ذلك لأنّ علم الله لا يتناهى، ونسبة المحدود إلى غير المحدود صفر.
إنّ الله تعالى يقول: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ...) (لقمان/ 27).
والعالم الحقيقي، كلما فتح الله له باباً من أبواب معرفة الحقائق المادية اعترف بعظم جهله وأنّه في اللانهاية من مراتب الجهل. ولا يأتي الغرور إلا من ناحية الجهل. إنّ الإنسان مركب من روح وجسم، فجسمه في غاية الكمال ولكن الإنسان ليس بجسم فحسب، بل ليس من الجسم في شيء. انّه إنسان بروحه ونفسه وهو مخلوق الله الكامل على الإطلاق. والكامل (وهو الله تعالى) لا يصدر منه إلا الكمال. ولذلك تفضل الله على الإنسان بغية تكميل نفسه الناقصة، تكميلاً يناسبها، بأنبياء (ص) ومن بعدهم بأوصياء (ع) يهدونه سواء السبل ويتصدون لتكميل نفوس البشر وإبلاغها إلى حيث يشاء الله تعالى من مراتب الكمال. (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة/ 2).
فالغاية الحقيقة من خلق الإنسان: هو أن يعرف الله تبارك وتعالى وأن يزداد معرفة به تعالى بتزكية نفسه. ذلك لأنّ حب الله ومعرفة الله لا يحلان نفوساً مدلهمة حالكة بذنوب وأخلاق ذميمة وفسق وفجور. فوجب تطهيرها وتزيكتها. ولا تزكو إلّا بالعبادة وأعمال صالحة. والأعمال الصالحة هي نوع من أنواع العبادة إذا كانت لوجه الله وطلباً لمرضاة الله.
انّنا خلقنا لمعرفة الله تعالى كما جاء في الحديث القدسي: "كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق لكي أعرف". والعبادة باب معرفة الله تعالى ولا تحصل هذه الغاية الرئيسية من خلق الإنسان (وهي معرفة الله) تعالى إلا بالعبادة. قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56). فهم إذا عبدوا الله فتحت عليهم أبواب المعارف الإلهية، وإزدادوا معرفة بالله تعالى كلما إزدادوا اهتماماً بالعبادة بإخلاص، دونما رياء أو حب لجاه أو طلب للرئاسة.
ومن جملة تلك العبادات المطهرة للنفوس والفاتحة على الإنسان أبواب المعارف الإلهية: الحج. ولا مراء أنّ المال يقسي القلب ويؤدي إلى شيء من الغرور والكبرياء ويبعد الإنسان – بما يترشح منه من ذمائم الأخلاق – عن الله تعالى: (إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق/ 6-7). وقد جاء في الحديث القدسي: "وانّ من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو صرفته إلى غيره لهلك". فوجب ملافاة ذلك، لئلّا توصد على الثري أبواب المعرفة. فشرع الشارع الزكاة والخمس والزكاة المندوبة والصدقات، وأوجب أمراً عبادياً فرضه على أولي الاستطاعة تفضلاً منه عليهم. حتى لا يكون هذا المال حجر عثرة في طريق تقدمهم في مجالات المعارف الإلهية الواسعة التي لا تتناهى. فهيأ لهم في بيته الحرام مواقف تذرف فيها دموعهم وتخشع فيها قلوبهم وتلطف بها نفوسهم. يشاهدون المقامات القدسية ويتقربون فيها إلى ربهم مخبتين، فلا يبقى حاجب يحجبهم عن الله تعالى لقدسية تلك المواقف. فيذكرون ذنوبهم ثمّ يبكون عليها ندماً وحزناً منيبين خاضعين. وانّ لكل عمل في الحج أثراً في تكميل النفس الإنسانية والتساوي بين الوضيع والشريف. فليس هناك اعتبارات دنيوية ما أنزل الله بها من سلطان. ذلك لأنّ الله تعالى قد جعل المفاضلة بين الناس بالتقوى فحسب، أي بحسب سمو نفوسهم في حقول التزكية ومجالات التصفية، لقوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13)، على أنّ في الحج فوائد اجتماعية أيضاً لا تعد ولا تحصى لو استفاد منها المسلمون.
وقد جعل الله المقامات التي يتقرب فيها إليه في مثل مكة وجبالها القاحلة الجرداء لينصرف العبد إلى عبادته، لا يلهيه الشيطان بزخارف الدنيا وجمالها الخداع، ولذلك يقول علي (ع):
"ألا ترى انّ الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم - صلوات الله عليه - إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر. فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقل نتائق الأرض مَدرَا، وأضيق بطون الأدوية قطرا، بين جبال خشنة ورمال دمثة وعيون وشلة (أي قليلة الماء) وقرى منقطعة، لا يزكو بها خف ولا حافر ولا ظلف، ثمّ أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه. فصار مثابة لمنتج أسفارهم وغاية لملقى رحالهم. وتهوى إليه ثمار الأفئدة من مفاوز قفار سحيقة ومهاوي فجاج عميقة وجزائر بحار منقطعة. حتى يهزوا مناكبهم ذللاً، يهللون لله حوله، ويرملون على أقدامهم شعثاً غبراً له، قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم،وشوهوا باعفاء الشعور محاسن خلقهم، ابتلاء عظيماً وامتحاناً شديداً واختباراً مبيناً وتمحيصاً بليغاً. جعله الله سبباً لرحمته ووصلة إلى جنته. لو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وأنهار وسهل وقرار، جم الأشجار داني الثمار ملتف البنى متصل القوى، بين بره سمراء ورونسة خضراء وأرياف محدقة وعراص مغدقة ورياض ناضرة وطرق عامرة لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء ولو كان الأساس المحمول عليها والأشجار المرفوع بها بين زمردة خضراء وياقوتة حمراء ونور وضياء لخفف ذلك مسارعة الشك في الصدور، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفي معتلج الريب من الناس (أي زال الريب والشك من صدور الناس). ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ويتعبدهم بأنواع المجاهد ويبتليهم بضروب المكاره إخراجاً للتكبر من قلوبهم وإسكاناً للتذلل في نفوسهم وليجعل ذلك أبواباً فتحاً إلى فضله، وأسباباً ذللاً لعفوه".
فلا بيان بعد هذا البيان، فلقد أوضح صلوات الله عليه علة التكليف وحكمة الحج بأبلغ تبيان. فعباد الله الصالحون كانوا، طمعاً في الثواب الجزيل ومزيداً للخشوع والخضوع، يحجون ماشين على أقدامهم أذلاء صاغرين وانّ الحسن (ع) كان يقول: "إني لأستحيي من ربي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته". فمشى عشرين مرة من المدينة إلى مكة على رجليه، وانّ النجائب لتقاد معه.
فالله تبارك وتعالى قد أوجب الحج على المستطيعين من عباده بقوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران/ 97). فالمتخلف عن الحج مع الاستطاعة كافر، لأنّه لم يشكر ربه على ما تفضل عليه من نعم وقد مكن له أن يحج بيته الحرام ليزداد تقرباً إليه ومعرفة به. فقد جاء في خبر عن الصادق (ع) في تفسير: "ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا" ذاك الذي يسوف الحج أي (حجة الإسلام) حتى يأتيه الموت. وعنه (ع): "من مات وهو صحيح موسر لم يحج فهو ممن قال الله تعالى فيه: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه/ 124).
وعن الصادق (ع): "مَن مات ولم يحج حجة الإسلام، ولم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق فيه الحج أو سلطان يمنعه، فليمت يهودياً أو نصرانياً". وقد بنى الإسلام على خمس: الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية".
فالحج عظيم فضله، خطير أجره، جزيل ثوابه، جليل جزاؤه. وكفاه ما تضمنه من وفود العبد على سيده ونزوله في بيته ومحل ضيافته وأمنه وعلى الكريم إكرام ضيفه واجارة الملتجيء إلى بيته. فعن الصادق (ع): "الحاج والمعتمر وفد الله، إن سألوه أعطاهم، وإن دعوه أجابهم، وإن شفعوا شفعهم، وإن سكتوا بدأهم، ويعوضون بالدرهم ألف ألف درهم" وانّ من الذنوب مالا يكفره إلا الوقوف بعرفة، كما جاء في الحديث.
وقال النبي (ص) لرجل فاته الحج والتمس منه ما به ينال أجره: "لو أنّ أبا قبيس لك ذهبة حمراء فانفقته في سبيل الله تعالى ما بلغت ما يبلغ الحاج".
وقال: "انّ الحاج إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئاً ولم يضعه إلا كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات، وإذا ركب بعيره لم يرفع خفا ولم يضعه إلا كتب الله له مثل ذلك، فإذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه، فإذا سعى بين الصفا والمروة خرج من ذنوبه، فإذا رمى الجمار خرج من ذنوبه، قال: فعد رسول الله (ص) كذا وكذا موقفاً إذا وقفها الحاج خرج من ذنوبه. ثمّ قال: أنى لك أن تبلغ الحاج؟".
ويكره ترك الحج للموسر في كل خمس سنين.
فترون: كيف يتكامل الإنسان لما يراه من مواقف قدسية تذهب عنه الذنوب وتطهر النفوس عندما يوفق إلى حج بيت الله. فإنّ هذه المواقف وما يقرأ فيها من أدعية وما يقوم به الحاج من أعمال تذيب المادية التي تصيب الثري من جراء المادة. فما على الحاج إلا أن يحتفظ بهذا الصفاء الذي منَّ الله به عليه في بيته، فلا يلوث نفسه بآثام جديدة، ليذهب من هذه الدنيا إلى حيث الخلود نقي الثوب طاهر الضمير.
المصدر: كتاب التكامل في الإسلام
ارسال التعليق