• ٢٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

قل هو من عند أنفسكم

قل هو من عند أنفسكم

(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران/ 165).

أنّ من مكونات الذكاء العاطفي المبادرة، وتحمل المسؤولية، وعرفنا هذه الصفة على أنّها (قدرتك على صنع الفرص بدلاً من انتظارها، وعلى تحمل المسؤولية في إحداث التغيير بدلاً من إلقائها على الآخرين. يقول تعالى في كتابه العزيز: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام/ 163)، فالمطلوب من المسلم أن يكون (الأوّل) الذي يمشي فيمشي الآخرون خلفه، وليس الثاني، أو الثالث الذي ينتظر من الآخرين أن يحركوه ويقودوه!

إنّ المبادرة والإيجابية والاقتحام والإقدام وتحمل المسؤولية من صفات المؤمن الذي فهم الإسلام فهماً صحيحاً كما فهمه الرسول (ص) ومن معه من الصحابة، ونلاحظ ذلك في حديث الرسول (ص): "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت" [رواه أبي داوود].

فالصحابة الذين أُشربوا روح المبادرة وتحمل المسؤولية لم يسألوا الرسول عن حال الأُمم التي ستتداعى على المسلمين وعن صفاتها بل سألوه عن حال المسلمين يومئذ. إنّ من أخطر الأمراض النفسية والفكرية التي تسللت إلى قلوب المسلمين وعقولهم مرض اللوم وإلقاء المسؤولية على الآخرين، فتجد كثيراً من المسلمين اليوم يتحدثون عن الخطط والمؤامرات التي تحاك ضد الإسلام، ولا يتحدثون عن ضعف المسلمين وعجزهم الذي جعل تلك الخطط والمؤامرات قابلة للتنفيذ.

إنّ الإنسان الذي يتحمل المسؤولية عن الظروف الصعبة التي يمر بها يصبح قادراً على تجاوز هذه الظروف، لأنّه سيفكر ماذا يجب عليَّ أن أفعل لأغير هذه الظروف، وإذا جرب طريقة معينة ولم تجد نفعاً سيبحث عن طريقة أخرى، وهكذا يبدل ويطور وسائله حتى يصل إلى غايته. إنّ تحمل المسؤولية يكسب الإنسان ميزتين هامتين:

الميزة الأولى: الإنسان الذي يتحمل المسؤولية تكون قدراته وإمكاناته في حال نمو وتطور مستمر. لأنّه كما قلنا يرى نفسه مسؤولاً عن تغيير الظروف المحيطة به، فإذا لم تنجح طريقة معينة سيبحث عن طريقة أخرى، أما الإنسان الذي لا يتحمل المسؤولية ويلقي اللوم على الظروف الخارجية والأشخاص المحيطين به فإنّه يحكم على نفسه بالعجز والضمور، ويصبح ضعيفاً ومحدوداً. الأستاذ الذي يتحمل المسؤولية عن ضبط الطلاب وإفهامهم المادة التي يعطيها سيبدِّل ويطوِّر طرقه وأساليبه حتى ينجح في ذلك، وفي أثناء عملية التبديل والتطوير تلك ستنمو شخصيته وإمكانياته كأستاذ ناجح. أما الأستاذ الذي يلقي اللوم على الطلاب إذا شاغبوا أو لم يفهموا درسه فإنّه لن يطور شيئاً من طرقه وأساليبه، ومن ثمّ لن تنمو شخصيته وإمكاناته، وسيظل أستاذاً فاشلاً، وينطبق ذلك على جميع مجالات الحياة، فالأب الناجح هو الذي يتحمل المسؤولية في تربية أولاده، والزوج الناجح هو الذي يتحمل المسؤولية في بناء علاقة طيبة مع زوجته، والمدير الناجح هو الذي يتحمل المسؤولية في تحريك موظفيه، والحاكم الناجح هو الذي يتحمل المسؤولية في إصلاح علاقته مع شعبه، والشعب الناجح هو الذي يتحمل المسؤولية في إصلاح علاقته مع حكامه وهكذا..

الميزة الثانية: إنّ تحمل المسؤولية يحررنا من الأغلال ويعطينا الحرية. فالإنسان الذي لا يتحمل مسؤولية التغيير ويكتفي بلوم الآخرين لا تكون أمامه أي فرصة للمساهمة في التغيير، أما الذي يتحمل المسؤولية فيكون قد أعطى نفسه فرصة للمساهمة في التغيير، فإذا لم تنجح طريقته في إحداث التغيير سيبحث عن طريقة ثانية، ومن ثمّ يكون قد أعطى نفسه فرصة ثانية، وإذا لم تنجح الطريقة الثانية وما زال شعوره بالمسؤولية قائماً سيبحث عن طريقة ثالثة، ومن ثمّ يكون قد أعطى نفسه فرصة ثالثة إذن بمقدار ما يشعر الإنسان بالمسؤولية يمنح نفسه من الفرص. المزيد من الشعور بالمسؤولية يعني المزيد من الفرص والخيارات، والمزيد من الفرص والخيارات يعني المزيد من الحرية. ويمكن أن نعبر عن ذلك بالمعادلة التالية:

المزيد من الشعور بالمسؤولية ← المزيد من الفرص والخيارات ← المزيد من الحرِّية.

إنّ الإسلام يعلِّمنا أن نتحمَّل مسؤولية المصائب التي تنزل بنا، وأن نبحث عن الخلل الموجود في نفوسنا والذي أدّى إلى هذه المصائب:

(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران/ 165).

(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (النساء/ 79).

(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى/ 30).

(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرّعد/ 11).

إنّ المؤمن لا يعرف القعود واللوم وانتظار الحلول، بل يتحرك لإيجاد الحلول وصنع الفرص، ومن ثمّ هو الذي يوجه الحياة ويقودها وليس العكس.

أقدمْ يا مسلمُ فالدُّنيا *** قد أرْهَقَها هذا التِّيْه

تمضي في العَتْمة ضائعةً *** يحدوها صوتٌ مَشْبوهُ

الكونُ الظَّامِئُ ينتظرُ *** من كفِّك ماءً يرويهِ

من يمسحُ دمعتَهُ إلّاكَ *** ومن للجرحِ يداويهِ

عجباً يا مسلمُ من أمركْ *** تمضي بيقينك جذلانا

أعْجَزْتَ الدُّنيا عن أسركْ *** وأسَرْتَ بحسنك أكوانا

إن تغفلْ يا مسلمُ يوماً *** يمتلئ العالمُ آلاما

وتمورُ الأرضُ سيولَ دمٍ *** إنْ أنتَ نسيتَ الإسلاما

يقول محمّد إقبال واصفاً المؤمن: "على المؤمن أن يربي في نفسه الروح وينشئ في هيكله الحياة ثمّ يحرق هذا العالم الفاسد بحرارة إيمانه ووهج حياته وينشئ عالماً جديداً" ويقول أيضاً: "المسلم الضعيف يعتذر دائماً بالقضاء والقدر، أما المؤمن القوي فهو بنفسه قضاء الله الغالب وقدره الذي لا يُرد" ويمضي محمّد إقبال في وصف قوة المؤمن وإيجابيته وفي تفسير مصدر هذه القوة فيقول: "إنّ مصدر قوة المؤمن الخارقة للعادة، المحيرة للعقول، المعجزة للبشر، مستمدة من رسالته وإيمانه وباندماجه واضمحلاله في إرادة الله. هنالك يتحول جارحة للقدرة الإلهية، وقوة قاهرة لا تصدّها الجبال، ولا تقف في سبيلها البحار".

المؤمن يعتقد أنّه قادر على تغيير الظروف المحيطة به، بل يعتقد أنّ من واجبه تغيير هذه الظروف حتى يصبح العالم على النحو الذي يرضي الله تعالى، وهو يؤمن أنّ هذه الظروف لن تتغير إلا من خلال حركته ومبادرته وإيجابيته واقتحامه.

إنّ الإيمان لا يمكن أن يجتمع في قلب رجل واحد مع السلبية والاستسلام والبلادة والقعود.

 

المصدر: كتاب مافوق الذكاء العاطفي/ حلاوة الإيمان

ارسال التعليق

Top