"إلهي عَلمتُ باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار أنّ مُرادك منّي أن تتعرّف إليّ في كلّ شيء حتى لا أجهلك في شيء".
نعم، إنّ اختلاف مواد عالم الطبيعة وتحوّلاتها المستمرة وصورها عبر مختلف الطرق، يدفعنا للإقبال عليه.
مئات آلاف الأضداد تقتل أضداداً أخرى
وينتشلها حُكمُك مرة أخرى
تنطلق يا ربّ في كلّ زمان
قافلة من العدم إلى الوجود
وتنطلق هذه القوافل ثانية
إلى العدم في كلّ لحظة
فهذا الاختلاف والتحوّل المتوالي يقول بصراحة قاطعة: لهذا النهر الجاري عين ينبع منها، ولهذا المتحرّك محرّك.
إنّ أيّاً من كائنات عالم الوجود لا يصنع نظامه المستقبلي في ذاته. فنحن الناس نتصل بالكائنات الأخرى بواسطة العلوم وعبر مختلف الطرق، إلّا أنّ أيّاً من هذه الكائنات ليس لديه القدرة على أن يقدّم حركته الطبيعية على أنّها ذاته.
حسناً جدّاً، لو قلنا إنّ الحركة في ذات المادّة، فهنا يطرح السؤال التالي نفسه:
هل الحركة الكلية في ذات المادّة؟
وإذا أجبنا بالإيجاب، فإنّنا مخطئون ولا شك، لأنّ الحركة الكلية نتاج ذهني ولا موضوعية لها.
ولو أجبنا: لا، المقصود بها الحركة المحددة الحقيقية التي تحرك المادّة، فهنا يطرح السؤال التالي نفسه: أيّة حركة محددة بإمكانها أن تكون ذات المادّة ومحرّكة لها؟ فمن الممكن أن تقبل المادّة الواحدة ألف شكل من الحركة مع مختلف النتائج والظواهر.
ونتجه ثانية نحو اختلاف الظاهر ونقول:
لماذا يجب أن تكون ظواهر عالم الطبيعة مختلفة ومتضادة؟
وإذا كانت حقيقية، فمن أين تأتي هذه الاختلافات والتضادات؟
وإذا كانت المادّة متعددة، فمن أين ينشأ تعددها واختلافها وانسجامها؟
وهل هي حقيقة واحدة أم عدة حقائق؟
وإذا كانت حقيقة واحدة، فمن أين يأتي هذا الاختلاف في النتائج؟
وإذا كانت متعددة، فمن أين ينشأ هذا التعدّد؟
وأساساً، لماذا يجب أن تتحرك المادة؟
ولماذا اختارت هذه الحركة المحدودة؟
ولماذا اختارت القوانين والمبادئ المهيمنة على نظام الطبيعة نفس هذا الأسلوب أيضاً؟
ربّاه! إنّنا أعددنا لكلّ هذه التساؤلات جواباً واحداً وهو: أنتَ الذي تحرّك عالم الطبيعة، وأنتَ الذي تحفظ القوانين التي تدير الوجود. رغم أنّ علينا ـ انطلاقاً من أوامرك ـ أن نعي ونجدّ في ميدان الحياة الطبيعية من أجل العثور على أجوبة لهذه التساؤلات.
وإذا كان البعض لا يطرح مثل هذه الأسئلة، أو يترك الإجابة عليها للمستقبل، فإنّ هناك فئة أخرى تعتقد عن يقين ـ ومن خلال وفائها الكامل وعلمها ومعرفتها وإيمانها بالتكامل التدريجي للمعارف ـ أنّ كافة اكتشافاتها ومعارفها لا تنفذ إلّا إلى ظواهر عالم الطبيعة وسطوحه لا إلى أعماقه، لأنّ علمنا لا يتجاوز ما ورد في آيتك الكريمة: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الروم/ 7)، في حين أنّ مشيئتك هي التي تكمن خلف أساس هذه المادّة والحركة واختلاف الآثار والتحولات.
ربّاه! هناك مَن يدعوك بأسماء من قبيل الله، الرحمن، الرحيم، الكريم، الرؤوف، إلّا أنّ تلك الفئة ـ التي تبذل جهوداً جبّارة لمعرفة عالم الوجود وتشاهد إشراف جمالك وجلالك على هذا النظام وهيمنتك المستمرة عليه ـ ستدعوك بأسماء مثل: حافظ قوانين الطبيعة، والمشرف على التحوّلات القائمة.
ربّاه! زِدْ مِن نورك في قلوبنا، وعطِّر شامّتنا بنسيم أبديتك الذي يهب على هذه الكائنات والتحوّلات في هذا المعبد الكبير الذي نسميه عالم الوجود وفي هذا المصنع العظيم الذي يهزّ قلوبنا فيه الصمت المدهش لصوتك العظيم.
المصدر: كتاب على أجنحة الروح
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق