• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

من هم الحساد؟

من هم الحساد؟

من هم الحساد؟

لكلٍّ منّا محاسنه ومساوئه.

لكنّنا – أحياناً وكجزء من خلق المتاعب لأنفسنا – لا نفكّر إلّا بمساوئنا ومحاسن غيرنا.

هنا، ننسى أمرين:

أنّ غيرنا له مساوئه أيضاً، وأنّه ربّما يتمنّى أن تكون له بعضُ محاسننا.

وقد ننسى أيضاً – ونحن نتطلّع إلى ما في أيدي الآخرين – أنّ المحاسن مكتسبة أي مثلها مثل أي شيء آخر يمكن تحصيله بالتمرين والتدريب والجدّ والاجتهاد.

فكما كان لغيرك أن يسعى ويكلّل مساعيه بالنجاح، لكَ أنت أيضاً أن تفعل الشيء نفسه، إذا سلكت الطريق نفسه، وحملتَ الهمّة نفسها، وآمنت بتوفيق الله مثله.

وتسأل: ولِمَ هذا التفاوت بين الناس[1]؟

هذا التفاوت له أسباب كثيرة، منها:

-         التفاوت في الإرادات والعزائم والهمم.

-         التفاوت في كم وحجم العقبات والصعوبات التي تواجه كلّاً منّا.

-         التفاوت في درجة العلم والثقافة والمهارات.

-         التفاوت في تقدير قيمة الأشياء.

-         التفاوت في تحديد الآليات والوسائل الموصلة إلى الهدف.

-         التفاوت في تحديد الأهداف.

-         التفاوت في القرب أو البعد من الله سبحانه وتعالى.

ولهذا التفاوت جانبان (ربّاني) و(ميداني).

فلقد أراد الله سبحانه وتعالى بحكمته أن يختلف الخلقُ والبشر في أشياء كثيرة حتى يتحقّق للبشرية الإثراء في هذا التنوّع والتعدّد والاختلاف. فلقد جعلنا شعوباً وقبائل، وجعل الاختلاف في ألواننا وأجناسناً وألسنتنا، مثلما جعل الاختلاف في طبيعة الأرض التي نعيش عليها، والمياه التي نشربها، والهواء الذي نتنفّسه. وقد يبدو في الظاهر أنّ هذا الاختلاف هو اختلاف تفاضل، ولكنّه في واقع الأمر اختلاف رحمة وتعدّد من أجل خير عميم، وقد ثبت علمياً وفكرياً واجتماعياً واقتصادياً أنّ التعدّد والتنوّع ثراء.

هل يحاسبنا الله على ما لم يعطنا؟

هذا خلافُ العدالة تماماً، ولذا فإنّه لا يحاسبنا – مثلاً – على أشكالنا وألواننا واختلاف ألسنتنا، وإنّما يحاسبنا على ما انطوت عليه قلوبنا وعقولنا.

هل التغيير ممكن؟

نعم، ممكن. فليست الولادة في أرض قاحلة قدراً لا يمكن للإنسان أن يتخلّص منه، وليس الجهل صفة ملازمة لا يمكن الفكاك منها، وليس الفقر حالة مادية مكتوبة لا يقدر الإنسان أن يحسّنها أو يتجاوزها.

تقول أنّ العملية ليست ممكنة دائماً، نقول نعم، لأنّه ليس الهمم واحدة فـ(على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ) كما يقول الشاعر. وقد تكون هناك عوامل وظروف قاهرة لكن تفاوت الإرادات هو العامل الأكبر في تمييز إنسان عن إنسان آخر، أو شعب عن شعب آخر، وهذا هو الجانب (الميداني) للتفاوت.

لكنّنا – في ظلّ التفاوت الأوّل والثاني – نرى أناساً لا يفهمون حقيقة التفاوت، ويرجعون أسبابه إلى تصورات ذهنية خاطئة، كأن يظنّوا – مثلاً – أنّ الله يحبّ صاحب النعمة ولا يحبّهم، وأنّ نعمهُ سبحانه وتعالى لا تعرف الطريق إليهم، وقد يقولون بوحي من هذه التصورات أنّ الله يمنح أو يرزق الأدرد – الذي بلا أسنان – جوزاً، وما إلى ذلك. ولذا تراهم لا يطيقون رؤية صاحب النعمة، وينقمون عليه، ويتمنون أن يتجرّد من نعمته ويبقى أعزلَ منها.

هؤلاء هم الذين نسمّيهم (الحسّاد).

فيومَ تقبّل الله قربان (هابيل) ولم يتقبّل قربان (قابيل) داخلَ الثاني شعورٌ طاغٍ بالغيرة القاتلة والحسد المشتعل المتصاعد كنارٍ أكول، فلم يتحمل رؤية أخيه أفضل منه، أو أنّه أقرب إلى الله تعالى منه، فقرّر وبدافع من نيران الحسد في داخله أن ينتقم منه، لأنّه رؤيته ماثلاً أمامه تذكّره بأنّه أفضل منه، فلم يهنأ له بال حتى أراده قتيلاً.

وحين رأى إخوة يوسف (ع) أنّ أباهم يتودّد لـ(يوسف) أكثر منهم لمزايا كثيرة كان يوسف يتمتع بها، منها أنّه رأى مناماً صادقاً فهم أبوه يعقوب من تأويله أنّه سيكونُ ذا شأن عظيم. ورغم أنّ الأب طلب من الابن عدم التصريح بما رأى لإخوته، لكنّهم قرأوا امتياز يوسف في وجه أبيهم، فتحرّكوا، أو قلْ حرّكهم الحسد العاصف إلى التخلّص من يوسف ليخلو لهم وجهُ أبيهم، فلم يجدوا، أو لم يفتح لهم الحسد من طريقٍ سوى أن ينتقموا من يوسف البريء بإلقائه في البئر والإدّعاء بأنّ الذئب قد أكله.

هل (قابيل) و(إخوة يوسف) الحسّاد الوحيدون؟

طبعاً لا، فما أكثر الحسد وما أكثر الحاسدين.

 

من حالات الحسد:

وطالما أنّ الحديث هنا موجّه إلى الشبّان والفتيات، ودعونا نلتقط بعض حالات الحسد بين هذه الشريحة من كلا الجنسين، لنتعرّف من خلال الحالات التي رصدناها على العوامل التي تجعل إنساناً يحسد إنساناً آخر

ومع أنّ دوافع الحسد لدى الجنسين واحدة ومتقاربة، إلّا أنّنا نحاول أن نفصل بين حالات الحسد بين الشبان وبين حالاته بين الفتيات، وإن كان التداخل كبيراً.

فمن حالات الحسد بين الشبّان:

1-  التفوّق الدراسي:

فالشاب المتفوّق دراسياً، والذي يحظى بالثناء والتقدير من لدن أساتذته ومربّيه سيجد نفسه – من دون ذنب ارتكبه – محسوداً من قبل بعض زملائه في الفصل أو الصف.

عيونهم ترمقه بغضب مكتوم وعدم ارتياح، خاصّة أولئك الذين هم دونه في المستوى الدراسي، أو الذين يأتون في المراتب التالية بعده. فتجدهم وقد انبعث في داخل أحدهم كره وانزعاج من تفوّق هذا الشاب واعتزاز معلّميه به، وليس هو كرهاً أو انزعاجاً ناتجاً عن تصرف قام به لإغاظتهم.

فإذا ترك هؤلاء لهذا الحالة أن تتفاعل وتتصاعد داخلياً، فإنها تتحول إلى حالة تمنٍّ بزوال نعمة التفوّق التي يتمتع بها زميلهم حتى لا يجد الحظوة عند أساتذته وزملائه الآخرين ممّن يقدّرون له جهوده ومثابرته وتفوّقه ويتمنّون له المزيد منها.

2-  المحبوب اجتماعياً:

والشاب الذي يستقطب الشباب من حوله ويجذبهم إليه في انفتاحه عليهم واحترامهم وحبّهم وبناء علاقات واسعة متينة معهم، فيبادلونه حباً بحبّ واحتراماً باحترام، فيصبح نجماً لامعاً بينهم كونه لطيف المعشر، دمث الأخلاق، حسن التعامل، يعرف كيف ينشئ العلاقة وكيف يحافظ عليها حميمة نابضة، هو الآخر محسود لاسيّما من قبل أولئك المنطوين أو المنكمشين الذين يجدون أنفسهم في عزلة لا يصادقون أحداً ولا يصادقهم أحد.

هذه المحبوبية الاجتماعية شبيهة – إلى حدٍّ ما – بالتفوّق الدراسي، فهي في نظر الحاسدين (تفوّق اجتماعي) والتفوق سواء كان دراسياً أو اجتماعياً أو في أي حقل آخر، مدعاة للحسد، أي أنّه بطبيعته يستثير الحسد في النفوس المهيّأة لذلك.

3-  صاحب الموهبة:

وهذا شابّ آخر لا ينجو من حسد الحاسدين وربّما كيدهم أيضاً. فالموهبة التي يمتاز بها تجعل منه محطّ أنظار واهتمام الآخرين، وبذلك يكثر محبّوه والمعجبون به كما يكثر حسّاده أيضاً، لأنّ الميزة التي حصل عليها من خلال موهبته تفتح عيون حسّاده عليه بنظرات كلّها أسف وحسرة ورغبة دفينة في رؤيته فاشلاً ولو لمرّة، أو مجرداً من موهبته تماماً حتى ينفضّ الجمع الذي حوله عنه فيعود إنساناً عادياً عارياً عن أيّة مزيّة تميزه عن غيره، ومادام متألقاً في إبداعه فإنّ نظرات الحاسدين ترشقه بسهامها، هذا إذا لم تفعل شيئاً أسوأ من ذلك.

4-  صاحب الشمائل الكريمة:

الشاب ذو الأخلاق الحسنة والشمائل اللطيفة والسيرة الحميدة العاطرة هو موضع إعجاب أصدقائه ومحبتهم، لكنّه من جهة ثانية موضع حسد الحاسدين أيضاً خاصّة أولئك الذين لا يمتلكون ما لديه من أخلاق طيبة يجتذبون بها أقرانهم من الشبان.

وبسبب من جفاف أخلاقهم أو انفراط أصدقائهم عنهم، تراهم يعيشون العقيدة من لطافة وكرم أخلاق زميلهم، حتى انّهم يتمنون لو انقلب إلى إنسان فضّ حتى يتفرّق الجمع الذي يتحلّق حوله. وقد يحبّهم أيضاً لأنّه لا يعيش العقدة إزاءهم، ولأنّ نفسه كريمة لا تنطوي على الإساءة إلى أي واحد منهم، لكنهم يكنّون له العداوة والبغضاء دونما جرمٍ اقترفه سوى أنّ أخلاقه وسجاياه لطيفة نبيلة.

5-  الشاب الثري:

الشاب المنعّم الثري الذي تظهر آثار النعمة عليه سواء من خلال ملابسه الفاخرة أو النقود التي يحملها، أو السيارة التي يركبها، أو مقتنياته ومشترياته الكثيرة، هو أيضاً موضع حسد زملائه وأصدقائه الذين يقلّون ثراءً أو المعدمين منهم.

ولأنّ للمال بريقه، فقد يكون الثري ذا علاقات وصداقات كثيرة، وربّما سارع البعض إلى إقامة صداقة معه وكسب مودّته والتودّد إليه والتمتع ببعض ثرائه، الأمر الذي يجعل الذين يحسدونه ينظرون إلى الأمرين معاً، إلى ثرائه الذي لا يقدرون على مجاراته، وإلى أصدقائه الذين يلتفّون حوله.

6-  الشاب القويّ:

هناك من الشبّان مَن يتمتّع بقوّة بدنيّة مميزة وعضلات مفتولة وصحّة جيِّدة، ترى في وجهه نضارة النعيم، فيما ترى شباناً هزيلين نحيفين مما قد يجعلهم هزالهم الزائد ونحافتهم المفرطة ينظرون إلى الشاب المتمتع بصحّة جيِّدة جدّاً نظرة حسد، أي يتمنّون لو كان نحيفاً مثلهم حتى لا تبدو نحافتهم معيبة بالمقارنة مع ما يتمتع به من رشاقة وتناسق جسماني جميل، يلفت الأنظار إلى فتوّته فيما لا يعيرهم الآخرون نظرة مماثلة.

7-  الأهلية والجدارة:

أهلية أي شاب لأيّ عمل وجدارته فيه يدعو إلى أن يحسده الذي في قلبه مرض، ولأنّه سيلفت النظر إلى أهليته وجدارته في العمل الذي يؤدّيه فإنّ زملاءه من الشبان العاملين في نفس الدائرة أو المعمل أو المصنع، سيجدونه مبرّزاً، لافتاً للإنتباه، موضعَ احترام وتقدير رئيسه أو المشرف على عمله الذي يقدّر كلّ دؤوب وصاحب دقّة عالية ولفتات بارعة، الأمر الذي يرفع من درجة ذلك الشاب وترقيته بوقت أسرع، وكلّما ارتفعت جدارته وارتفعت في المقابل نظرة المسؤولين التقويمية له، ارتفع عدد حسّاده الذين لا يفسّرون ذلك بأنّه أهلية تامّة وإنّما يعتبرونه – حسداً من عند أنفسهم – انحيازاً من قبل المسؤول لشخصه، وربّما تداعى بعض الحسّاد إلى أن يسيئوا إليه بطريقة وبأخرى، فالحسد إذا اجتمع مع الحسد فإنّ طاقته التدميرية تصبح أخطر.

8-  الفوز بجائزة أو بقرعة:

وقد ترى شباناً يشتركون في مسابقة معيّنة، أو يقترعون حول أحدهم ليكون الفائز في جائزة ما، وربّما كانت حظوظهم في الفوز واحدة أو متقاربة، والأمر في النهاية راجع إلى ما تقرّره القرعة، فهي التي تحدّد مَن الفائز؟ لكنّ بعض المشتركين في المسابقة أو القرعة لا يرتاحون للنتيجة إذا كانت في صالح غيرهم، وهو أمر يكاد يكون طبيعياً، لكنّ شعور الحسد من الفائز والذي يصوّر للحاسد أنّ الفائز هو الذي حرمه من الفوز، وانّه لو لم يكن مشتركاً فربّما فاز الحاسد نفسه، فلا يبارك له فوزه ولا يهنئه على جائزته بل ينظر إليه نظرة غريم تحمل الكره لا الحبّ.

ومثل ذلك حينما يتقدّم مجموعة من الشبّان لإشغال وظيفة شاغرة، وقد يكونون أصدقاء، لكنّ قبول أحدهم، بدلاً من أن يشعرهم بالفرح لترشيح صاحبهم للوظيفة، فقد يوغر صدور بعضهم بالحسد، فيصبح المرشح لنيل الوظيفة الشاغرة وكأنّه منافسٌ لهم، وقد تتأثر صداقتهم به جرّاء ذلك.

ومن حالات الحسد بين الفتيات:

1-  الفتاة الجميلة:

الجمال – كمظهر خارجي – هبة الله، واللواتي يحسدن الجميلات لأنّهنّ أصبحُ وجهاً وأكثر إشراقاً ونضارة ينسين هذه الحقيقة، وكأنّ الجميلة المحسودة هي التي صنعت محاسنها بنفسها، أو أنّ الله فضّلها عليهنّ بحسنها وجمالها. ولذا فقد تحسدها هذه على شعرها وتلك على عينيها وهذه على فمها وأخرى على قوامها وإلى ذلك. وقد ينقلب حسد الحاسدات – في مرحلة لاحقة – إلى حالة من حالات الهزء والاستخفاف بالجمال المحسود.

وقد يتعدّى حسد القليلات الحظّ من الجمال إلى درجة تشويه سمعة الجميلة حتى يصرفن الأنظار عن جمالها إلى ما يتصورنه قبحاً في أخلاقها فيعزف الذي يخطب ودّها، أو اللواتي يرغبن بمصاحبتها.

2-  الزينة:

ويمتدّ حسد المظهر الخارجي من الجمال الشكلي إلى ما تضعه إحداهنّ من زينة، فالأساور والأقراط والقلائد يذهب بريقها بالأبصار، ولذا ترين النظرات المعلّقة في السواعد التي تلتف حولها الأساور، ويزداد الحسد بازديادها، فإذا كانت التي تضع الزينة جميلة فإنّهما تستثير من حسد الزميلات أكثر ما تثيره الزينة وحدها، وربّما ينطلق الحسد من تقدير الثراء الذي تتمتع به ذات الزينة الباهضة.

3-  الحظوة بشاب ثري أو مرموق:

وقد يتقدّم أحد الشبان الأثرياء أو ممّن يشغل مهنة مرموقة لخطبة فتاة والزواج منها، وهذا بحد ذاته داعٍ من دواعي الحسد لدى فتيات لم يحظين بمثل هذا الشخص، وربّما كنّ الحاسدات من القريبات للمخطوبة أو صديقاتها، وقد يخالجهنّ شعور بالحسد فحواه أنّ المتقدم للخطبة لم ينتخب جيِّداً، وكان ينبغي أن يقع الاختيار على واحدة أخرى وهي التي يضطرم الحسد في داخلها، وربّما لم تصرّح بذلك، لكنّها لا تفرح لفرح صديقتها وكأنّها قد سرقت ذلك الشخص منها، وحتى إذا أظهرت سرورها فللمجاملة.

4-  حالات مشتركة:

أمّا التفوق الدراسي واعتزاز المدرّسات بالطالبة المتفوقة أو الموهوبة، والجاذبية الاجتماعية التي تستقطب الفتيات، والثراء وغير ذلك من حالات الحسد بين بعض الشبان، فهي موجودة أيضاً بين بعض الفتيات وربّما بدرجة أكبر للحساسية المفرطة التي يعشنها إزاء هذا الأمر أو ذاك.

وغير خافٍ، أنّ من الحالات التي يتعرّض فيها بعض الشبان والفتيات للحسد، هي حسد الإخوة والأخوات. فقد يكون موقع أحد الأبناء في الأسرة موقع الابن الأثير أو المدلل، أو الذي يحظى بعناية مركزة من أحد الأبوين أو كليهما.

الهامش:


[1]- لا نريد هنا الخوض في بحث العدل الإلهي في جانبه العقائدي بشكل تفصيلي، وإنّما نريد تسليط الضوء على الجوانب العملية الملموسة من أسباب وآثار هذا التفاوت.

ارسال التعليق

Top