• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الوقاية الصحية بين تشريع الطهارة والعلم

الوقاية الصحية بين تشريع الطهارة والعلم

 ◄خلق الله الإنسان طاهراً نقيّاً، ووهبه العقل ليميّزه به عن سائر المخلوقات، بما منحه من قدرة على الاختيار والترقّي والعمل الهادف. ولئن كان هذا العقل مهيّئاً لاكتشاف الحق والحقيقة وبه يتكامل الإنسان ويرتقي، فإنّ هذا الارتقاء يحصل بالتجربة والخبرة مع الزمن.. ولما كان لأيِّ إنسان في كل زمان ومكان ومنذ بدء حياته على الأرض، ومهما اختلفت إمكاناته، الحق في أن يعيش حياة معافاة كريمة، تحفظ إنسانيته، لهذا السبب جعل له ربُّه كما بيّنت الشريعة الإسلامية، أساسيات في وجوده، يعتبر تحققها في حياته صيانة له فرداً وجماعة، من الخروج عن إطار تلك الإنسانية، وضمانة للحدِّ الأدنى الضروري من العافية والسلامة، بحيث تهيء هذه الأساسيات مجالاً لنشاط أكثر جدوى وفعالية. فهي التي تطبع الفرد والمجتمع في شتّى الجوانب من العقيدة إلى السلوك، بحيث يصبح تجاوزها من قبل الإنسان، مخالفة لواقعه وتصادماً مع حقيقته، ونذكر كمثال لهذه الأساسيات أو الأوّليات: مبدأ التوازن في الحرية عند الإنسان، والانطلاق من الأسرة السليمة لبناء المجتمع الصالح، وتحريم الربا وكذلك تحريم الزنا واللواط، وحصر العلاقة بين الجنسين بالزواج وغير ذلك. ومن الأوّليّات طهارة الإنسان في الأصل.. ومن هذا المنطلق يجب فهم تشريع الطهارة في الإسلام، الذي يُعتبر فريداً في مجاله، حيث لم يعرف البشر تشريعاً مماثلاً له. وإننا لنعتقد بأنّ أي مجتمع، مهما بلغ شأنه في سلّم المعرفة لو عمل على تطبيقه، لمنحه إطاراً سليماً للنظافة العامة والوقاية الصحية..

هذا من الأساسيات التي حرص الإسلام على تحديدها.. أما الوقائع الخاصة الظرفية، فهي من مهام الجهد الإنساني يكتشفها في سياق دأبه إلى التكامل، ولو لم تُطبّق تلك القواعد الأولى ولو لم يتوفر ذلك الإطار الأساسي للصيانة، لغدت آثار الاكتشاف البشري في هذا الحقل أقلّ جدوى، إلى أن يكتشف البشر قواعد مشابهة لتلك.. فمثلاً رغم أنّ الجهد البشري قد اكتشف أنّ الكلب ولحم الخنزير مصدران لكثير من عوامل المرض عند الإنسان، واكتشف وسائل لإتلاف هذه العوامل المسبّبة، فإننا نجد أنّ أمراضاً متعلقة بهذين الحيوانين ما زالت تصيب البشر في المجتمعات التي لا تتوقّى منهما وما زالت بين الحين والآخر تسبب مشاكل مهمة في تلك المجتمعات. وكذلك فإنّه رغم اكتشاف الإنسان لوسائل التعقيم الطبي، فإنّه يبقى غير قادر على مَنع كثير من الأمراض الهامة التي تتأتّى نتيجة عدم مراعاة مبدأ تطهير الجسم من آثار الغائط والبول. فبقاء آثار التلوّث بهما على المنطقة التناسلية يتسبب في كثير من الالتهابات الموضعية التي بدورها تساهم في كثير من الالتهابات البولية أو التناسلية. لذلك تتضح ميزة الإسلام على النظم الأخرى، حيث أنّه وحده وضع تشريعاً للناس في هذا المجال وأوجب مراعاته، ولم يترك أوليات وأساسيات هذا الأمر للزمن ليكتشفها الإنسان بنفسه. هذا، وإذا كان الإسلام قد أوضح أوّليات العقيدة والشريعة فإنّه أطلق نشاط العقل للبحث والاكتشاف انطلاقاً من هذا الإطار الصحيح وأوضح للإنسان المنهج السليم في استعمال العقل والحواس في معالجة الواقع والوجود ليكون جهده أكثر فائدة.. ولقد عالجنا هذا الموضوع بإسهاب في كتاب لنا قيد الطبع هو "المنهج الواقعي ومنطق الإيمان في القرآن الكريم".. وهذه المقدمة كانت ضرورية ليعرف القارئ اهتمّ الإسلام بموضوع الطهارة وما علاقة ذلك بالدين والعقيدة.   - التشريع الإسلامي ومصادر التلوث في البيئة: إنّ الطبيعة وهي بيئة الإنسان في الأصل، طاهرة نظيفة، وما يعتريها من تلوّثها إنما هو من أثر الأحياء التي عليها، والدرجة الأولى: الإنسان والحيوان.. واهتمامنا بتلوّث البيئة أساسه، أنها حيّز وجود الإنسان، مما يجعل تلوّثها يرتدّ عليه حتماً.. وفي موضوع الطهارة يتركّز انتباهنا على القذارات ومصادرها وما يرتبط بها من ميكروبات تلوّث البيئة. فالميكروبات من جراثيم وفيروسات، لا تعيش في الطبيعة مستقلّة بذاتها، فهي بحاجة إلى بيئة حيّة تعيش فيها، أو إلى آثار هذه الحياة كفرزاتها العضوية، أو فضلاتها الميّتة ما دامت هذه محتفظة برطوبتها. فالميكروبات على وجه العموم تموت في الطبيعة من الجفاف في زمن يطول أو يقصر، وقليلة هي الميكروبات التي تقاوم الجفاف ردحاً طويلاً من الزمن، مثل فيروس الجدري أو بذور جرثومة الكزاز، ولكنّ هذه في الأصل تصل إلى الطبيعة من الإنسان أو الحيوان نفسه.. والشمس ذات أثر هام وأساسي في تطهير الطبيعة بفعلها المباشر بواسطة إشعاعاتها وحرارتها، أو بتجفيفها للرطوبة. وأما المطر فله دور الجرف الآليّ، الذي يضاف إلى فعل الشمس المجفّف لاحقاً. لذلك فإن أنقى المواضع في الطبيعة هي البعيدة عن قدم الإنسان والتي تسطع عليها الشمس، أو يجري عليها ماء المطر. أما الأماكن الظليلة التي لا تسطع عليها الشمس أو لا تغسلها الأمطار فهي مواضع أقلّ أمناً من ناحية التلوث. إذن البيئة الطبيعية في الأصل نظيفة وطاهرة، والإنسان وأثر الأحياء هما سبب تلويثها، من هنا نُركِّز اهتمامنا في موضوع الطهارة كما ذكرنا على القذارات وما يرتبط بها من ميكروبات. فما الذي يلوّث الإنسان والبيئة؟ التلوّث بواسطة الإنسان: مجرد ملامسة الإنسان بجسمه للبيئة لا يحدث فيها قذارة ما، لكنه يلوّثها بما يفرزه فيها، ومفرزاته على نوعين: النوع الأوّل: الغائط، البول، المَنيّ، والدم، وهذه المفرزات عامة بين كل الناس، وتتصف بأنها ملائمة لنموّ الميكروبات فيها ما دامت على رطوبتها، وأنها يلزمها زمنٌ قبل جفافها تتابع خلافه الميكروبات نموّها فيها. النوع الثاني: هو الإفرازات التنفّسية من أنفية ولُعابية، أو جلدية كالبثور النازّة، والعَرَق. أمّا العَرَق فليس مصدر أي قذارة للبيئة ولا يحمل أية ميكروبات، وأثره مقتصر على الإنسان نفسه بما قد يُسبِّبه من رائحة في الجسم ليس إلّا، فلا دور له في تلويث البيئة أو الإنسان. وأمّا المفرزات الجلدية الأخرى والتنفسية فأثرها في التلويث لا يوازي أثر النوع الأوّل، فهي أصغر حجماً وأقل إفرازاً وسريعة الجفاف، ما لا يدع الفرصة للميكروبات كي تنمو فيها. وهي مصدر للميكروب فقط إذا طرحها المصابون بالتهابات تنفسية أو جلدية، غير أنّ مفرزات الأصحاء لا ميكروب فيها. ولأنّها صغيرة الحجم سريعة الجفاف لا يكون أثرها ذا قيمة في العادة إلا إذا أصابت الصحيح مباشرة أو بعد زمن قصير، مما يظهر بوضوح، أن أثر هذه الإفرازات بالمقارنة مع الإفرازات من النوع الأوّل، هو أثر يقع استثنائياً في حالة المرض لا شمولياً في كل الأحيان والظروف، وهو لا يؤدِّي بالتالي إلا إلى تلويث محدود للبيئة. وبما أنّ التشريع يأخذ في الاعتبار ما كان ذا أثر شامل وعام ويترك للاستثناءات والخصوصيات أحكامها الظرفية، فلعلّه لذلك لحظت الشريعة الإفرازات الأربع الأولى بصورة خاصة، واعتبرتها مصدر النجاسة الآتية من الإنسان ذاته، بينما لم تعتبر الإفرازات الأخرى من النجاسات، لكنها رغم ذلك لحظتها بتوجيه خاص يهدف إلى اعتناء المرء بعدم تلويث البيئة والناس بها. ومنه الحديث الشريف عن الإمام الصادق (ع) عن جده رسول الله (ص): "من فقه الرجل أن يرتاد لبوله، ومن فقه الرجل أن يعرف موضع بزاقه في النادي". ومن المروي عن الإمام علي (ع) قوله: "من فقه الرجل ارتياد مكان الغائط والبول والنخامة". والارتياد هو انتقاء المكان وقصده، والواضح هنا معنى انتقاء المكان أيّ الذي لا يؤذي الناس. ولقد وضع هذا التوجيه النخامة والبزاق في نفس المرتبة مع البول والغائط، فيجدر معاملتهما بنفس الحذر رغم أنهما لم يوضعها بمنزلتهما من حيث النجاسة.. وقد ذكرنا الحكمة التي نفهمها من ذلك.. بينما المفرزات الأربع من بول وغائط ودم ومني، وهي الأوسع أثراً والأشمل ضرراً، قد خُصّت في تشريع الطهارة بتسميتها بالنجاسات. ومن الواضح أنها إذا وجدت في لباس الإنسان أو على جسمه، خاصّة في الأماكن التي تطرح فيها ويطول عليها الزمن محتفظة برطوبتها، فإنّها تصبح سبباً للقذارة المباشرة وبيئةً ملائمةً لنمو الميكروبات، فضلاً عمّا يحدث فيها من تحلّلات وتفاعلات كيماوية تهيّج الجلد وتؤذيه وتُسهِّل للأحياء الطفيلية الأخرى كالفطر مهاجمته والنمو فيه. ولذلك كانت الطهارة تعني إزالة هذه المواد عن الجسم وإزالة أثرها بالماء.. كذلك فإن حماية البيئة منها تقتضي اتّباع آداب معيّنة وتعليمات خاصة في التخلص منها. خاصّة في حالة البول والغائط، ومن هنا كان تقبيح وعدم جواز التبوّل والتغوط في المياه راكدةً أو جارية، أو في الأماكن العامّة التي يرتادها الناس كالطرقات ومنازل القوافل وموارد المياه والسقاء ومساقط الثمار ونحوها، مما يكون تلوّثه سبباً للتلوّث العام. فلو أنّ الناس راعوا ذلك في جمع وإتلاف مفرزاتهم لكان فيه خطوة متقدمة في حقل الوقاية الصحية وحماية البيئة الحيوانية والنباتية، من هنا علينا أن نلحظ دور الطهارة وأهميته في الوقاية الصحية.   - التلوّث من الحيوان: إنّ الحيوانات في الطبيعة تعتبر كالإنسان مصدر تلوّث، وهذه على أنواع: 1- الحيوانات الشاردة: التي تعيش في البراري والغابات بعيداً عن الأماكن المأهولة. فهذه من جهة أولى لا يتعرض لها الإنسان إلا عَرَضاً، فليس منها خطر يعتدُّ به يقتضي تشريعاً خاصّاً. ومن ناحية أخرى فإن طبيعة حياتها في العراء تجعل إفرازاتها بشكل عام تحت تأثير الخاصيّة المطهِّرة للطبيعة بفعل الامطار والشمس، فضلاً عن أنّ هذه الحيوانات ليست عرضة كثيراً لنفس الأمراض البشرية، مما يجعل خطرها على الإنسان غير ذي بال. 1- الحيوانات الأليفة: وهي على نوعين: أ- آكلة الأعشاب: وهي بسبب اختلاف مأكلها نجد أن إفرازاتها من البول والغائط مختلفة عن الإنسان، إلى جهة عدم احتوائها نفس الميكروبات أو عدم ملاءمتها لنموّ هذه الميكروبات، مما يجعل بولها وغائطها أقلّ خطراً من مفرزات الإنسان أو الحيوانات الأخرى "اللاحمة"، وهي في معظمها مما يربيه الإنسان بنفسه معتنياً بمأكلها ومشربها.. ومعظم هذه الحيوانات مأكول اللحم. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه المحلّلة الأكل على وجه العموم تختار بغريزتها المأكل والمشرب، على عكس بعضها الآخر من آكلة الأعشاب التي لا تتخيّر في مأكلها، إذ أنها ذات ميل خاص إلى اختيار البيئة القذرة لعيشها وإلى الفضلات القذرة لمأكلها ومشربها، كحالة الخنزير والجرذ، ولعلّ هذا ما جعلها في الشريعة الإسلامية محرّمة اللحم، وكذلك ذات نجاسة خاصة.. والله هو الأعلم بمقاصد تشريعه. ج- آكلة اللحوم: وهذه ما يُعايش بيئة الإنسان وليست أليفة بالضرورة وهي بشكل عام مما لا يحلّ أكله كالهِرَرة والكلاب، فهي تأكل اللحم والميتة، مما يجعلها قابلة للإصابة بأمراض ونقلها بما يفوق إمكانية آكلات الأعشاب في هذه الناحية. إنّ تلوّث البيئة والإنسان من هذه الحيوانات، يحصل من خلال مفرزاتها بالدرجة الأولى. ودرجة الخطورة تأتي حسب الترتيب الذي اتّضح في التفصيل السابق ويصنفها تشريع الطهارة على النحو الآتي: 1- الحيوانات المحرّمة اللحم ذوات النفس السائلة: وهذه مفرزاتها الأربع (البول، الغائط، الدم، المني) كمفرزات الإنسان من حيث النجاسة. ويدخل في هذه الحيوانات: المفترسة والشاردة والأليفة اللاحمة. وما تعنيه النفس السائلة، هي أن يكون للحيوان عروق تشخب الدم عند الذبح.. فتخرج منها الأسماك والأفاعي. 2- الحيوانات المحلّلة اللحم ذوات النفس السائلة: فالمني والدم منها نجسان، أمّا البول والغائط فلا، لكونها من آكلة الأعشاب كما بيّنّا سابقاً لكن عندما تصبح جلالة (أي تأكل الغائط) عندئذ ينطبق عليها ما ينطبق على محرّمة اللحم، من حرمة لحمها ونجاسة مفرزاتها الأربع ما دامت على حالتها جلّالة حتى تبرأ منها بعد مدة من الزمن وتعود إلى طبيعتها في المأكل، وفي هذا لفتة هامّة جدّاً في الشريعة الإسلامية في حقل الوقاية الصحية.. ويظهر جلياً أن تعامل الإنسان مع هذه المفرزات الحيوانية ينبغي أن يكون كتعامله مع مفرزاته في وقاية نفسه وبيئته منها. إنّ تلوّث البيئة من الحيوان يأتي أيضاً من الميتة، التي هي من النجاسات وينبغي التعامل معها من هذا المنطلق.. ويبقى بالإضافة إلى الميتة والمفرزات الحيوانية، أن هناك حيوانات لها اعتبار خاص من حيث قذارتها وقابليتها على نقل الأمراض إلى الإنسان، مما استدعى أن يكون لها تشريع خاص، وهي الكلب والخنزير، فقابليتهما على نقل كثير من الأمراض تفوق بضع عشرات من المرّات قابلية الحيوانات الأليفة الأخرى، ولذلك قالت الشريعة – ليس فقط بنجاسة مفرزاتهما – بل بنجاستهما أيضاً بالذات. وبشكل عام فإنّ إبعاد الحيوانات التي لا ضرورة لها في حياة الإنسان عن بيئته، يُقلِّلُ من مصادر التلوّث، ولعلّ هذا هو السبب في حرمة تربية بعض الحيوانات من أجل اللهو والعبث كالقرد مثلاً. فيما خلا هذه الحيوانات النجسة والميتة والمفرزات الحيوانية على التفصيل الذي مرّ، فإنّ الحيوانات الأليفة لا تشكل خطراً كبيراً على بيئة الإنسان إذا اعتنى الإنسان ببيئته وحماها من مصادر التلوّث، الأمر الذي يُحقِّق بالنتيجة حماية هذه الحيوانات ذاتها، ولكن لا يعني ذلك أنها تامّة البراءة، فهي قد تمرض كما يمرض الإنسان شأن البقر المصاب "بالتولاريميا"، لكن حالة المرض هذه، هي حالة استثنائية خاصة وظرفية، فواجب الإنسان أن يتعامل معها بجهده الذاتي، وهذا من مهمة الطبّ الذي يحتاج إلى تعامل خاص ظرفي، يختلف عن إطار التشريع العام الشمولي لذلك لا نتوقع من تشريع الطهارة التعامل مع هذه الاستثناءات الظرفية، إلا بما لها من أثر عام. وفي هذا الإطار تدخل حرمة شرب دم الحيوانات ونجاسته كذلك، وحرمة أكل الحيوان المريض: "المتردّية"، وما كان محتملاً مرضه: "النطيحة" فهذه قد يكون عراكها مع حيوان آخر سبباً محتملاً لمرض أحدهما، و"ما أكل السبع" لأنّ الحيوان المفترس الذي يأكل الميتة قد يحمل في فمه ولعابه ومخالبه الأمراض الخطيرة.   المصدر: مجلة نور الإسلام/ العدد الأول لسنة 1988م

ارسال التعليق

Top