• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مَن هم المخاطَبون بالشريعة؟

مَن هم المخاطَبون بالشريعة؟
◄اتفق المسلمون كلُّهم على أنّ أحكام الشريعة شاملةٌ لكل مكلّف من ذكر وأنثى قد وصل إلى سنّ التكليف، وهم متساوون بالنسبة إليها، لا فرقَ في ذلك بين ملك ومتسوّل، أو رجل وامرأة، أو أسود وأبيض، أو غني وفقير، لقد خاطب القرآن الكريم بآيات عديدة وبأسلوب واضح وصريح كلاً من الرجل والمرأة، مؤكّداً على أنّ أحكامه غير مرتبطة بجنس معيّن، كما نقرأ في هذه الآية: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الأحزاب/ 35). وفي المجتمع الذي تحكمه شريعة الإسلام، والذي يشكّل المسلمون أكثرية فيه تكون الأقليات الدينية الرسمية معذورةً ومُعفاةً من اتّباع الشريعة، إلا في موارد حفظ النظام العام، وطبقاً للشرائع الإسلامية، فإنّ اليهود والمسيحيين (أهل الكتاب) في الهند، والزرادشتيين في إيران لهم شريعتهم الخاصة بهم ويقع تدبير أمورهم الشخصية والاجتماعية على عاتقهم، وهو ما يفسّر بقاء نظام حكومة الشعب قروناً عديدة في عالم العثمانيين، وفي هكذا نظام مع أنّ النظام الاجتماعي والاقتصادي إسلامي، فإنّ حقوق الأقليات الرسمية كانت محفوظةً بصورة يُؤمَن معها على حقوق الأقليات دون تعدٍّ أو إلغاء من قِبَل الأكثرية. إنّ الإمبراطورية العثمانية ضمنت حقوق اليهود والمسيحيين، وإذا كانت قد حصلت في بعض الأحيان تصادماتٌ طائفية هنا وهناك، غير أنّ عامة العلاقات الاجتماعية كان يحكمها الودُّ والوئام، بخلاف ما رأيناه إبّان تفكّك يوغسلافيا، حيث وقعت مجازرُ مروعة ارتكبها الصرب بحق المسلمين، مع ما رافق ذلك من تطهير عرقي مُورِسَ ضدّهم.   -        مقولات الأعمال والقيَم: على أساس أحكام الشريعة الإسلامية أوجبَ الله تعالى خمسَ مقولات، وجعلها في عهدة الإنسان، وهي: الواجب، والحرام، والمباح والمكروه، والمندوب؛ ويوجد في كل واحدة من هذه المقولات اختلافاتٌ دقيقة، وتقسيمات كثيرة، ليس هنا محلّ بحثها، ومثالاً على ذلك ينقسم الواجب إلى عينيّ وكفائي، فالصلاة اليومية من الأحكام الواجبة العينية، يعني أنها تجب على كل فرد مسلم، أما إنشاء المستشفيات ودور الأيتام، فهو من الواجبات الكفائية أي واجب على المجتمع كلّه، وليس على كل فرد فرد، فإذا تصدى له أحد سقط عن الآخرين. كذلك إنّ أركان الإسلام، والتوجه الكامل لسلامة الفرد من جملة الواجبات، كما أنّ حماية الأسرة وإطعام المساكين والجائعين والإنفاقَ على الزوجة تندرج تحت مقولة الواجب، أمّا المستحَبّات فهي أعمال ليست بواجبة، لكنّها مرضيّةٌ لله سبحانه، وموجبة للعزة الأخروية، وهي تشرِّف الإنسان وتوجب له الثوابَ الإلهي، وتتَّسم تلك الأعمال بشمولها لأعمال الخير التي تتمّ تطوعاً، كبناء المدرسة والمستشفى، والإتيان بالنوافل والاستنان بسنّة النبي (ص) الشخصية، هذه الأعمال كلها ندبت الشريعة لها ولم توجبها، ومقولة الحرام تشمل جميع الأعمال التي يوجب ارتكابُها العذابَ ويوجب تركُها السعادةَ والأجر، بعبارة أخرى تشمل مقولة الحرام كلَّ الأحكام التي تقع تحت (لا تفعل) وتقع في عشرة أمور، ومثالها القتل والزنا والسرقة وأعمال أخرى، مثل أكل لحم الخنزير وشرب الدم وشرب الخمر وأكل الربا ولعب القمار والجميع بين الأختين والنظر إلى عورة الأجنبي وغيرها، ويقع تحت هذه المقولة الكثيرُ من المسائل الأخلاقية والمعنوية وحتى المسائل المرتبطة بالنظام الغذائي للإنسان. أمّا المكروهات، وهي الأعمال التي يكون تركُها أولى من فعلها، وهي تقابل المندوبات، فإنّ الشارعَ لم يحدد عقوبة على ارتكابها، لكنّ اجتنابها يوجب الأجر الجزيل من الله سبحانه، فالطلاق مثلاً، جائز شرعاً، إلا أنّه من أشد المكروهات إلى الله "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"! واستعمال أواني الذهب والفضة كذلك من المكروهات، ومسائل أخرى خاصة بالاقتصاد أيضاً كالعزم على شراء سلعة كان قد اشتراها آخر. وأخيراً المُباحات، وهي الأعمال التي يكون الإنسان فيها مطلقَ العنان، وأفضل مثال على ذلك الأغذية التي جوَّز القرآن تناولها، وقد ينقلب العمل من حرام إلى مباح، وذلك عند الضرورة، كما لو أكل شخص من لحم حيوان ميت لأجل سدّ رمقِه، وإنقاذ حياته من خطر الموت، مع عدم وجود شيء آخر يأكله، وعموماً، إنّ كل عمل لا يندرج تحت المقولات الأربع سابقة الذكر، ولا يجلب ضرراً معيناً فهو مباح، وحيث إنّ الكثيرين من المسلمين يعيشون في الغرب فقد وَجدَت كلمة (حلال) طريقها إلى الثقافة اليومية للكلمات الإنكليزية المتداولة، وهذا الأمر يحتاج إلى توضيح للعلاقة بين مقولة الحلال والأحكام الخاصة بالنظام الغذائي، وإن كانت مساحة هذا الموضوع أوسعَ من أن تحصر في هكذا بحوث. توجد في الإسلام مرتبطة بنظام الأطعمة والأغذية وترجع أصول تلك الأحكام إلى الدين، كما تُعتَبر الطريق إلى صنع حياة مقدّسةً، هذا وإنّ تلك الأحكام، وإن لم توجد بتلك الدرجة من التعقيد كما في الديانة اليهودية والهندية، إلا أنّ هناك مشتركاتٍ فيها بين الديانة الإسلامية واليهودية، فالمسلمون لا يأكلون لحم الخنزير، ويتجنبون كل ما يمكن أن يخرج منه، من دُهن وغيره، وكذلك اليهود، وأيضاً يشترك المسلمون واليهود في أكل لحوم الحيوانات من البقر والغنم والطيور وأمثال ذلك، مع التأكيد على أن تكون وفقَ الضوابط الشرعية، ومذبوحةً باسم الله. أمّا المسيحيون فيعتقدون بأنّ ذبح المسيحي يقتضي عدم ضرورة الذبح الشرعي للحيوانات التي يأكلون لحمها، وأنّ ما يُسمّى عند اليهود بـ(اللحم الطاهر) قريبٌ وشبيه جدّاً باصطلاح اللحم الحلال عند المسلمين، ويتجنب المسلمون أيضاً المشروبات الكحولية لا لأنها كلحم الخنزير في نجاستها – كما هو اعتقاد المسلمين واليهود بالنسبة إلى هذا الحيوان – بل بحسب ما ذُكر من أنّ مضارَّها أكثر من منافعها. ويعتقد قسم من الغربيين أنّ هذا التقسيم الخماسي للأحكام في الشريعة الإسلامية من شأنه أن يستلبَ روح الحياة الدينية ويستبدلها بحياة ميكانيكية خالية من العواطف، وهذا الكلام ليس صحيحاً في حق الإسلام، ولا يوصف به أيُّ دينٍ آخر كاليهودية التي تتمتع بشريعة شبيهة بشريعة الإسلام وكذلك عند الهنود؛ لأنّ تلك المقولات الخمس هي إشارات وعلائم دالّة في طريق الحياة. الطريق الذي لابدّ من طيِّه، سواء في ذلك الرجل أم المرأة، والذي يحمل في كل خطوة من خطواته صراعاً بين قوى الخير والشر الكامنة في النفس أو على حدّ تعبير سيمون ويل (الجاذبة والموهبة الإلهية). إنّ الشريعة المقدّسة – أيّة شريعة – لا تقلل من نشاط الإنسان في الحياة ومسؤوليته العظيمة في الاختيار؛ بل إنّ كل دين يتناسب مع الأصول والموازين الحاكمة على أجوائه وبيئته. في حين يبقى النشاطُ والهيَجانُ الروحي على نسق واحد بين أتباع الديانات المختلفة؛ سواء أكانوا يهوداً أو زرادشتيين أو مسيحيين أو مسلمين أو هندوساً أو بوذيين أتباعَ ديانة تاو أو كنفوشيوس أو أتباعَ واحد من الديانات البدائية. إنّ الشريعة الإسلامية لا تلغي هذا النشاط، ولا تنفي مسؤولية الإنسان إزاء خالقه ووجدانه، بل تقوم بتأمين الحياة الفردية والاجتماعية للإنسان، وتُضفي قداسةً على الحياة اليومية. المصدر: كتاب قلب الإسلام.. قيم خالدة من أجل الإنسانية

ارسال التعليق

Top