• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

وسائل الإعلام.. الاحتواء والاغتراب

د. زكي حسين جمعة

وسائل الإعلام.. الاحتواء والاغتراب
يواصل الإعلام تشديد قبضته على الأسرة، التي باتت تشاهد التلفاز وتتعامل مع الإنترنت ووسائل الإتصال المتعددة، بشكل شبه متواصل، وذلك بفضل تحسن الإرسال وإزدياد القنوات المتاحة ووفرة الأجهزة والخدمات المقدمة والبرامج المفضلة. ويواصل الإعلام من خلال ذلك نشر معلومات وأفكار، وأخبار ووقائع وتقديمها، ويخاطب عقول الناس وعواطفهم ويعمد إلى الاقناع، وبث المظاهر الثقافية واحتواء الأنفس والتأثير المباشر في سلوك الفرد والمجتمع، ومخاطبة عقول الجماهير وعواطفها. وبات الإعلام يؤدي دوراً هاماً اليوم في "توجيه الرأي العام، وإعداد الجماهير في اتجاه معيّن، وتزويدها بالمعلومات. كما يؤدي دوراً رئيسياً في عملية التنشئة والتطبيع والنمو الاجتماعي للفرد بصفة عامة". ما يعني هذا أنّه بات مسيطراً على الفرد عن بعد وعن قرب في آنٍ معاً، أي أنّ الجهات التي تريد أن توصل أفكارها ترسلها عبر وسائل الاتصال والإعلام ويتمكن أي فرد في العالم من التقاطها عبر الوسائل المتوافرة لديه. وهذا بالطبع ما يثير القلق لدى مزيد من الناس، خصوصاً الذين يحرصون على تضامنهم الأسري، إذ أخذ أفراد الأسر يتفلتون من هذا التضامن كلما تواصلوا أكثر مع وسائل الإعلام والاتصال. ويتركز القلق بشأن التلفاز وأخطاره، عموماً، على البرامج التي يشاهدها الناس، فهي عنيفة فوق الحد، ضحلة أكثر مما ينبغي، جنسية أكثر مما يلزم، سخيفة جدّاً، أكثر من ذلك، بات التلفاز أداة لشغل الوقت ولم يترك مجالاً لأفراد الأسرة للتواصل الإيجابي فيما بينهم إلا فيما ندر. هذا الأمر، أثر في أساليب تربية الأطفال، وبدّل من عادات وغيب قيماً، ولم يعد بالإمكان السيطرة من قِبَل الآباء، كما كان الأمر سابقاً. حتى هم أنفسهم، أخذ التلفاز، أو الكمبيوتر أو الإنترنت يشغلهم أكثر عن أولادهم. وبتنا في حال اغتراب عن العادات والتقاليد والقيم الأسرية التي كانت محور حياة العائلة. ولم تعد هذه المسائل هي التي تحتوي الأفراد وأعضاء الأسرة وإنما بات فعل الاحتواء الثقافي والاجتماعي والمعرفي يأتي من وسائل الإعلام والاتصال. وباتت هذه الوسائل هي المحددة أكثر للسلوك الاجتماعي للأفراد، إذ وببساطة جدّاً، يتأثر الأطفال سريعاً بما يشاهدونه من مشاهد عنف أو جنس أو غير ذلك، ويبدأون بمحاولة تقليد ما يشاهدونه. وتقول إحدى اللواتي تمّ توجيه السؤال إليهنّ حول هذا الأمر، إنما تخشى كثيراً من تصرفات أطفالها بعد مشاهدتهم للتلفاز، وخصوصاً أفلام العنف التي تعرض، إذ يعمدون إلى تقليدها واقعياً فيما بينهم، وأحياناً يستعملون أدوات منزلية لذلك. وهذا أمر مفزع نوعاً ما. إنّ التنوع العاصف للصور المعروضة أمام العين والسمع ووابل الأصوات البشرية وغير البشرية الآتية من الأجهزة، حولتها من وهم إلى حقيقة اجتماعية معبرة ومنصت إليها، إذ من السهل أن تضلل الوسائل الإعلامية الفرد المشاهد أو المستمع عن حقيقة اجتماعية ما أو ثقافية أو سياسية... إلخ، لتدفعه باتجاه آخر، خصوصاً إذا كان من المدمنين على متابعة تلك الوسائل. تقوم وسائل الإعلام ببث مثيرات شتى يستجيب لها الدماغ، بصرف النظر عن المضمون المعرفي أو الاجتماعي للبرامج المبثوثة. إنّه عمل يهدف إلى توجيه مادة حسية بطريقة معينة يستلزم تلقيها من المتلقي، وأكثر من يتلقى هم الأطفال الذين يقضون وقتاً أكبر أمام شاشات التلفاز خاصة. إنّ ما ينجم عن ذلك من تأثير مباشر على الأطفال هو ما يثير القلق، إلى جانب تأثر الآباء، إذ يؤدي ذلك إلى تبدّل في طرق تربيتهم. عموماً، لم يعد الآباء يتابعون أطفالهم كثيراً في أداء فروضهم المدرسية والمنزلية، وأصبحوا يكلون ذلك إلى المدرسة، ويغضون طرفهم كي لا يشغلهم ذلك عن تلبية رغباتهم. يقول أحد الذين تم توجيه السؤال إليهم، إنّه يقضي معظم الوقت بعيداً عن أولاده وأسرته، عادة ما ينشغل مع الأصدقاء، وحين يأتي إلى المنزل يفضل الجلوس أمام الكمبيوتر أو التلفاز، وهو يظن أنّ المدرسة تقوم، وعليها أن تقوم بواجباتها تجاه أولاده. إلى جانب ذلك، بات من الملاحظ أيضاً، أنّ الأولاد يقضون وقتاً أكثر خارج المنزل مع الأصدقاء، ووقتاً أكثر داخل المنزل أمام التلفاز أو الكومبيوتر أو الانترنت. ولما كان الأهل يريدون مشاهدة برامج خاصة على التلفاز والأولاد كذلك، فقد يعمد الأهل في كثير من الأحيان إلى شراء أجهزة تلفزة يضعونها في غرف أطفالهم، للتخلص من "ازعاجهم"، ما يزيد من الوقت المستهلك من قبل الأولاد أمام الشاشات، والذين سيطيلون السهر في الليل. منذ الولادة وحتى عمر سنتين أو ثلاث سنوات يكون الأطفال عبارة عن كتلة عصبية آخذة في النمو. بعد هذا العمر، يصبح بإمكان الطفل التحكم أكثر بجهازه العضلي، فهو يستطيع تركيز العينين، وأداء الحركات المعقدة، والمشي، والتواصل بمهارة عن طريق الكلمات، وممارسة تأثيره على الوالدين، ويكافح من أجل إشباع رغباته، فيُقبل متلهّفاً على التعلم والاكتشاف والفهم. عند إتاحة المجال لهم أو تعويدهم كما يفعل بعض الأهل، على مشاهدة التلفاز بكثرة أو استخدام جهاز الكومبيوتر والإنترنت لوقت أطول، نصبح أمام أطفال مدمنين على ذلك خاضعين لكل ما يبث لهم، وهم لن يشعروا بالاشباع بل سيطلبون المزيد وسيواصلون ممارسة المشاهدة، والتأثر والتعلم والفهم عن طريق تلك الوسائل. تقول سيدة منزل إنها اعتادت أن تضع ابنتها أمام جهاز التلفاز في وقت مبكر جدّاً، حتى تهتم هي بأعمال المنزل، وقد أدى ذلك إلى الإدمان عند الطفلة حتى بعدما أصبحت في سن لا بأس بها، تحتاج بقوة إلى مشاهدة التلفاز حتى تشعر بالارتياح. سوف يلاحظ الآباء نتيجة ذلك أنّ سلوك أطفالهم يظهر تدهوراً بمجرد الانتهاء من مشاهدة التلفاز، وقد أشارت مجموعة من الأُمّهات اللواتي تم توجيه السؤال إليهنّ حول هذا الأمر، إلى انهنّ لاحظن أنّ أولادهنّ الذين ينصرفون بعد ساعة أو ساعتين من المشاهدة في حال غير سليمة، إذ يتحولون إلى سيئي الطباع، متعبين، عنيدين، غير مستجيبين، وأنّهم في اللحظة التي يغلق فيها جهاز التلفاز يثيرون الضجيج وحالاً من التململ والرفض. حدة الطبع هذه التي تظهر لدى الأطفال عقب المشاهدة، تبدو إشارة هامة للآباء، حول سلوك أطفالهم وتطورهم العقلي والعصبي والنفسي، وهذا يتطلب منهم التصرف بسرعة حيال فهم أنماط سلوك الأطفال ومحاولة استعادة زمام المبادرة في عملية التنشئة. تثير حدة الطبع التي تلي مرحلة المشاهدة لدى الطفل قلقاً، ولكنها تستدعي التساؤل حول شعور الطفل في أثناء المشاهدة. إذا كان طبعه سيئاً بعد اقفال التلفاز، فما هو شعوره في أثناء المشاهدة؟ الواضح أننا جميعاً غير قادرين على تحديد ذلك، وإنما يبقى الأمر موضع قلق من عدم معرفة حجم التأثر، والانشداد من قِبَل الطفل. تقول إحدى السيدات، "إنّ طفلها ينشد إلى مشاهدة البرامج المتلفزة أكثر من أي شخص آخر، وإنّه يرفض في أثناء ذلك الأكل أو الشرب أو الإجابة عن أي سؤال، أو فعل أي شيء آخر، ويبدو وكأنّه يأخذ كلياً من عالمه أمام الشاشة ويعيش في عالم آخر. هذا أمر مقلق فعلاً بالنسبة لي ولزوجي ولا أدري إن كنّا نستطيع أن نمنعه من المتابعة أو حتى التخفيف من الوقت الذي يقضيه أمام التلفاز". هل هذا الكلام يعني إدراك الأهل لخطورة ما يجري حين يتسمر الأولاد أمام الشاشات، وهل أن ذلك سيدفعهم للتصرف، في بلد مثل لبنان، أصبحت فيه محطات التلفاز تضاهي طوائفه عدداً وهو مفتوح على العالم بشتى وسائل الاتصال؟ هل يستطيع الأهل إعادة احتواء الأبناء ومنعهم من الاغتراب في منازلهم؟ تشير إحدى الأُمّهات إلى أنها تدرك مدى ما يتركه التلفاز من آثار على أولادها، وما يثيره من مشكلات، وقد عملت مؤخراً إلى قطع خط الانترنت عن المنزل وتسعى لإيقاف خط الاشتراك بالمحطات الفضائية المشفرة، بعد أن اكتشفت كيف أنّ أولادها يقضون طوال الليل أمام إحدى الشاشات لمشاهدة أفلام الجنس، وهم لا يزالون في سن 11 و12 و13 سنة، وهذا ما أشعرها بالخوف الشديد والقلق، وسارعت إلى التصرف قبل فوات الأوان. عند توجيه السؤال إلى أحد الأبناء، قال: "أنا كنت أشعر دائماً بحال طيبة وأنا أشاهد البرامج المتلفزة لكن لدي مشكلة أنّه عندما أكون أمام التلفاز لا أتمكن من فعل أي شيء آخر، والمشكلة الأكبر أنني أشاهد التلفاز طوال الوقت الذي أقضيه في البيت وحتى أكثر الليل". تظهر الاشارات الأولية لتلك الإجابات وجود مشكلة في العلاقات داخل الأسرة متأتية من استخدام مكثف لوسائل الإعلام، ما انعكس على إمكانيات التربية والتنشئة والتمرين، وفي إمكانيات التواصل بين أفراد الأسرة وفي حصول حال من الافتراق والاغتراب النفسي والفكري وحتى العاطفي بينهم. هنا سؤال يحتاج إلى معالجة، في ظل استمرار تاثير وسائل الإعلام، وفي ظل وجود عناصر ثقافية – اجتماعية تقدمها عوامل التنشئة الاجتماعية المختلفة، في الأسرة والمدرسة... إلخ. كيف يمكن أن تتعايش نماذج ثقافية وسلوكية متباينة تنهل من انساق متنوعة ومتعارضة؟ وكيف يمكن للطفل أن يتمثل تلك العناصر؟ الإجابة عن هذا السؤال تحتاج إلى بحث في السلوكيات المختلفة عند الأطفال الذين يميلون إلى التلفاز أو الإنترنت وغيرها، أكثر من أي شيء آخر. وفي متابعة أجريناها على عدد من الأطفال تبيّن لنا جملة من السلوكيات التي تطال الشخصية واجتماعياتها إلخ... وسنعرض لمشكلتين هامتين بنظرنا في هذا الإطار: 1-    التأخر الدراسي 2-    العدوانية والعنف   أ‌-      التأخر الدراسي: لم يغب عن بال أفراد المجتمع أنّ عمل الأُم في بيتها يحتاج إلى تدبير وإدارة واقتصاد وتفرغ ودقة وعلم وفكر إضافة إلى الإحساس والعاطفة، والحنان، فهي تمنح الأسرة كل تلك الاحتياجات، ما يساعد على بناء شخصيات متوازنة لدى أطفالها. ويقال إنّ غيابها عن البيت يشكل خطراً جسيماً على تربية الطفل، فقد يعرضه ذلك لكثير من المشكلات النفسية التي تؤثر في سلوكه. والأب، أيضاً، له دوره هنا، فهو يسهم في حماية الأسرة من مخاطر عديدة، وغيابه يؤدي إلى إحداث اضطرابات نفسية وقيمية وبروز مصاعب شتى. هذا من الناحية العامة، في الخصوص، هناك نماذج مختلفة، تفيدنا في بحثنا عن إجابة عن سؤال، هو، إلى ماذا يؤدي غياب الأهل عن الطفل؟ تتطلب التربية والتنشئة المنزلية اهتماماً مباشراً، ورعاية مباشرة للأطفال والأولاد، وهذا الاهتمام وتلك الرعاية، بحاجة إلى مؤهلات ثقافية وقيمية وكثيراً من الفطنة والحس والحكمة إضافة إلى العلمية والفضائل الإنسانية والحنان والعطف والحب وكثيراً من الصبر. في غياب كل ذلك أو جزء منه سوف نكون أمام مشكلات نفسية يعاني منها الأولاد. في الحالات التي درسناها، يظهر أنّ الأهل: الأُم أم الأب، لديهم ميل لعدم الاهتمام والرعاية المباشرة. ويبدو ذلك واضحاً من خلال حثهم الطفل على مشاهدة التلفاز لوقت طويل، كي يتلهى عنهم ويتسنى لهم القيام بأعمال أخرى. نوعية البرامج التي يشاهدها الطفل والمدة التي يقضيها أمام شاشة التلفاز تجعل منه شخصاً مشبعاً بقيم تلك البرامج، متماهياً بأبطالها، فينعكس ذلك في تفكيره وسلوكه المباشر، ويؤدي إلى عدد مشكلات أساسية من مثل: 1-    ضعف الميل للمذاكرة: فهو يشعر بالفتور والكسل وعدم الرغبة وعدم الاهتمام بمراجعة دروسه، أو التحضير المسبق لها. 2-    عدم التركيز والانتباه: إذ يجد الولد نفسه أمام كمّ هائل من المواد المتنوعة والموضوعات المختلفة التي تحتاج إلى دراسة متأنية وتركيز، وكلها أو معظمها لا تتفق مع ميوله واستعداده، في وقت تتزاحم في عقله صور متلفزة. ف – ح وهي أم لثلاثة أبناء، تقول إنّها لاحظت أنّ ابنها البكر عانى كثيراً في الدراسة، ولم يكن لديه رغبة في المذاكرة، "كان يأتي من المدرسة مرهقاً وأحياناً كثيرة يعاني من صداع، ويتجه مباشرة إلى التلفاز، ويتسمر أمامه لوقت طويل. وكان يرسب باستمرار، بادئ الأمر ظننا أنّ المشكلة من المدرسة، ونقلناه إلى مدرسة أخرى، لم يتغير الوضع. وظننا، أيضاً، أنّ المشكلة من المدرسين. حاولنا المعالجة والتقيت بجميعهم، لكن المشكلة لم تكن عندهم، إحدى المعلمات لفتت انتباهي إلى إمكانية أن يكون ابني متعلقاً بأمور أخرى تأخذ كل وقته وتفكيره، وتنبهت إلى شغفه بالتلفاز وبدأت أستعرض معها كيف يمضي وقته في البيت، واستنتجنا معاً، أنّ المشكلة في كيفية تمضية وقته في المنزل، فهو يتسمر أمام التلفاز طيلة الوقت، لا يجالس أحداً، عنيف بتصرفاته مع الآخرين، مزاجه غير مستقر عندما يبتعد عن التلفاز، لا يهدأ حتى يعود إليه، ومنذ ذلك الحين بدأنا أنا ووالده وبمساعدة تلك المعلمة متابعته، وتدريجياً مُنع من مشاهدة التلفاز، وشجّعناه على التفاعل مع رفاقه في المدرسة، ومع أبناء الجيران، ونجحنا في النهاية، رغم أنّ الأمر كان صعباً، وقد تعلّمنا من ذلك درسنا، الآن نحن نحرص على الاهتمام أكثر بأولادنا". ر. أ. تقول: "إنّ ابنتي كانت ترفض المذاكرة في البيت، وكنا نجهد من أجل إقناعها بذلك، وكانت كثيراً ما ترتفع حرارتها صباحاً، وتتعامل معنا بفظاظة، عندما يحين موعد المدرسة. ولديها ميول نحو التلفاز بشكل كبير، ونحن السبب في ذلك، لم نهتم بها كثيراً وتركناها للشاشة". تظهر هاتان الحالتان مدى التأثير المباشر الذي يحصل، عندما يترك الولد لساعات أمام شاشة التلفاز، وكيف تنمو شخصيته، ومدى المعاناة التي يعيشها محيطه، فهو مختلف عنه تماماً، يتماهى بأبطال البرامج وقيمهم، ويسلك سلوكهم، ويصبح لديه خوف ورهبة من المحيط ويلجأ إلى المراوغة والكذب في كثير من الأحيان.   ب‌- العدوانية والعنف: تقول م. ع. إنّ ولدها ح. (10 أعوام) "استيقظ ذات يوم من نومه صباحاً، وبدون أي مبرر انقضّ على أخيه الأصغر م. (8 أعوام) سارعت أنا ووالداه إلى التدخل وفصلنا الولدين المتعاركين عن بعضهما، وقد ظننا بداية أنّ ما فعله (ح) لا يعدو كونه شقاوة طفل (ورشنة). لكنه عندما وصل إلى المدرسة، وفي وقت الفرصة وحين نزل الأولاد إلى الملعب، كعادتهم بدأوا باللعب، وانقسموا إلى فريقين، لتبدأ لعبة "اللقيطة"، ركض (ح) واستطاع زميله الإمساك به، فكانت ردة فعله أنّ لكمه بقوة على وجهه، ودار عراك، وما أن تكشف العراك بعد تدخل المعلمين، حتى ظهر (ح) وهو يبتسم، إدارة المدرسة لم تولِ الأمر الأهمية اللازمة، فهي ظنت انّه "ورشنة". بعد عودته إلى المنزل، استراح وأخذ قيلولة، وما إن استفاق حتى بادر لمهاجمة أخيه الأصغر، وتتكرر الأمر في اليوم التالي في المنزل وفي المدرسة. فبادرنا إلى أخذ تدابير قاسية بحقه نحن وإدارة المدرسة، في اليوم التالي، ظهرت العدوانية عنده أكثر وأخذ يكسر ما تطاله يده من أثاث دون أي مسوغ، وعاد ليضرب أخاه الأصغر. هنا وبعد أن تشاورنا مع إدارة المدرسة، ذهبنا إلى طبيب نفسي، وقد ساعدنا كثيراً مع أنّه لم يحقق نجاحاً كاملاً، وباشرنا بتنفيذ تعليماته، فزدت من جرعة الحنان والاهتمام وضاعفت أنا وزوجي الأوقات التي نقضيها مع الأولاد، ومنعناهم من متابعة التلفاز بشكل تدريجي، وبدأنا نشعر بتقدم عند (ح) وأخذ يتشارك وأخوه الأصغر بالألعاب، أدخلناهم نادياً رياضياً وتدريجياً كنا نشعر بتحسن. الأمور في البداية كانت صعبة علينا وعليه، ولكن كان لابدّ من المتابعة مع المعوقات". تبيّن هذه الحال مدى استجابة الطفل للبرامج المتلفزة التي يتابعها، إذ تذكر أُمّه في المقابلة، انّ ولدها كان يقضي معظم الوقت أمام شاشة التلفاز يشاهد الرسوم المتحركة وبعض الأفلام العنيفة، ويرغب بأفلام الرعب، وأنّها كانت تستفيق أحياناً في الليل لتجده يشاهد التلفاز؛ إضافة إلى الوقت الذي يقضيه أمامه في النهار. الواضح أنّ الولد (ح) يتماهى بأبطاله إلى حد أنّه يشعر أنّه أحدهم وعليه القيام بعمله كما يجب، والأهل هنا لم يشعروا بالمشكلة إلا عندما بدأ ولدهم بتطبيق الأفكار التي تشبّع بها خلال مرحلة المشاهدة التي عوده عليها الأب والأُم، منذ صغره، وذلك لملء أوقات فراغه أو لإزاحته عنهم، فبدلاً من أن يتأثر بوالديه، تأثر بأبطاله الذين يتابعهم تلفزيونياً وبدلاً من أن يكون الوالدان مثلاً له، بات الأبطال هم المثل. نماذج أخرى، تفيد أيضاً، بتأثير قوي ناجم عن إهمال الأهل لأولادهم، وتركهم لشاشات التلفاز وللخادمة أو لدار الحضانة... إلخ. محيي الدين (7 أعوام) يشتكي أهله والمدرسون من تصرفاته، وتقول والدته ع – ع "لعب مع زميله فكسر له يده، في البيت يخرب ويكسر، ودائم التعصيب، لا يتقبل أحداً. وقد انقطعنا عن زيارة الناس مخافة أن يحدث ولدنا الأذى في بيوتهم. وأنا أحاول أن أبحث عن حل للمشكلة التي قال لي المعالج النفسي انّها نتيجة متابعة البرامج المتلفزة لوقت طويل، فهو بات يرفض محيطه لأنّه مختلف عمّا تأثر به في التلفاز". نضال كذلك عمره (7 أعوام) تقول والدته "إنّه يضرب رأسه بالحائط وأحياناً كثيرة يقلب الغرفة رأساً على عقب يغادر المنزل فجأة ليذهب ويضرب ابن الجيران ثمّ يعود، تأخر كثيراً في دراسته، وبشكل غريب. الآن أخذناه إلى معالجة نفسية، فبدأ يخضع لنظام غذائي جديد وخاص، وعناية ورعاية مباشرة. أول شيء منعناه عنه هو التلفاز، فحسب تشخيص المعالجة، نضال متأثر ببرامج الرسوم المتحركة وشخصياتها التي يتابعها وهو يحاول أن يقلدها، وقد بدأنا نحقق تقدماً ملحوظاً معه". ربّما يصادفنا مثل هؤلاء الأطفال في معظم المنازل اليوم، بعد ما بات اهتمام الأهل الواسع من قِبَل الأُم التي ينبغي أن تعطي الحنان والعاطفة وتعلم وترشد وتنمّي جسدياً وفكرياً، وإنّ في مستوى تأمين الحماية النفسية والمعنوية من قبل الأب، فقد بات معظم الأولاد اليوم، بين التلفاز والخادمة ودار الحضانة، وبالتالي فهم عرضة لمشكلات نفسية أكثر، نتيجة غياب الأهل لوقت طويل عنهم وغياب تعليماتهم وسلوكاتهم وتوجيهاتهم وحنانهم وعطفهم، وتأثيرهم من خلال الاتصال المباشر.► 

المصدر: كتاب مساهمات في التنشئة الاجتماعية

ارسال التعليق

Top