◄ثمرة الجهد في الدنيا والآخرة وغاية الحياة وهو من أعلى مقامات المقربين ومنتهى الإحسان في العمل والمكافأة وفي الحديث إنّ الله تعالى يتجلّى للمؤمنين فيقول: (سلوني فيقولون رضاك..) والدعاء لا يخرج صاحبه عن مقام الرضا إلّا إذا كان قائماً على الاعتراض على القضاء أو افتراض أفضلية الهوى على تقدير الله سبحانه وتعالى لأنّه بذلك يكون دليلاً على عدم الرضا. والقواعد الشرعية هي أساس تحديد مجالات الرضا ومن ثم فإنّ معيار تحقيق الرضا ليس ذاتياً أو مطلقاً وإنّما يحدده الشرع ويربط بينه وبين الوسيلة والسبيل. ولذا كان الرضا بالمنكر معصية والرضا بالعسر لما يتوقع من اليسر أمر تعبدياً. وقد أورد الغزالي في إحيائه كيفية الجمع بين الرضا والكراهة (فإن قلت قد وردت الآيات والأخبار بالرضا بقضاء الله تعالى فإن كانت المعاصي بغير قضاء الله تعالى فهو محال وهو قابع في التوحيد وإن كانت بقضاء الله تعالى فكراهتها ومقتها كراهة لقضاء الله تعالى، وكيف السبيل إلى الجمع وهو متناقض على هذا الوجه وكيف يمكن الجمع بين الرضا والكراهة في شيء واحد. فاعلم أنّ هذا مما يلتبس على الضعفاء القاصرين عن الوقوف. على أسرار العلوم وقد التبس على قوم حتى رأوا السكوت عن المنكرات مقاماً من مقامات الرضا وسموه حُسن الخُلق وهو جهل محض بل نقول الرضا والكراهة يتضادان إذا توارد على شيء واحد على وجه واحد فليس من التضاد في شيء واحد أن يكره من وجه ويرضى به من وجه.. وكذلك المعصية لها وجهان وجه إلى الله تعالى من حيث إنّه فعله واختياره وإرادته فيرضى به من هذا الوجه تسليماً للملك إلى مالك الملك ورضا بما يفعله فيه ووجه إلى العبد من حيث أنّه كسبه ووصفه وعلامة كونه ممقوتاً عند الله وبغيضاً عنده) وكذلك الأخذ بالأسباب وبذل الجهد هو من الرضا وليس اعتراضاً عليه.
والرضا المتبادل بين الخالق والمخلوق هو الفوز العظيم وهما ليس أمران متضادان أو منفصلان وإنما تقوم العلاقة بينهما على أساس أنّ أحدهما موجب للآخر وتحقيقهما قمة المقامات، (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (المائدة/ 119). (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) (الفجر/ 27-28)، وهي المكافأة التي يلقاها حزب الله ومَن اتبع هواه (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (التوبة/ 100)، (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ) (المجادلة/ 22).
ولا نجد بين المتحدثين عن غاية السلوك الإنساني أو الجهد البشري مَن يرفض اعتبار الرضا كغاية ولكن اختلافهم يكون دائماً ـ وهو معنا كذلك ـ حول معيار تحقيق هذه الغاية ومجالها. فبينما يتحدّث البعض عن إرضاء غريزة ما أو غرائز معينة كمبعث لتحقيق الرضا أو إشباع حاجات دنيوية كسبيل مؤدية إلى الإحساس بالرضا نجد أنّ الرضا الوقتي الذي يورث عدم الرضا أو الرضا بالنتيجة المقترن بعدم الرضا عن الوسيلة أو الرضا الذاتي المؤدي إلى مقت الآخرين ومقتنا إذا ما كنا في مقامهم اعتماداً على معيار ذاتي لا يمكن أن تكون ثمرته دائمة شاملة ودوام الرضا وشموله لا يتحقق بالرضا بالحياة الدنيا والاطمئنان إليها لما فيها من تغير وتبدل ولذا كان الإيمان بالآخرة وتحقيقه فيها ضرورة عملية، والأحوط من الناحية المنطقية ألا يرفض الملحد أمراً لا يرى قيام دليل يقيني قطعي عليه ولم يقم على نفيه دليل قطعي. وهو ما يجعل الرضا كمعرفة وحال وعمل بعيد المنال عليه.
والرضا بمستوى الكفاية مدعاة لإرضاء الله ببذل الجهد في حدود الاستطاعة ومن ثم يضمن استمرار الجهد لتحقيق الرضا المتبادل، ومن ثم ينشأ تقدير الفرد لقيمة الجهد المبذول في إطار الشكر المؤدي إلى مستويات أعلى، حتى يصل الفرد للرضا عما يفعله لنفسه ولغيره إرضاء لربه والاستمتاع بما أحل الله وإيماناً بوحدة الخلق حتى يصل إلى (تكامل الـ"نحن") فيسلك بها مقام الرضا الكامل عما أخذ وعما أعطى وعما ينتظر، (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا) (طه/ 112).►
المصدر: كتاب الدافعية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق