• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

عفوُ الله تعالى وصفحه

أسرة البلاغ

عفوُ الله تعالى وصفحه

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ (النساء/ 43)، العفوّ الكثير العفو، الغفور الكثير المغفرة، وكلمة (كثير) في تعبيراتنا (قصيرة) و(مقصّرة) قد يفهم بها كثير الدنيا، ولكن رحمة الله وعفوه وغفرانه من الكثرة اللّامتناهية وليس من الكثرة المتناهية، لكثرتنا حدود وليس لكثرته حدود.

ولهذا نفهم لماذا أجاب (ص) زوجته عائشة لمّا سألته عن الدُّعاء في ليلة القدر، تقولين: «اللّهمَّ إنّك تحبّ العفوَ فاعفُ عنِّي»[1]. هذا العفو الذي كان إذا فَكّر فيه الإمام عليّ (ع) قال في مناجاته: «إلهي أُفكِّر في عفوك فتهون عليَّ خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليَّ بليتي»[2]، لكنه يحسم القلق الدائر في مناجاة أخرى بقوله: «إلهي جودُك بسط أملي، وعفوك أفضل من عملي، إلهي إن أخذتني بجرمي أخذتُك بعفوك، وإن أخذتني بذنوبي أخذتُك بمغفرتك، فلا تجعلني ممّن صرفت عنه وجهك، وحجبه سهوه عن عفوك»[3].

قال أعرابيّ: «يا رسول الله، مَن يحاسب الخلق يوم القيامة؟ قال: الله عزّوجلّ. قال: نجونا وربُّ الكعبة! قال: وكيف ذاك يا أعرابي! قال: لأنّ الكريم إذا قدر عفا»[4]. بعيداً عن الفلسفة والاستغراق في معميّات العقيدة، والتنظيرات المعقّدة، استلّ هذا الأعرابي فهمه لعفو الله وصفحه وغفرانه لعباده من أخلاقية عربية تنتسب إلى المروءة، والدين في عمقه مروءة، فاعتبر في استدلال منطقيّ رائع أنّ من شيم الكريم أن يعفو عند المقدرة، وحينما يقف الناس بين يدي الله لا مهرب لهم منه إلّا إليه، ويكون الحكم له وكلمة الفصل بيده، لا يبلغ طمع الناس بكرمه كما في ذلك اليوم الذي تتجلّى فيه قدرته بأجلى صُوَرها ومعانيها، فكيف يكون كريمٌ بأعلى وأقصى درجات الكرم، ولا يكون (عفوّاً) (غفوراً)؟!

إنّ الموجب لعفوه سبحانه وتعالى عفونا بعضنا عن بعض. يقول الإمام الصادق7: «اعفُ عمّن ظلمك كما تحبّ أن يُعفى عنك، فاعتبر بعفو الله عنك»[5]. وكان مما رآه النبيّ6 ليلة الإسراء والمعراج المشهد الآتي: «رأيتُ ليلةَ أُسريَ بي قصوراً مستوية مشرفة على الجنّة، فقلت: يا جبريل، لمن هذا؟ فقال: للكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين»[6].

مرّة أخرى: أُنظر إلى (الشرط) ولا تكتفي بالنظر إلى (الجزاء). وتعليق عفو الله تعالى على عفو الناس بعضهم لبعض هو مقدّمة لعفوه تعالى عنهم لأنّه أولى بالكرم والعفو منهم، ولذلك كان من بين الذين يدخلون الجنّة بغير حساب هم العافون عن الناس. فعنه (ص): «إذا أوقف العباد (أي للحساب) نادى منادٍ: ليقم مَن أجره على الله وليدخل الجنّة. قيل: مَن ذا الذي أجره على الله؟ قال: العافون عن الناس»[7].

ومن رائع وبديع لفتات الإمام زين العابدين7 هذه المقابلة بين (عفونا) كبشر وبين (عفوه) تعالى كربّ وكإله. يقول ضارعاً بين يدي الله في ختام دعائه المروي عنه والمسمّى بـ(دعاء أبي حزة الثمالي): «اللّهمّ إنّك أنزلتَ في كتابك أن نعفو عمّن ظلمنا وقد ظلمنا أنفسنا فاعفُ عنّا فإنّك أولى بذلك منّا، وأمرتنا أن لا نردّ سائلاً عن أبوابنا، وقد جئتك سائلاً فلا تردّني إلّا بقضاء حاجتي، وأمرتنا بالإحسان إلى ما ملكت أيماننا ونحن أرقّاؤك فاعتق رقابنا من النار، يا مفزعي عند كربتي ويا غوثي عند شدّتي إليك فزعت، وبك استغثت، ولذتُ لا ألوذ بسواك ولا أطلب الفرج إلّا منك فأغثني وفرِّج عنِّي يا مَن يقبل اليسير ويعفو عن الكثير، اقبل منّي اليسير واعفُ عنّي الكثير إنّك أنت الرحيم الغفور»[8].

إنّه احتجاج (العبد) بحجّة (إلهيّة)، فـ(العفو عمّن ظلم) و(عدم ردّ السائل عن الباب) و(الإحسان إلى ما ملكت اليمين) الله تعالى أولى بها من الإنسان الذي يأتيه (ظالماً) يقف على بابه مستعطياً مسترحماً ذليلاً فقيراً، رقبته بيد مالكها لا ينقذها إلّا عفوه.. الاحتجاج بعفو الله -كما هو الاحتجاج برحمته- من أقوى الاحتجاجات التي نواجه بها المصير. يقول زين العابدين (ع) في بعض احتجاجاته: «أنت إلهي أوسعُ فضلاً، وأعظمُ حلماً من أن تقايسني بفعلي وخطيئتي، فالعفو، العفو، العفو، سيِّدي، سيِّدي، سيِّدي»[9].

ويحتج (ع) بكرم الله، كما يحتج بعفوه، فيقول: «فإن عفوتَ يا ربّ فطالما عفوت عن المذنبين قبلي، لأنّ كرمك أيْ ربّ يجلّ عن مكافأة المقصِّرين، وأنا عائذ بفضلك هاربٌ منك إليك، متنجِّزٌ ما وعدت من الصفح عمّن أحسن بك ظنّاً، إلهي أنت أوسع فضلاً وأعظمُ حلماً من أن تقايسني بعملي أو أن تستزلّني بخطيئتي، وما أنا يا سيِّدي وما خطري هبني بفضلك سيِّدي وتَصدَّق عليَّ بعفوك وجلِّلني بسترك واعفُ عن توبيخي بكرم وجهك»[10].

ويحتجُّ (ع) بالرجاء والمعرفة بكمال الله وسعة رحمته، فيقول: «فَوَعزّتك لو انتهرتني ما برحتُ من بابك ولا كففتُ عن تملُّقك لما أُلهم قلبي من المعرفة بكرمك وسعة رحمتك. إلى مَن يذهب العبد إلّا إلى مولاه، وإلى مَن يلتجئ المخلوق إلّا إلى خالقه. إلهي لو قرنتني بالأصفاد (القيود) ومنعتني سيبك (كرمك) من بين الأشهاد، ودللت على فضائحي عيون العباد، وأمرت بي إلى النار، وحُلت بيني وبين الأبرار، ما قطعت رجائي منك، وما صرفت تأميلي للعفو عنك»[11].

قارن هذا المقطع مع المقطع المساوي له في درجة العرفان والحب والرجاء في (دعاء كميل) الذي هو دعاء الخضر (ع) الذي عَلّمه الإمام عليّ (ع) لأخصّ أصحابه (كميل بن زياد): «فبعزّتك يا سيِّدي ومولاي أُقسمُ صادقاً، لئن تركتني ناطقاً لأضجّنّ إليك بين أهلها ضجيج الآملين، ولأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين، ولأبكينّ عليك بكاء الفاقدين، ولأنادينّك أين كنت يا وليَّ المؤمنين، يا غاية آمال العارفين، يا غياث المستغيثين، يا حبيب قلوب الصادقين، ويا إله العالمين، أفتراك سبحانك يا إلهي وبحمدك تسمع فيها صوت عبد مسلم سُجِنَ فيها بمخالفته، وذاق طعم عذابها بمعصيته، وحُبِسَ بين أطباقها بجرمه وجريرته، وهو يضجُّ إليك ضجيج مؤمل لرحمتك، ويناديك بلسان أهل توحيدك، ويتوسّلُ إليك بربوبيتك، يا مولاي فكيف يبقى في العذاب وهو يرجو ما سلف من حلمك..»[12].

 

 

[1]- سنن ابن ماجة، 3850.

[2]- أمالي الصدوق، 73/9.

[3]- بحار الأنوار، 94/97.

[4]- تنبيه الخواطر، 1/9.

[5]- تحف العقول، 305.

[6]- كنز العمّال، 716.

[7]- كنز العمّال، 7009.

[8]- عن (المصباح) للكفعمي.

[9]- من دعاء أبي حمزة الثمالي.

[10]- من دعاء أبي حمزة الثمالي.

[11]- من دعاء أبي حمزة الثمالي.

[12]- عن مصباح المتهجِّد للكفعمي.

ارسال التعليق

Top