• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

البيئة والديموقراطية

ألان تورين/ ترجمة: حسن قبيسي

البيئة والديموقراطية

◄إذا كانت الديموقراطية دفاعاً عن الذات قبل كلّ شيء، وإذا كانت هذه الذات عبارة عن الجهد الذي تبذله الحرّية في سبيل توحيد العقل والهوية، فإنّ تعزيز الديموقراطية يسير جنباً إلى جنب مع التخلّي عن غطرسة العقل الذي يريد فرض قانونه على الطبيعة واستغلال ثرواتها. ومن الصحيح أنّ الدعوة هنا، أو في أي مكان آخر، إلى الهوية وإلى بقاء الكرة الأرضية وبقاء محيط كلّ منا، قد تؤدي إلى مذهب طبيعي يجرّد العقل والعلم من دورهما التحريري. لكنّنا نجد أحياناً أنّ بعض الحملات البيئويّة تتصف بطابع لا عقلاني، كما تتصف أحياناً أخرى بطابع سلطوي من الطراز الديني. غير أنّ هذه الانحرافات لا ينبغي أن تحملنا على عدم القبول إلّا بطرح بيئويّ محدود الأهداف يولي اهتمامه لتمهيد الأراضي أكثر مما يوليه للحدّ من نظام (سستم) إنتاج محكوم بالبحث عن أقصى درجات الإنتاجية. أمّا معارضة كلّ أشكال الطائفية، باعتبارها سلبية، بتوسيع أُطر المعرفة والعمل اللذين يقودهما العلم، باعتبارهما وحدهما الإيجابيّين، فرجعة بعيدة إلى الوراء لا تقل إدانتنا لها عن إدانتنا لرفض كلّ أشكال الوعي القومي أو الديني بحُجة أنّها قد تؤدي إلى التعصب. والواقع أنّ هذا التّعصّب مدان هو الآخر، لكنّه ليس المعنى الوحيد الذي يمكن أن تسفر عنه الدعوة إلى الطائفة ضدّ التغيّر المجتمعي المنفلت العقال والذي يُعاش بوصفه أقرب إلى الاعتداء الخارجي منه إلى التحرّر.

إنّ أهمية الحركة البيئويّة تكمن في أنّها رفعت النزاع المجتمعي من مستوى الاستخدام المجتمعي للتوجّهات والموارد الثقافية، إلى مستوى هذه التوجهات الثقافية بالذات. فبمعزل عن الرأسمالية أو البيروقراطية صار المذهب الإنتاجي هو الذي يتعرّض لهجوم هذه الحركة التي وسّعت نطاق العمل الديمقراطي إلى حدّ كبير. كما أنّها أوّل حركة مجتمعية وثقافية ذات بُعد عام، تقوم فيها النساء بدور مهمّ كثيراً ما يتحوّل إلى دور أرجحي. ثمّ، أليست الحركة البيئويّة السياسية هي التي نجحت، ولو إلى حدّ بسيط حتى الآن، بوصل ما انقطع بين العملاء السياسيين والفعاليات المجتمعية، وأعادت إلى النظام (السستم) السياسي آمال وتخوّفات مجتمع صارت أبعاده تشتمل على الطائفة البشرية بأسرها؟ ورغم أنّ الأحزاب البيئوية سرعان ما تعرّضت للأزمات والنكسات، فإنّ المسائل التي تدافع عنها قد انتشرت في أوساط المجال العمومي، وحلّت في أحيان كثيرة، خاصّة في اليسار، محلّ المسائل التي أشاعها المجتمع الصناعي والتي فقدت قدرتها على تعبئة أعمالٍ جماعية. لقد شجب لوك فيري، بحقّ، الاتجاهات العمل البيئويّ تلتقي على التصدي لأشكال المنطق السائدة في التقنيات والسوق، كما أنّ حركة البيئة السياسية لا تجد أي عنت في الانضمام إلى الدفاع عن الأقليات العرقية والقومية والجنسية، وبالتالي إلى احترام التنوّع واحترام تنوّع الأجناس الحيوانية والنباتية.

بل إنّ الحركة العمالية لم تعد تقتصر على الدفاع عن الحرّية. بل صارت تدافع عن حقوق ومصالح عدد من الجماعات المجتمعية المخصوصة والطوائف التي تحدّدها مهنة أو منطقة. فالبيئة تعي قوى تمتاز بالمزيد من قُربها إلى "الطبيعة"، كوجودنا باعتبارنا كائنات بشرية وأجساداً حيّة، ضدّ السيطرة البرية للمذهب الإنتاجي. والديموقراطية تفقد كلّ إمارات الحياة إذا هي لم تواكب هذه الحركة في دفاعها عن الكائنات الطبيعية، في الوقت الذي تبلّور فيه تصوّراً إيجابياً أكثر فأكثر للحرّية. هذا ولا يضير حقوق الإنسان أن يُدافَع عنها بإنقاذها من أوضاع مخصوصة تورّطت فيها وأصبحت معرّضة بفعل ذلك للخطر.

إنّ ابتعادنا المتزايد عن التصوُّر الإشراقي للتحرّر لا ينمّ عن تخلّينا الخطير عنه للهوية الطائفية وللمذهب الطبيعي المعادي للعمل الإنساني الذي يسترشد بالعقل والتقنية. بل إنّه يوجهنا، بالعكس، باتجاه إعادة تركيب العلاقة بين الذات الفردية والعالم. لم يعد بوسعنا القبول بفكر وعمل يستندان إلى أزواج من التضادات ويفرضان علينا الدفاع عن الثقافة ضد الطبيعة، وعن العقل ضد المشاعر، وعن الرجل ضد المرأة، وعن الحضارة ضد البريّين. بل إنّنا نريد الجمع بين ما كان متعارضاً، والاستعاضة عن الغزو بالحوار وبالبحث عن توفيقات الجديدة. والبيئة، كحركة ثقافية، عنصر هام من عناصر هذه الثقافة الديمقراطية التي بدونها تصبح الضمانات المؤسساتية عاجزة عن حماية الحرّيات.►

 

المصدر: كتاب ما هي الديموقراطية؟

ارسال التعليق

Top