• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الصوم يصنع الحرِّية والاختيار

الشيخ عبدالله نعمة

الصوم يصنع الحرِّية والاختيار
◄للصوم في تاريخ الشعوب والديانات شأن كبير، وان اختلفوا في أشكاله وحدوده، فلدى بعضها الإمساك عن الكلام، كما تشير إليه الآية: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (مريم/ 26). ولدى بعضها الإمساك عن الحركة إلا حركة معينة، كما يحكى ذلك عن بعض تقاليد الهنود القديمة، وأصحاب الرياضات النفسية. ولدى بعضها الإمساك عن أنواع معينة من المأكولات الحيوانية إلى وقت معيّن كما هو الحال في الصوم عند النصارى. أما في الدين الإسلامي فهو الإمساك عن الطعام والشراب أياً كان نوعه وعن حاجات الجسد الجنسية وغيرها في كل يوم من شهر رمضان من طلوع الفجر إلى حلول الليل، كما جاءت الإشارة إليه في الآية: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) البقرة/ 187). وبالرغم من الفوائد المترتبة على الصوم من صحية ونفسية واجتماعية وخلقية، فإنّ هناك وجهاً آخر له، لعلّه لم يتعرض له من تكلم في مثل هذا الموضوع، وهو انماء روح الاختيار والحرية في الإنسان. هذه الحرية التي هي المحور الذي تتمحور في إطاره كل أفعال الإنسان تحقيقاً لحريته واختياره على وجهها الأكمل الصحيح. ذلك لأنّ حقيقة اختيار الإنسان وحريته في أفعاله تقوم على جانبين: أحدهما أن يملك مباشرة أن يفعل، وثانيهما أن يملك مباشرة ترك ما يريد أن يفعل. وبكلمة ثانية انّ الحرية والاختيار يدوران بين إيجابية وسلبية، وإذا فقد الإنسان سيطرته على أحد الجانبين يكون حتماً قد فقد حريته واختياره. فالإنسان الذي يحقق رغباته في صدور الفعل – أيّ فعل – دائماً دون أن يمرّ في تجربته ترك ذلك الفعل ودون أن يملك زمام جماح رغباته في تركها وكبتها لا يكون حراً ولا مختاراً، لأنّه يكون بعدم سيطرته على رغباته وعلى إمكان تركها فاقداً للعنصر المحقق لمعنى حريته واختياره، لما سبق من ان حقيقة الاختيار والحرية قائمة على عنصرين أساسيين، هما ملكه أن يفعل وملكه أن لا يفعل. وكثير من الناس ينظرون إلى الحرية والاختيار من خلال قدرة الإنسان على أن يفعل ما يريد، ويهملون ويغفلون الجانب الآخر الذي لا تتحقق الحرية إلا به وهو قدرته على أن لا يفعل. والإنسان في تجاربه الحياتية لا يمارس من معنى حريته إلّا جانباً واحداً هو جانب تحقيق رغباته. أما الجانب الآخر وهو أن يملك القدرة على كبت رغباته وحاجاته الجسدية فقد تناساه وأهمله وهو في مثل هذه الحال لا يكون حراً ولا مختاراً ولا مستقلاً في صنع قراراته إلّا إذا كانت أفعاله ورغباته تحت سيطرته في مستوى واحد فعلاً وتركاً. فالصوم الذي هو ترك تحقيق حاجاته الجسدية طيلة شهر واحد، يضع الإنسان في تجربة الجانب الآخر من ركائز حريته واختياره، ويضعه في تجربة مران وممارسة عملية طيلة شهر، تنمي فيه روح الرفض لشهواته ورغباته بمختلف أنواعها وألوانها، والسيطرة على نفسه والقدرة على كبحها، ليكون مالكاً زمام حريته واختياره، ويحقق معنى حريته واختياره. ولتكون جميع رغباته واختياره وحريته ملك يديه ويستقل في صنع قراره فيها، وخاضعة لقدرته، لأن حقيقة الحرية والاختيار كما قلنا من قبل، هي قدرته على أن يفعل وعلى أن لا يفعل. ومتى كان الإنسان في كل ممارسته مقتصراً على جانب الإيجاب منها دون الجانب السلبي الرافض، كان ذلك يعني أنّه لا حرية له ولا اختيار، وإنما تتحقق حريته إذا كان يملك جانب الممارسة لرغباته، لما يملك جانب الرفض لتلك الرغبات في مستوى واحد شامل لهما معا. والملفت للنظر أن هناك ظاهرة جديدة، وإن لم تكن غريبة عن روح الدين هذه الظاهرة هي العودة بشكل ملحوظ إلى الممارسات الدينية والدعوة إلى الدين، وإن كان كثير من الشعارات الدينية المطروحة اليوم، تتخذ طابعاً سياسياً لا يخفى على أحد، ولكنها في أغلبها مدفوعة بعامل ردة فعل والرجوع إلى الأصالة الدينية بعد أن أفلست جميع الشعارات التي كانت مطروحة في مجتمعاتنا من اشتراكية وقومية وماركسية وغيرها في تحقيق أماني الإنسان في الحياة الكريمة والحرية والأمن والسلام، التي أصيب فيها الإنسان بخيبة أمل عميقة، باعدت بينه وبين تلك الشعارات التي أخذ بها فترة غير قصيرة وعلق عليها آماله في الحياة، حتى أدى الأمر به إلى الكفر بتلك الشعارات. والفعل ورد الفعل كما هو معروف فلسفياً يكون كلاهما من حيث العنف والقوة بمستوى واحد، فالكرة التي ندفعها بقوة معينة وتصطدم بالحائط ثمّ ترتدّ فإنها تحمل في ارتدادها نفس القوة التي دفعتها أولاً إلى الحائط. والناس قد عاشوا كل أنواع الشعارات والأفكار التي طرحتها فلسفات معاصرة عديدة، وعاشوا تجربتها، لم يقطفوا منها ما يحقق طموحاتهم ولا أمانيهم في الحياة، بعد أن اندفعوا إليها وتهافتوا عليها بقوة وعنف في العقود الماضية منذ القرن التاسع عشر، وجاءت ردة الفعل، وبدؤوا بتجربة جديدة كانوا قد اهملوها وصدفوا عنها نتيجة مخططات معروفة. ونعود فنقول: انّ الصوم هو كسائر العبادات التي فرضها الخالق سبحانه على عباده، الغاية منه تقريب الإنسان إلى خيره وسعادته وبناء شخصيته وتحقيق كماله الذي أراده له خالقه الذي كرمه فقال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء/ 70). ومن أولى المميزات لتكريمه أن يكون حراً ومختاراً، يفعل متى يشاء، ويرفض متى يشاء. ونتيجة قدرته على طَرَفَي الفعل بالإيجاد والترك، الذي لا يكون مجرد عدم الفعل، بل الرفض للفعل والتصميم على عدمه. ومن هنا كان على الصائم أن ينوي ويعزم على ترك المفطرات، ولا يكفي تركها مجرداً عن النية وعن التصميم، ليكون تركاً هادفاً، واستجابة فعّالة رافضة. المصدر: مجلة نور الإسلام/ العدد 11 و12 لسنة 1989م

ارسال التعليق

Top