◄حقّاً إنّ الإنسان عدو لما يجهل. وأكثر من ذلك، بل سبب هذا العداء، الخوف ممّا لا نعرف.
ولأنّ في كلّ جهل عدم شيء ما مثل إنّ الجهل بالرياضيات هو عدم المعرفة الحسابية والعددية، فالعدم في صلب كلّ جهل، ولهذا نخاف من العدم ونعادي الموت، دون أن نميّز فيه بين الغياب، والفقدان، واللاشيء، في صلة القوّة بالفعل مثلاً؟! حتى ليمكن القول: إنّ الجهل ضرب من ضروب العدم! لأنّ الجاهل بأمر فاقده، وغائب عنه. وهو لا شيء بالنسبة له.
لذلك أفرد (ابن سينا) في الإلهيات من (الشفاء) فصلاً عن كيفية دخول الشرّ في كلّ شيء عبر الجهل، لإيضاح كيف يعمل الشر في هذا الوجود، القائم والناتج عن واجب وجود، كلّه خير وحقّ، لا يمكن أن ينتج عنه شرّ أو أذية .
حتى إنّ العناية الإلهية لا تعني إلّا ما (يفيض عنه ممّا يعقله نظاماً وخيراً). لكن الواقع يرينا عكس ذلك، في عالم التحوّل والفساد الذي نعيش فيه، بكلّ الآمه ومحنه المؤذية .
على أنّ نلاحظ أنّ هذا العالم مُلئ بالمجاهيل التي لا نعرف عنها شيئاً، أي المعدومة من أمام ناظرينا فقط .
وليس كلّ ما نجهله ويشكّل عدماً بالنسبة لنا، هو عدم فعلاً لأنّه غائب أو ليس موجوداً، بل مجرد مفقود منا، متى وجدناه تأكدنا أنّ له وجوداً كنّا فقط نجهله؟!
هكذا يمتد العدم إلى الوجود، ويتمدد الوجود، في كلّ مرّة نكشف فيها ما كنّا نجهل وجوده. فيبقى وجوداً بالقوّة، حتى يأتي العقل الكلّي إلى العقل الجزئي حدس، ينقله من العدم إلى الوجود.
وهذا التواصل عبر الحدوس بين العقل المنفعل والعقل الكلّي الفعّال، هو صلة الاتصال اليومية بيننا وبين الحقّ. الذي في كلّ مرّة تسطع منه حقيقة لعقلنا الجزئي، تنفي بسطوعها شرّاً عنّا كان يخفيه العدم بعدم المعرفة. أي بالجهل؟!
الفكر الإنساني إذاً هو: فاعلية نقل المجهول إلى المعلوم. أي فاعلية نقل العدم إلى الوجود. فيه يكشف خفاء شرّ المجهولات، أي خفاء شرّ كلّ جهل.
والنقل الديني حين يوجّه العقل نحو هذه الفاعلية لنقل المجهول نحو المعلوم، يعطينا خبراً به نصل إلى اليقين بالعقل. وهذا التلاقي، أو التوجيه بالنقل الديني يوصلنا إلى العلم.
ورغم أنّ كلمة علم، كانت تعني عند العرب، العلم النقلي أو العلم والفقه بالنقل الديني، إلّا أنّها ما لبثت أن تحوّلت مع بدايات الفلسفة لتعني النقل والعقل معاً. لذلك ميّز الفارابي في كتابه (إحصاء العلوم) بين علم اللسان، وهو علم نقلي يقوم على حفظ الألفاظ، ومعرفة قواعدها وقوانين تلك الألفاظ، وعلم المنطق وهو العلم بالقوانين التي تسدّد نحو طريق الحقّ والصواب، وتحفظ من الغلط، وبالتالي الجهل بالمعقولات. وهو علم عقلي منقول في جملته من الأغريق .
ورغم أنّ هذا العلم يشارك النحو بصفة، باستعماله للتراكيب اللغوية، إلّا أنّ هدفه ليس وزن الكلام بميزان الفصاحة، كمواضعة شكلية يتغير معناها بتغير العصور. بل وزن معاني الكلام وأهدافه. إنّ (علم النحو إنّما يعطي قوانين تخص ألفاظ أُمّة ما، وعلم المنطق إنّما يعطي قوانين مشتركة تعمّ ألفاظ الأُمم كلّها). لذلك يمكن نقل المعاني بالترجمات التي تعتمد على منطقية كلّ لفظ، ولا يمكن نقل البيان الأدبي بين الأُمم. أي يمكن نقل الأقاويل العقلية، ولا يمكن نقل الأقاويل الخطابية .
ومن المنطق ينتقل الفارابي إلى العلوم العقلية، المبنية كلّها شأنها شأن المنطق على نقل نظري، لا يلبث أن يتحوّل إلى العقل العملي حين كلّ استعمال. ويبدأها بالرياضيات، وعلوم الفيزياء الضوئية، ثمّ علوم الفضاء، حيث يميّز فيه علم النجوم كعلم دلالات على الكواكب.. عن أشكالها... وعن حركات الأجسام السماوية... كلّها كروية... يعمّ جميعها... لتفحص الأرض. وهذا الهدف قطعاً يختلف عن خزعبلات التنجيم .
ثمّ علوم الموسيقى، والميكانيكا - علم الأثقال – ثمّ الكيمياء – فالعلم الفيزيائي – الطبيعي – وأخيراً وليس أخراً العلم الإلهي، الذي يفحص الوجود بما هو موجود، ومبادئ البراهين، ثمّ عن الموجودات التي لها كيف وليس لها كم (التي ليست أجسام ولا في داخل أجسام).
إمّا علم الفقه وعلم الكلام، فليس لهما وحدهما صفة العلم، بل يشتركان ويستندان على علم المنطق (التقدير ما لم يصرّح به واضع الشريعة). لأجل (نصرة الآراء والأفعال التي صرّح بها واضع الملة)، أي لاستخدام العقل في تفقّه الدِّين بعلم الفقه، وللدفاع عن الدِّين بالمنطق في علم الكلام.
وبغض النظر عن رأي الفارابي أنّ كلّ هذه العلوم تهدف خير السعادة، لتجنّب شرّ الجهل في الدنيا من أجل سعادة المعرفة مع الأزل، لذلك وضعَ علم الاجتماع، أي العلم المدني حارساً لتزكية هذه العلوم بمدينته الفاضلة، التي ستوصل حتماً كلّ فاضل فيها بعد الموت إلى سعادة الخلود، أو الخلود مع المعرفة فالسعادة. أقول بغض النظر عن هذا الرأي بحدِّ ذاته، نجد أنّ كلمة علم لم تعد تعني مع الفارابي وبعده النقل الديني المعرفي وحده، بل شملت المعرفة العقلية بكلّ صنوفها الممكنة.
إنّ النظر إلى العقل الإنساني كفاعلية تنقل المجهول إلى حيز كلّ معلوم، يجعل منه أداة أساسية في محاربة العدم، وكلّ الشرور الملحقة فيه. فأذا كشفنا خفاء مجهول اتقينا شرّه، وهكذا بالعلم بمعناه الحقيقي، معاصراً كان أم منذ الفارابي، يمكننا أن نضرب الشرّ الكامن في كلّ جهل، فإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فأنّ التجهيل الذي يمارسه الاختراق الثقافي علينا اليوم، يكمن فيما يكمن، إنّ كلمة علم لا تعني عند المسلمين والعرب إلّا معنى النقل أي العلم الديني فقط؟!
إنّ التراث الفكري العربي شأنه شأن أي تراث أخر، زاخر بسوء الفهم لمعنى العلم، أو بتسويء الفهم إن شئت، وهنا مربض من مرابض التجهيل التي حتماً لا تقود إلّا لكلّ شرّ، ومعيارنا في معرفة ذلك، التبريرية في كلّ مذهب، والتي لا تقود ولا تنقاد إلّا للعصبية، من أجل كلّ سلبيات التسلّط، وهنا تجد إضافة إلى العلم صفة العرفان، كما ادّعى بعض مُحبّي الحكمة – الفلسفة – الحكمة.
ومُدَّعي العرفان لم يكونوا في صفوف المتصوفة فقط، كما يتبادر إلى الذهن للمرّة الأولى، بل كانوا في صفوف من ادّعى ضرورة تعطيل النقل بالعقل، إذ ما دمنا بالعقل قادرين على ما يقوله لنا النقل، فلا حاجة لنا بأي نقل.
وذلك بأنكار السعة الشمولية والتوجيهية النقلية، لكلّ عقل سيتخبط بالبدء من الأوّل مع كلّ مسلَّمة لم تصله نقلاً، فادّعاء قدرة العقل الإنساني على الإحاطة التأويلية الشاملة غرور وادّعاء في صلب القدرات العقلية الإنسانية المحدودة طبعاً.
فليس كلّ مفكري الإسلام الفارابي، كما إنّ ليس كلّهم يجرؤ على ويبدأها إلّا دعاء إنّ معرفته العقلية افتخاراً.
النسب والافتخار والعصبية، ثالوث شر الجهل المقدس عند المتحنطين بالمترادفات اللفظية الأدبية العربية، جوهر الفكر والحقّ والمنطق في هذه الأُمّة، ممّن يعتبرون امتداداً لجاهليتها في كلّ زمان. وما ذكرنا منهم غيض من فيض الفتنة والانقسام المستمر .
فلكي لا تقع في مطب المهاترة التاريخية مع هذا الاتّجاه، ومع هذه الذخيرة السفسطية اللغوية الأدبية القوية، علينا أن نتتبع صلة الجهل بالشرّ فكرياً، كي نضع القواعد كشفه المنطقية التي تغنينا عن الخوض ضد هذا القلم أو ذاك، ممّن أجاد فيه خزن المنطوق اللغوي العربي لصالح تبريريته وأهدافه العصبية الضيِّقة►.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق