لقد شمل الإسلام بتنظيماته كلّ الشؤون والعلاقات الإنسانية، سواء الإلهية منها أم البشرية، بل وحتى علاقاته بالحيوانات الأخرى، ووضع للجميع قوانين ومقررات. إذا أنّ هذا لا يعني أنّه وضع قانوناً لكل موضوع بعنوانه الخاص والمتداول في يومنا الحالي، بل إنّه وضع قانوناً لكل موضوع بعنوانه الخاص والمتداول في يومنا الحالي، بل إنّه وضع أحياناً أصولاً وقواعد عامة يمكن أن يستنبط منها حكم الموضوع الخاص الذي نريده، فمثلاً صحيح إنّه لم تُقرَّر في الإسلام قوانين خاصة لكل الأمور المتعلقة بخصوصيات الحرب والجهاد والدفاع، من قبيل نظام الخدمة العسكرية، التدريبات العسكرية والتمرينات الحربية، تهيئه آلات مجابهة الظالمين والأعداء، لكن مما لا شك فيه أن أحكام كل هذه الأمور يمكن أن تُستفاد وتُستنبط من آيات القرآن الكريم، من قبيل: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال/ 60).
وصحيح أنّ الله سبحانه لم يسنّ قوانين خاصة حول الضمان وأنواع الشركات المساهمة، العامة والخاصة، والتعاونيات وغيرها، غير أنّ من المحَتّم أن أحكام كل هذه المسائل تُستخرج من الآيات والأحاديث الدالة على وجوب الوفاء بالعقود والعهود والشروط وغيرها. وكذلك فيما يتعلّق بالطرق والثقافة والميزانية والضرائب وغير ذلك من المسائل. - أحكام دقيقة لمسألة البيئة: ومسألة البيئة من هذا القبيل، فلم يرد في أيّ من المصادر الإسلامية حُكم بعنوان البيئة على وجه التحديد، ولكن لا شكّ في وجود مسائل كثيرة جدّاً في الآيات والأحاديث وسائر مصادر الأحكام حول الماء، التراب، الهواء، الطهارة والنجاسة، النظافة والتلوّث، الطوفان والعواصف، الغبار، الحريق، الاتلاف، التسبّب بالضرر، ومسائل من هذا القبيل، بحيث يمكن أن تستخرج منها أحكام دقيقة لمسائل البيئة. وللأسف لم يجرِ لحدّ الآن – تقصيراً أو قصوراً – تحقيق ودراسة حول هذا الموضوع – وربما كان سبب ذلك أنّ المحققين المسلمين لم يروا أنفسهم بحاجةٍ إلى التحقيق في هذه المسائل منذ أن طرح هذا العنوان وحتى الأيام الأخيرة – ونأمل أن يضع المحققون المسائل المتعلقة بالبيئة موضع البحث الدقيق في هذه المرحلة – وأن ينشروا ما توصّلوا إليه من نظريات من خلال الاستناد التام إلى المصادر الإسلامية، في تآليف مستقلّة، ويقدموها إلى عالم العلم والمعرفة. إنّ لمسألة تسرّب النفط أحكاماً خاصة يجب الانتباه إليها، علاوة على المسائل الحقوقية العديدة، من قبيل: الظلم، وتبدّد أموال المسلمين العامة، إفساد منابع مياه وغذاء سكان المنطقة، إضافة إلى تلويث بيئة أهالي الخليج، والذي طرح للبحث. ولنعرف الآن نظرة الإسلام الخاصة من خلال الإشارة إلى المسائل الحقوقية والبيئة باختصار، ثمّ نشير في النهاية إلى مصادر استخراج هذه المسائل: 1- أما من الناحية الحقوقية: فمما لا شكّ فيه أنّ من تسبّب في تسرب النفط – وبناءً على قواعد من قبيل: الإتلاف، التسبّب بالضرر وحرمة الإضرار – سواء كان فعله مباشرة أم بصورة غير مباشرة، يجب أن يتحمّل الخسارة التي لحقت بأيّ فرد أو مجتمع، ويستطيع الفرد أو المجتمع المتضرّر أن يستردّ خسارته من المسبّب لها من خلال الطرق المشروعة، وعند عدم التمكن من ذلك يستطيع أن يقاصّه حسب الاقتضاء. 2- وأما من ناحية البيئة، فلا شك أيضاً أنّه لا يحق لأيّ أحد أن يلوّث بيئة الآخرين أو يسمّمها بحيث تصبح الحياة متعذرة أو صعبة بالنسبة إليهم، ويحق لهؤلاء في هذه الصورة – بل وحتى إذا لم ينتهِ الأمر إلى ضرر – أن يطاردوا المؤذي المتسبّب، ويدفعوا شرّه وفساده بأيّ طريق ممكن. 3- وأما من وجهة نظر الإسلام، فإنّ حكمه ما ذُكر أيضاً، أي: أنّ الفرد أو المجتمع إذا تضرّر من عمل شخصٍ ما، فإنّ له الحق في استرجاع مقدار خسارته بالطُرُق المشروعة، وإذا لم يمكن ذلك، فهو قادر على أن يقاصّه بأيّ طريق ممكن، وكذلك الحال في البيئة، فبمجرّد تلوّثها يحق لمن تلوّث ما حوله أن يُلاحق المتسبب ويعاقبه، لأن ظلم الآخرين وأذاهم قبيح وحرام بالأدلة الأربعة، وإذا لم يكن ذلك ممكناً فله دفع شر الملوِّث وفساده بكل نحوٍ ممكن ومشروع. ومن المناسب هنا أن يشار إلى أمرين بصورة مختصرة: الأوّل: إنّه بموجب الآيات الكثيرة والأحاديث المتواترة فقد منح الله سبحانه البشر – وخاصة المؤمنين – حق التنعّم بنعمِهِ اللامتناهية، ونذكر هنا بعض هذه الآيات، وسنشير إلى مصادر الأحاديث في نهاية هذا المقال. 1- (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا...) (البقرة/ 29). 2- (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً...) (لقمان/ 20). 3- (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا...) (النحل/ 14). 4- (وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * ... وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ...) (النحل/ 5-7). 5- هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ...) (النحل/ 10-11). - الهدف: تنعّم الإنسان وفائدته: الثاني: إنّه قد أوضح في الأمر الأوّل بأنّ الهدف من خلق جميع المخلوقات، ومن جملتها الماء والنبات والحيوان، هو تنعّم الإنسان بها واستفادته منها، فينبغي أن لا تلوّث هذه المخلوقات أو تضيّع، فنقول الآن: حسب بعض الآيات والروايات إن كثيراً من المخلوقات الأخرى – كالماء والحيوان – مقدّسة في نفسها كالإنسان، أو أنها يجب أن لا تلوّث نتيجة شدة امتزاجها بالإنسان وسائر الأحياء، وأن لا يُتعدّى على حدودها تعدياً قذراً ممقوتاً، وأن لا تظلم ولا تؤذى. ونشير الآن إلى بعض هذه الروايات والأحاديث: أما الآيات: فمن جملتها: 1- (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ...) (الأنعام/ 38). 2- (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ...) (النور/ 41). 3- (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (النحل/ 49). 4- (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (العنكبوت/ 60). وأمّا الروايات: فهي كثيرة في هذا الباب بعضها يصرّح بهذا المعنى وبعضها يلمّح إليه ومن جملتها: 1- الروايات التي ورد فيها النهي عن البول في الماء، سواء الراكد أم الجاري، وعلّل في بعضها بأنّ للماء سكاناً. (الوسائل/ ج1/ ص240/ بيروت/ 1391هـ). 2- الروايات التي نُهي فيها عن قضاء الحاجة جنب الأنهار والآبار والطرق وتحت الأشجار المثمرة وأمثال ذلك (الوسائل/ ج1/ ص288/ طبعة بيروت). 3- الروايات الدالة على حقوق الحيوانات، ووجوب الإنفاق على الدواب، (جواهر الكلام/ كتاب النكاح/ ج31/ ص193/ طبعة طهران الإسلامية) و(الوافي/ ج3/ أبواب المساكن والدواجن/ باب 203/ حقوق الدابة/ ص112). 4- الروايات الدالة عن ديّة الجناية على البهائم. (الوافي/ ج2/ أبواب القصاص والديات/ باب الجناية على الحيوان/ ص130). 5- إنّ الروايات التي تدلّ بصراحة أو باشارة على النهي عن تلويث المياه وإيذاء الحيوانات والإضرار بها، أوعلى وجوب مراعاة الماء أو الحيوانات كثيرة، ومن أراد مزيد الاطلاع فليراجع الأبواب التالية في الكتب المذكورة: الصيد وكفارته في الحج، لقطَة الحيوان، الأطعمة والأشربة، إحياء الموات، أحكام الأرضين أحكام المياه، بيع الحيوان، الصيد والذباحة، سؤر الحيوانات، استحباب اتخاذ الدواجن في البيوت، ركوب البحر، أحكام أنواع الآبار، القنوات، العيون، والأنهار وغيرها، اشتراك المسلمين في الماء والنار والكلأ، فضل الماء، وبصورة عامة كل أبواب الحيوانات والأشربة. والكتب التي يمكن أن توجد فيها الأبواب المذكورة ومراجعتها هي: كتب الحديث الأربعة، الوسائل، مستدرك الوسائل، الوافي، مكارم الأخلاق، معاني الأخبار، أمالي الصدوق، خصال الصدوق، البحار وخاصة المجلدين 64 و65، الكتب الفقهية، وخاصة الجواهر، كتب التفسير في تفسير الآيات المذكورة، ومن جملتها: تفسير الفخر الرازي، مجمع البيان، جوامع الجامع، الميزان، البيضاوي، أبي الفتوح وغيرها. ثمّ إن مما يسّر الخاطر إنّه قد ألّف في باب الحيوان كتب من قبل العلماء المسلمين، نذكر منها هنا: الحيوان للجاحظ، وحياة الحيوان للدميري. وبالرغم من أنّ في هذه الكتب بعض النقص، إضافة إلى أنها لا تفي بالغرض إلا أنّه مع ذلك يمكن أن تستخرج من خلالها مطالب مفيدة في هذا الباب. المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 11 و12 لسنة 1989ممقالات ذات صلة
ارسال التعليق