◄من الأهداف الأساسية للشريعة الإسلامية هو حفظ الحقوق وحماية الذمم والكرامات، وإقامة الحقّ والعدل بين الناس..
ومن يقرأ كتاب الله سبحانه، وما ورد في سنة رسول الله (ص).. وما صدر عن أئمة المسلمين من دعوة الى إقامة الحقّ والعدل يجد المئآت من النصوص.. والدعوة المؤكدة الملزمة للسلطة والقضاء والفرد والمجتمع.. إلخ إلى اقامة الحقّ والعدل بين الناس.. بل وقامت ثورات وانتفاضات من أجل إقامة الحقّ.. والمطالبة بالحقوق، كثورة الإمام الحسين بن علي (ع) ضد الحكم الأموي المتسلط، وما حدث فيها من تضحيات ومآسي.. فصارت دليلاً شرعياً على إسقاط الحاكم الظالم وعدم شرعيته.
نذكر من نصوص القرآن الكريم قوله تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/ 90).
ومنها قوله تعالـــى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء/ 58).
بل ويوضح القرآن: أنّ الأهداف الكبرى للرسالات الإلهية هو إقامة العدل بين الناس.. نقرأ ذلك في قوله تعالى:
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد/ 25).
ومنها قوله تعالى: (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) (الإسراء/ 105).
وكما هو مشاهد في عالم الاجتماع والعلاقات الإنسانية، فانّ المشاكل والخلافات وحدوث الجريمة والاعتداء على الآخرين، وضياع الحقوق، ظاهرة خطيرة يعاني منها الإنسان في كلِّ زمان ومكان.. فكم من مظلوم ضاع حقّه، وكم من مدع كاذب استولى على حقوق الآخرين، أو اعتدى عليهم وأفلت من العقــاب.. لذا احتاج المجتمع البشري إلى القانون والسلطة والدولة والقضاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعندما تحدث المشاكل والمنازعات، وتضيع الحقوق، ويحصل الإدعاء المتقابل، لابد من الفصل والحسم وإنهاء النزاع وتثبيت الحقّ.
ومعظم ما يحدث في المجتمع من حوادث وتنازع واعتداء واستحقاق يشهده[1] بعض الناس، ويحتفظون بحيثيات الواقعة، أو يترك الآثار الدالة على الفعل.. وبهذا الإطلال وحضور القضية من قبل البعض يحملهم التشريع الإسلامي مسؤولية أداء الشهادة، ويعتبرها واجباً من أعظم الواجبات؛ لتوقف إقرار الحقّ والعدل عليها.
ومن يكتم تلك الشهادة فإنّه يرتكب جرماً وإثماً كبيراً.. وأشد منه في المعصية وتحمل المسؤولية من يشهد شهادة الزور، ويزوِّر الحقيقة.
جدير ذكره انّ التشريع الإسلامي قد حدد أدلة الاثبات في القضية المدعاة والمرفوعة للتقاضي أو التحكيم فيها.. لذا فهي أدلة إثبات في القضاء الإسلامي.. فهي:
1. الإقرار والاعتراف: وهو كما يقال سيد الأدلة: إذ يعترف المتهم بما يوجه إليه من إدعاء.. ورد هذا الدليل في الحديث النبوي الشريف: "إقرار العقلاء على أنفسهم جائز".
2. الشهادة: وهو ما معروض في أحكام القرآن ودعوته الواجبة في هذا الدليل الإثباتي.
3. اليمين: وهو القسم بالله وحده على إثبات المُدّعى أو نفيه، وقد بحث الفقهاء ذلك بحثاً موسعاً.
4. علم القاضي: ويقصد به إطلاع القاضي نفسه ومعرفته التامة بالقضية المرفوعة أمامه.. اختلف الفقهاء في هذا الدليل.. فذهب بعضهم إلى جواز أن يحكم القاضي بعلمه.. باعتباره شاهداً على القضية وعالماً بها، مع توفر العدالة والوثاقة فيه.. وذهب فقهاء أخرون إلى عدم جواز ذلك.
وجدير ذكره انّ بعض الأبحاث الفقهية الحديثة لدى بعض الفقهاء تعتبر الأدلة الحسية الجنائية التي تشهد بها المختبرات والمصورات بصورة قطعية أدلة.
ذلك لأنّ الشهادة: عبارة عن كشف الحقيقة والواقعة والتعريف بها كما هي.. وتلك الأدلة الجنائية توفر ذلك الكشف والتعريف.. إذا أفضت إلى القطع والعلم.
وكثير من الناس لا يملك الضمير ولا الوازع والوجدان ولا يخشى الله سبحانه.. فنراه يزوّر الحقيقة، ويشهد الشهادة الكاذبة.. التي سماها القرآن شهادة الزور فيذهب الأبرياء ضحية هذه الجريمة الأخلاقية البشعة مقابل رشوة يتسلمها شاهد الزور.. أو بسبب خوف، أو محاباة لأناس محسوبين عليه.. فيظلم نفسه، ويظلم الآخرين، وذلك من أبشع ما يمارسه المجرمون من فعل وقول..
ولأهمية هذه القضية في الحياة الاجتماعية والسياسية والمالية والسلوكية والأمنية وغيرها.. اهتم بها القرآن وعالجها تشريعاً وأخلاقاً.. لنقرأ جانباً من هذه الأحكام والمفاهيم القضائية الهامة.
قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء/ 135).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة/ 8).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة/ 282).
(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) (الطلاق/ 2).
(وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة/ 283).
(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة/ 140).
(ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج/ 30).
وفي وصف المؤمنين الأمناء على الشهادة والثناء عليهم، وهي دعوة إلى الاقتداء بهم.. نقرأ:
(وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ) (المعارج/ 33).
(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) (الفرقان/ 72).
وبالتأمل في محتوى هذه النصوص تتضح أمامنا أحكاماً ومفاهيم قضائية وأخلاقية عديدة، منها:
* القرآن يوجب أداء الشهادة على من اطلع على شيء إذا ما دعي لأدائها أو توقفت نصرة المظلوم عليها وإن لم يدع لأداء الشهادة... وعليه أن يؤديها بالقسط والعدل
* من يعلم شهادة فيحرم عليه كتمانها.. وكتمانها من كبائر الذنوب: (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة/ 283).
* إنّ من أكبر الكبائر شهادة الزور وتزوير الحقيقة وظلم الناس.. لذا قرنها القرآن بعبادة الأوثان.. قال تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج/ 30).
* من صفات الإنسان المؤمن انه لا يشهد الزور، وتلك صفة عباد الرحمن، كما وصفهم القرآن بقوله: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) (الفرقان/ 72).
إنّ من أخطر مشاكل القضاء اليوم ودوائر الأمن والأسرة والمجتمع هي شهادة الزور وكتمان الشهادة، ولا يفعلها إلا من فقد حسه الأخلاقي، وضميره الإنساني؛ لذا وصفه القرآن بقوله: (آثم قلبه).. ووصف هذه الجريمة البشعة بأنّها قول الزور.
ولا يفوتنا أن نذكر انّ الشريعة الإسلامية شرعت العقوبة القضائية على من يشهد شهادة كاذبة، ويسيئ إلى سمعة الناس وكراماتهم وأعراضهم ويتهمهم بالباطل أو يضيّع حقوقهم المادية والأدبية، أو يحمي المجرم وصاحب الباطل.
ولهذا المجرم.. شاهد الزور وكاتم شهادة الحقّ أشد العقاب يوم الحساب.
الهامش:
[1]- لا تجور الشهادة إلا بالمشاهدة أو السماع المباشر.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق