• ١٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المفسدون في الأرض

أسرة البلاغ

المفسدون في الأرض

◄(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (البقرة/30).

(وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف/56).

ويحدثنا القرآن عن الفساد والمفسدين.. ويضع أمامنا علامات الخطر والتحذير منهم.. فيروي لنا القصة الأولى عن إرادة الله سبحانه لخلق الإنسان، ليعيش على سطح هذا الكوكب.. فقد أعلم الله سبحانه الملائكة.. بإرادته خلق الإنسان.. فكان السؤال.. سؤال الملائكة، كيف يستخلف في الأرض من يفسد فيها..

نقل القرآن لنا هذا السؤال المرفوع إلى رب العزة من خلال مشهد الحوار المنقول بقوله تعالى: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 30).

فكان الجواب: (...إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ)

 

والقرآن إذ يخبرنا بهذا الاعتراض، ويثبت هذا النص انما أراد أن يثقّف على أنّ الخطر الأكبر الذي يهدد النوع الإنساني على سطح هذا الكوكب.. هو (الفساد في الأرض).. وبذا أيضاً أراد أن يثبت وجوب حماية حقّ الحياة لكلِّ إنسان.. وانّ من يفسد في الأرض ويسفك الدماء لا يستحق الحياة على هذه الأرض؛ لذا كان عقابه القصاص.. وهذا المفهوم هو الذي يستشف من ثنايا النص..

ويستنكر القرآن جريمة القتل والفساد في الأرض واعتبرها من أكبر الجرائم.. فقتل النفس بقصد نشر الفساد في الأرض تعادل قتل الناس جميعاً.. ذلك ما نقرأه في قوله تعالى: (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة/ 32).. وذلك تحذير وإنذار للبشرية جمعاء ودعوة لها لمقاومة القتل المنطلق من نشر الفساد في الأرض بصورة جماعية لأنه اعتداء على حياتها وإنسانيتها..

والفساد في اللغة هو: ضد الصلاح.. وهو الخروج عن الاعتدال.. وعندما ندقق في نص الآية الكريمة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء).

نعرف انّ الخطر الأكبر على البشرية هو الفساد في الأرض.. وسفك الدماء.. والفساد هو تخريب ما كان صالحاً وجميلاً وجارياً وفق قوانين التكوين القائمة على أساس العدل والعلم والحكمة..

فقد خلق الله سبحانه كلّ شيء في هذا الوجود على الخير والصلاح، وانما يفسده الإنسان.. وانّ أعظم فساد في الأرض هو سفك الدماء.. وكم هو جميل قول الشاعر:

كلما انبت الزمان قناة          ركَّب المرأ في القناة سناناً

ويُحدث المفسدون في كلِّ مجال من مجالات الحياة الفساد الفكري والعقيدي.. والفساد السياسي.. والفساد الاقتصادي.. والفساد الاخلاقي.. والسلوكي، الفردي منه والاجتماعي.. والفساد العمراني والبيئي.. إلخ.

وقد تحدثت حوالي خمسين آية عن الفساد والمفسدين في الأرض.. وهي مساحة نصية ومفهومية واسعة.. كلّ ذلك التركيز من أجل التحذير ومقاومة الفساد والمفسدين، والمخربين في ربوع الأرض العامرة..

وفي المقابل تحدثت حوالى اثنين وأربعين آية عن الإصلاح والمصلحين.. والأرض يوم خرجت من يد بارئها.. ومن ساعات اكتمال تكوينها، خرجت صالحة نقية بكامل مكوناتها المعدة للعيش والبقاء.. والقرآن يوضح ذلك ببيانه الواضح: (ولاتفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)

ويتحدث القرآن عن اسوأ مشهد من مشاهد الفساد في الأرض وهو القضاء على الحياة وتدميرها بما فيها تدمير البيئة وتخريبها..

نقرأ وصف المفسدين المجرمين المتظاهرين بالإصلاح والمتشدقين بالادعاءات والأقوال المغرية التي يحسبها الناس خيرا، وهم يضمرون في نفوسهم العدوان والفساد والتخريب.. فإذا تمكنوا واستوت لهم الأمور، واستولوا على السلطة والقوة ظهروا على حقيقتهم، والقوا برقع النفاق عن وجوههم، وراحوا ينشرون الفساد في الأرض.. يهلكون بجرائمهم وإفسادهم (الحرث).. الزرع وما انبتت الأرض.. كما يهلكون النسل.. يهلكون الأحياء من الإنسان والحيوان.. انّ القرآن يصور أولئك المفسدين أعداءً للحياة..

يصور لنا القرآن هذه الصورة البشعة للمجرمين المفسدين في منظومة من النصوص..

جاء فيها: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) (البقرة/ 204 ـ 206).

إنّ أقوى أسلحة الفساد في الأرض.. هو سلاح السلطة والمال والجنس والإعلام الذي يستخدم من خلال دول ومؤسسات وبؤر تنظر وتخطط وتعمل على نشر الفساد.. انّ أخطر قوى الفساد في الأرض هي القوى التي تملك السلطة، وتستخدم نفوذها وسلطانها لنشر الفساد العقيدي والأخلاقي وغيره من ألوان الفساد في الأرض.

والفساد يمارس تارة بصورة فردية، وبدوافع ونزوات شخصية.. وتارة يمارس ضمن تفكير وتخطيط وعمل مقصود لإفساد الشعوب وتدمير القيم الإنسانية.. بل وتدمير سلامة البيئة والطبيعة لأغراض سياسية أو اقتصادية أو عسكرية.. بل لجأ البعض إلى القضاء على النسل البشري عن طريق نشر بعض الأمراض، أو المواد التي تسبب العقم كحرب عنصرية وعرقية.. ويشخص القرآن هذا العمل الإجرامي بوصفه العمل المفسد انه: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة/ 205).

وعندما نستقرئ آيات القرآن الكريم المتحدثة عن الفساد والمفسدين في الأرض، وما جاء في الدعوة إلى الإصلاح ومؤازرة المصلحين وتعظيم مكانتهم ودورهم في بناء المجتمع نرى خطين واتجاهين.. خط القرآن واتجاهه الإصلاحي وحربه على الفساد والمفسدين وخط الفساد والظلم والطغيان.. الذي يقوده الطغاة والمتسلطون.

ويعرض القرآن اسوأ مشهد من مشاهد الفساد في الأرض هو مشهد العصابات وقطاع الطرق والإرهابيين الذين ينشرون الخوف والرعب في الأرض.. واعتبر أولئك المفسدين محاربين لله ولرسوله.. لأنهم محاربون للحقّ والأمن والسلام، الذي دعا له الإسلام.. ولعظم الجريمة التي يرتكبونها يشدد العقوبة والعقاب عليهم.

نقرأ ذلك في بيان القرآن الآتي: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المائدة / 33 -34).

وبعد أن يتحدث القرآن عن أعظم الجرائم، وهي سفك الدماء ونشر الفساد وتخريب الأمن والسلام أوضح لنا انّ الله سبحانه خلق كلّ شيء على أسس الخير والصلاح وانما هو الإنسان يفسد في الأرض، فيسفك الدماء ويهلك الحرث والنسل ويخرب البيئة، ويفسد الفكر والعقيدة والسلوك والأخلاق، ويمارس الظلم والطغيان.

والقرآن يوضِّح هذه الحقيقة بقوله: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم/41).

إنّ القرآن يخاطب النوع البشري بهذا النص، ويوضح للإنسان انه هو المسؤول عن الظلم والفساد وانتشاره في الأرض كظاهرة اجتماعية مدمرة، ولهذا الفساد مردودات اجتماعية وأمنية ونفسية وسياسية واقتصادية.. إلخ خطيرة على المجتمع البشري، وانّ الله سبحانه معاقب على ذلك عقاباً اجتماعياً بالإضافة إلى العقاب الآخروي.. ولهذا العقاب حكمة إصلاحية.. نقرأها في قوله تعالى:

(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم/41).

لعلهم يرجعون من الفساد إلى الإصلاح، بعد أن يذوقوا مرارة الفساد وآثاره السيئة المدمرة، فيندموا على ما فعلوا، ويعودوا إلى الصلاح والصواب.. انه يفتح أبواب التوبة لهم، والعودة إلى الحياة الطبيعية، والاندماج الصحي في المجتمع لئلا يستولي عليهم اليأس والحقد على المجتمع فيزدادوا نقمة وفساداً.

ويتحدث القرآن عن المصرين على الفساد، ويتعاملون بمنطق الخداع والمغالطة واستغفال الناس ومحاولة تغيير الحقيقة.. أولئك الذين يشخص المصلحون ودعاة الحقّ والناهون عن المنكر جرائمهم وفسادهم ويطلبون منهم ترك الفساد وتغيير المسار، نحو الإصلاح.. تراهم يكابرون ويدعون انّهم هم المصلحون.. وفي وصف القرآن لأولئك الزمر الفاسدة نقرأ انّهم مرضى ومخادعون ومفسدون:

(يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) (البقرة/ 9-12).

وكلّ ما اتسعت الحياة وتطورت وتفرعت مجالاتها، كثر الفساد والتخريب.. ومن المفارقات أن يكون مع الرفاه الاجتماعي والاقتصادي والتطور العلمي.. أن يكون مع ذلك إزدياد الفساد والتخريب وسفك الدماء.. والقرآن يعرض نموذجاً اجتماعياً لهذه الظاهرة بنصه النيَّر: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) (النحل/ 112).

والواقع الذي يعيشه العالم اليوم ونحن في بداية القرن الواحد والعشرين.. يشهد بتزايد الفساد الفكري والأخلاقي والسياسي والمالي والبيئي.. إلخ، كما ويشهد الكوارث المفجعة من سفك الدماء واحتراف القتل والإبادة الجماعية في كلِّ بقعة من بقاع الأرض إلا ما ندر.

وهو مصداق لقوله: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم/41).

إنّ الممارسات البشرية الشاذة هي التي أحدثت الفساد في الأرض بما فيها من بر وبحر.. والقرآن يوضح انّ هذا الفساد الأخلاقي المالي والسياسي والأمني والبيئي وسفك الدماء.. إلخ سيرتد آثره السيئ والمدمر على الناس، وسيذوقون وبال أمرهم ونتاج فعالهم.. انّ القوانين الاجتماعية والطبيعية التي أودعها الله في هذا العالم.. انها تعمل عملها.. فالأسباب الشريرة والسيئة تعطي نتائج شريرة وسيئة.. والإنسان هو الضحية، وذلك جزء من العقاب التكويني الذي أودعه الله في هذه الحياة.. والقرآن يدعو الإنسان إلى أن يفكر في ما وقع عليه من خراب وعذاب ودمار وشقاء في هذه الحياة بسبب ما اقترفت أيدي الناس.. يدعوهم إلى أن يتعظوا ولا يكرروا الخطأ فيتكرر العقاب للتلازم بين السبب والنتيجة.. أن يرجعوا عما فعلوا من جرائم ومعاصي وعصيان، متعظين بما وقع بهم من شقاء وعذاب ودمار اقترفته أيديهم.

ارسال التعليق

Top