• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الابتلاء على قدر الإيمان

حجازي إبراهيم*

الابتلاء على قدر الإيمان
 

◄من الحقائق التي أثبتها واقع الابتلاء في العصر الحديث، أنّ حجم الابتلاء الذي يصطلي به المسلم إنما يكون على قدر إيمانه، وفقهه ووعيه الذي دفعه إلى العمل بجد، وإلى البذل بسخاء، والتضحية والجهاد بقوة وشجاعة، وهذه بالتالي تؤهله لأن يقدمه الصف لأداء أدوار قعدت عنها همم الآخرين، كما أنها تحمله أعباء ينوء بها كاهل الضعفاء، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها..

ومثل هؤلاء تتجمع لديهم أسرار الجماعة وخططها وأهدافها ويكونون أوعية أمينة لأعظم الأسرار، وحين يقع ما نحذر ويقع هؤلاء في يد الأعداء، فإنهم يصبُّون عليهم جام غضبهم، وينفسون معهم عن شديد غيظهم، ظناً منهم أنهم بذلك التعذيب الشديد سيقتلعون الأسرار من الصدور. ويخرجون المكنون من القلوب، وغاب عن هؤلاء الأشقياء التعساء خاسري الدنيا والآخرة أنّ الضعفاء الأسرى الذين في قبضتهم، إنما هم الأقوياء الأحرار، وقديماً قالوا: صدور الأحرار قبور الأسرار.

 

- أوّل ما يفعله المبتلى:

على المسلم الصادق الإيمان حين يبتلى أن يوقن بأنّه لن يفوته شيء مما قدره الله، فلا يدفعه خوفه على مستقبله الزاهر، أو ولده الذي يؤمل فيه ويحرص على تعهده وتربيته، أو زوجه التي لا عائل لها، أو والديه الذين تقدم بهم السن، وبلغوا من الكبر عتيا، وينتظر أن عودة الأمل الباسم إليهم المتمثل في ولدهم الذي ادخراه للكبر، أو التجارة الرائجة التي ستكسد بغيابه، أو الوظيفة التي سيفقدها أو سيتقدم عليه زملاؤه إن عاد إليها بعد طول انقطاع، أو دراسته التي يبز فيها قرناءه.. كل ذلك وغيره كثير قد يلقي بظلال اليأس على المسلم، أو يدفعه لأن يقدم التنازلات تلو التنازلات طمعاً ورغبة في أن لا يفوته ما يحرص عليه من الدنيا.

وهنا نذكِّر الأخ المسلم المجاهد أوّلاً بقول الله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة/ 24).

وثانياً: لن يكون إلا ما قدره الله والإيمان بالقدر خيره وشره من أركان الإيمان.

وثالثاً: أنّ الله يخلفه في أهله وذويه ويتعهدهم بيد القدرة الرحيمة ويحقق لهؤلاء ما يعجزون عن تحقيقه لو لم يبتلهم الله.

 

- ماذا يقول أهل البلاء؟

ويحكي أصحاب الابتلاء أنّ مسلماً قبض عليه في ليلة عصيبة وكان ولده مريضاً، ولا يملك لا أجرة طبيب ولا ثمن دواء، وكان يجلس بجانبه لا يملك حيلة، فلما أخذ من البيت ساق الله له طبيباً بقدره عن طريق أخطاء البشر، ففي الشقة المقابلة لهم كان يوجد طفل مريض آخر، فاتصل والده بالطبيب ليحضر، لكنه أخطأ فبدلاً من أن يذهب للذي استدعاه أولاً فإذا به يدق على المرأة الضعيفة العاجزة التي فقدت عائلها، ويقوم بفحص ابنها، ثمّ يعود أدراجه، ليجد هاتفاً يستفسر عن سر تأخره عن الحضور، فيخبره بأنّه حضر، وقام بفحص الطفل المريض، وبعد تبين الأمر يذهب للذي استدعاه، ثمّ يدق الشقة المقابلة ليتبين أمرها، ويقف عن سرها، فيعلم أنها قد اعتقل زوجها، وهي لا تملك ثمن الدواء الذي قرره، فيحضر الدواء في جنح الليل، ويمضي لحال سبيله، وتبيت المسلمة راضية عن ربها التي فقدت زوجها في مرضاته.

كما يحكي لسان حال هؤلاء المبتلين أن أقواماً تعلقوا بأبنائهم ورغبوا في أن يتعهدوهم بالتربية والتقويم، وآخرين تعلقوا بربهم ووالوه، لم يقدموا على ذلك زوجة ولا ولداً، فإذا بأبناء الآخرين يصلح الله أمرهم ويتعهدهم بفضله وإحسانه وكرمه وامتنانه، فيكونون على أحسن حال في الدنيا والدين.. ووجدنا من الأوّلين المؤيدين من لم يستطع تربية أبنائه ولا تهذيب أخلاقه والأمر أوّلاً وأخيراً بيد الله، ولا يملك البشر منه شيء، والواقع ناطق حتى بعيداً عن فقه الابتلاء، فإنّ الكثير من الآباء يعاني من عدم قدرته على تقويم أبنائه أو هدايتهم إلى الطريق الحق وصدق رب العالمين: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (القصص/ 56).

ويبقى خالد الذكر من أنّ نوحاً – عليه السلام – وهو النبي المجتبى لم يستطع هداية ابنه العزيز عليه، فعض على هذا الدرس أخي المسلم بالنواجذ، ووثق حبالك بالله الذي بيده الهداية، وألح في الدعاء دوماً أن يهدي ولدك وزوجك، وكرر دوماً في صلاتك: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان/ 74).

كما تحكي لنا سيرة هؤلاء المبتلين أن منهم من أخذ من مقاعد الدراسة ليعود إليها بعد عشر سنين أو تزيد طالباً لم يصبه اليأس، ولم ينقطع منه الأمل فإذا به بين عشية أو ضحاها مدرساً معلماً في الجامعة، ويتسع منه الخطو، وتطوى مفازات الكتب والمراجع، ليحوز قصب السبق في مجاله، ويتقدم على كل أقرانه، ممن واصلوا دراستهم، ولم يكرموا أو يجتبوا للابتلاء والاختبار..

بل إنّ هناك من هؤلاء من بدأ دراسته أو واصلها داخل أتون العذاب ونال الكثير من الشهادات وهو من وراء القضبان..

وعن ذلك يطول الحديث وما أردنا إلا أن نسوق نماذج لرواد هذا الطريق حتى تطمئن القلوب: (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (البقرة/ 260).

 

- توريث الدعوة:

ويحقق الابتلاء للمسلمين أعظم دور، فعن طريقه يتم توريث الدعوة بطريق التلقي والمشاهدة والمعايشة، وما أقرب الشبه بين موسى يربّى في قصر فرعون، وبين شباب طاهر مؤمن يربى في ظلمات السجون، تكلؤه عين الله وترعاه، ليكون فيما بعد حبل النجاة، وسبيل الإنقاذ لأُمّة يتجمع عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وتتداعى الأكلة إليها من كل أنحاء الأرض، ويصدق فيهم نبوءة الرسول (ص)، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، فقال قائل: من قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن" فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت" (أبو داود 4/108/4297، أحمد 2/5,395/278).

قارئ هذه الكلمات قد يحسب أن من كاتبها مر بطريق الابتلاء، ويعلم الله أن شيئاً من ذلك لم يكن، وكل ما جاء في سياق هذا البحث إنما هو حصيلة قراءات عمر طويل من محب للقراءة، والغوص فيما تزخر به المكتبة الإسلامية من كتب ومراجع مع ربطه بما يقرأه من الواقع الذي يطالعنا كل صباح سواء في صحائف سيارة غير محصية.. أو وسائل إعلامية مرئية أو مسموعة.. كما أنّه فضل من الله ولا نملك إلا أن نقول من أعماق القلب: (سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة/ 32).

وكان من الأمانة العلمية أن أرجع كل حدث لمصدره، ولكن يجبر ذلك التقصير، أنّ الكتب والمصادر ليست بين يدي، وإنما هو مما علق بالذاكرة.. والله من وراء القصد والهادي إلى سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين.►

 

المصدر: مجلة المجتمع/ العدد 1221لسنة 1996م

*من علماء الأزهر

ارسال التعليق

Top