التوسط والاعتدال في جميع الأمور هو منهج سبحانه في بناء الفرد والجماعة وفي أمور الدنيا والدين وعليه قام الإسلام وتخطى الصعاب والعقبات وهذا المعنى ليس بعيداً عن مضمون الآية (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة/ 143).
وهذه الوسطية لابدّ منها في جميع ما فرضه الإسلام وما دعا إليه ففي الصلاة يقول سبحانه: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) (الإسراء/ 110)، بل هو مطالب بها في جميع الأحوال حتى في حديثه مع الناس كما تشير إلى ذلك الآية (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان/ 19)، بل هو مأمور بالتزام نهج الوسط حتى في مشيه حيث يقول سبحانه: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) (لقمان/ 19)، (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان/ 63)، وحتى إنّ القرآن الكريم قد طالب المسلمين بأن يلزموا الاعتدال في الانفاق على أنفسهم وغيرهم ولا يجنحوا إلى الإسراف أو البخل فقال: (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31)، وقال: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (آل عمران/ 180)، والسبيل الأفضل بنظر الإسلام هو الاعتدال في كل شيء حيث يقول:
(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء/ 29)، ووصف سبحانه عباد الرحمن بالاعتدال في إنفاقهم ومصارفاتهم وحتى فيما يأكلون ويشربون بقوله: (الَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/ 67)، وقال: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، وهذا المعنى ملحوظ حتى في التقوى والعبادات وجميع الواجبات، وكان النبي (ص) يقول لأصحابه:
إنّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فإنّ المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ولا تتحملوا من الأعمال إلا ما تطيقون، وقال سبحانه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن/ 16)، والآيات التي تعرضت لذم الدنيا والتحريض على العمل للآخرة، كقوله سبحانه:
(وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) (العنكبوت/ 64)، والآية (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد/ 20)، هذه الآيات وغيرها من الآيات التي تحث على العمل للآخرة والتنديد بالدنيا ولهوها وطيباتها موجهة للمسرفين في العمل للدنيا الغافلين عما وراءها من المسؤوليات الجسام لأنّ الإسلام ليس في عزلة عن الدنيا ولا طيباتها بل يأمر بالعمل لهما ويؤكد على الإنسان أن يأخذ نصيبه من هذه وهذه بنحو لا يكون مسرفاً وموجهاً كل عنايته لاحداهما فنهى عن الرهبنة والالتجاء إلى الكهوف للعبادة، فقال النبي (ص): ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة بل خيركم من أخذ من هذه وهذه وسمى الدنيا مزرعة الآخرة كما جاء في الحديث: الدنيا مزرعة الآخرة، وقال تعالى في كتابه الكريم: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص/ 77)، وقال سبحانه في معرض التنديد بمن حرموا على أنفسهم الملذات والطيبات وانصرفوا إلى العبادة مكتفين بالقليل من العيش، ولبس المرقعات: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31)، وقال: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الأعراف/ 32).
وجاء في بعض المرويات أنّ ثلاثة ممن يسمونهم بالزهاد جاؤوا إلى بعض بيوت زوجات النبي (ص) وراحوا يتباهون بعباداتهم بحضور زوجاته، فقال أحدهم: أنا أصلي الليل بكامله، وقال الثاني: أنا أصوم الدهر ولا أفطر يوماً واحداً، وقال الثالث: أنا أعبد الله ليلي ونهاري ولا أتزوج النساء أبداً، فلما حضر رسول الله واخبر بمقالتهم استدعاهم إليه وقال: أما والله إني لاخشاكم لله واتقاكم له ولكني أصوم وافطر واصلي وارقد واتزوج النساء وتلك هي سنتي ألا ومن رغب عن سنتي فليس من أمتي.
وجاء في بعض المرويات عن أمير المؤمنين (ع) وهو في طليعة الزاهدين بالدنيا وجميع مظاهرها أنّه كان يقول: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.
بهذه الروح الخيرة السمحة جاء الإسلام ليمزج بين الدنيا والدين ويجعل من الدنيا مزرعة للآخرة ووجهاً نيراً من وجوهها وليقول للناس في كل زمان ومكان: ان من لا دنيا له لا آخرة له والناس لا يجزون إلا بما كانوا يكسبون في دنياهم، وليس في الآخرة إلا الجزاء على ما فعل الناس بدنياهم وصدق الله حيث يقول: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا) (الإسراء/ 72).
المصدر: كتاب صور مشرقة من وحي الإسلام
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق