• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التفكّر العميق.. الطريق إلى الحقيقة

هارون يحيى

التفكّر العميق.. الطريق إلى الحقيقة

معظم الناس يظن أنّ "التفكر العميق" يقتضي من الإنسان أن يعتزل المجتمع ويقطع علاقاته بالناس، ثمّ ينسحب إلى غرفة خالية ويضع رأسه بين يديه و... إنهم يصنعون من التفكر العميق قضية صعبة جدّاً، تجعلهم يخلصون إلى القول إنّ الأمر سمة خاصة بالفلاسفة فقط.. مع أنّ القضية أبسط من ذلك بكثير، فكما ذكرنا في المقدمة، فإنّ الله تعالى يدعو جميع عباده ليتفكروا ويتدبروا خاصة في آيات القرآن الكريم، الذي أنزله الله لهذا الغرض. يقول جلّ وعلا: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ) (ص/ 29).

ويمتدح الله تعالى عباده الذين يقودهم تدبّرهم وتفكّرهم إلى إدراك الحقيقة وبالتالي إلى مخافته سبحانه. فالمهم في الأمر كله إذاً: أن يستطيع الإنسان تطوير ملكة التفكر عنده وتعميقها أكثر فأكثر. إنّ الإنسان الذي لا يبذل جهده في التفكر والتدبر والتذكر، يعيش في حالة دائمة من الغفلة، وحالة الغفلة التي يعيشها أولئك الذين لا يتفكرون، بما توحيه كلمة الغفلة من التجاهل مع عدم النسيان والانغماس في الشهوات والوقوع في الإثم والاستخفاف والإهمال، هي نتيجة من نتائج تجاهلهم وتناسيهم للغاية من خلقهم ولكل الحقائق التي يعلمهم إياها الدين. وهذا الأمر عظيم وخطير مؤداه في النهاية إلى نار جهنم؛ لذلك حذرنا القرآن الكريم أن نكون من الغافلين، فقال تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف/ 205). وقال: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (مريم/ 39). ويبين الله تعالى زيغ الذين يتبعون ما ألفوا عليه آباءهم اتباعاً أعمى، دون أن يفكروا بما يحمله التقليد من ضلال، ولو نوقشوا في أمرهم؛ لأجابوا فوراً بأنهم مؤمنون بالله ملتزمون بتعاليمه، لكن بما أنهم لم يعقلوا فيتفكروا ويتدبروا ويتّعظوا فإنّ إيمانهم هذا لم يؤدّ بهم إلى الصلاح، وبالتالي إلى مخافة الله الحقة. إنّ عقلية هؤلاء البشر تظهر بوضوح من خلال الآيات التالية: (قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) (المؤمنون/ 84-89).   - التفكر يبطل السحر عن الناس: في الآيات السابقة يسائل الله تعالى الناس (قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ)، تسحرون في الآية الكريمة تعني حالة من الجمود العقلي تسيطر بشكل كامل على بعض الناس، فيغشى بصر من يصاب بها ويتصرف وكأنّه لا يرى الحقائق أمام عينيه، وتضعف قدرته على التمييز والحكم على الأمور، ويصبح غير قادر على إدراك الحقائق المبسطة، كما يغفل عمّا يدور حوله من أمور غير اعتيادية وتخفى عنه دقائق الأحداث. هذا الجمود العقلي هو الذي أدى إلى أن يعيش البشر منذ آلاف السنين حياة الغفلة بعيدين كلياً عن التفكر والتدبر والاعتبار. ويمكن لهذا المثال الذي سنذكره الآن أن يوضح لنا تأثير هذا السحر الذي حل بشكل جماعي على الأمم: كلنا يعرف أنّ هناك طبقة أرضية تسمى "الصهارة" تحتوي مواد مذابة على درجة عالية جدّاً من الغليان، تكمن مباشرة تحت القشرة الأرضية؛ وبما أنّ القشرة الأرضية رقيقة جدّاً، ويمكن مقارنة سماكتها بالنسبة إلى الكرة الأرضية ككل، بسماكة قشرة التفاحة بالنسبة إلى التفاحة كلها، فإننا قريبون جدّاً من الانفجار الذي قد يحدث لهذه الطبقة، فهو تقريباً تحت أقدمنا، ومع ذلك فمعظم الناس لا يتدبرون هذا الأمر تماماً، كما أنّ أهلهم وإخوانهم وأقاربهم وأصدقاءهم، وجميع وسائل الإعلام ومنتجي البرامج التلفزيونية، وأساتذة الجامعات، لا يتنبهون إلى هذا الأمر. ولكن لو افترضنا أنّ شخصاً مصاباً بفقدان الذاكرة الكلي، يحاول إعادة بناء ذاكرته والاستعلام عن محيطه عبر طرح الأسئلة على الناس من حوله، فمن المفترض أنّ أوّل سؤال سوف يتبادر إلى ذهنه، أين أنا؟ ماذا لو قيل له إنّه يقف على عالم من النار الملتهبة، وأنّ هذا اللهب يمكن أن يتفجر على سطح الأرض فيما لو حدثت أيّة هزة أرضية أو ثورة بركانية. ولو افترضنا أنّ نفس الشخص أُخبر بأنّ هذا العالم الذي يعيش فيه مجرد كوكب يسبح في فجوة مظلمة مترامية الأطراف تسمى الفضاء، وهذا الفضاء يختزن هو الآخر طبقة ملتهبة أعظم خطراً من تلك الكامنة تحت سطح الأرض، تتحرك فيها – على سبيل المثال – آلاف الأطنان من النيازك الحارقة بحرية تامة، وليس هناك ما يمنعها أن تحيد عن مسارها وتصطدم بالأرض، بتأثير جاذبي من كوكب آخر – مثلاً – أو لأي سبب آخر. إزاء كل هذه الحقائق لن يستطيع هذا الشخص أن ينسى خطورة الوضع الذي يعيش فيه، ولسوف يبدأ بالتساؤل: كيف يمكن للناس أن يعيشوا في هذا المحيط، مع كل ما يكتنفه من مخاطر، ويتمسكوا به ويعضّوا عليه بالنواجذ؟! لكنه سوف يدرك فيما بعد أنّ هناك نظاماً متكاملاً قد أخذ حيّزه من الوجود. فرغم الخطر الكامن داخل الكوكب الذي يعيش فيه، هناك توازن دقيق يمنع هذا الخطر من إلحاق الضرر بالناس، إلا في ظروف استثنائية، وهذا الإدراك سيجعله يفهم أنّ الأرض ومن عليها من مخلوقات إنما تستمد وجودها وتعيش بأمان بإرادة الله تعالى وحده، الذي أوجد هذا النظام المتكامل للحياة. هذا واحد من ملايين، بل بلايين، الأمثلة التي يجب أن يتفكر فيها البشر. ولعل إعطاء مثال آخر يساعدنا على أن ندرك كم تؤثر الغفلة على قدرة الناس على التفكر وتحد من قدراتهم العقلية! يعلم الناس أنّ الحياة الدنيا فانية، وأنّ العمر يمضي حثيثاً، ومع ذلك فإنّهم يتصرفون وكأنهم لن يبارحوا هذا العالم وأنهم مخلَّدون. وهذا في الحقيقة نوع من السحر تعاقبت على حمله الأجيال، وله تأثير بالغ عليهم؛ لدرجة أنّه عندما يتحدث شخص ما عن الموت، فإنّ الناس يقفلون الموضوع مباشرة؛ لأنّهم يخافون أن يبطل هذا الحديث السحر عنهم ويضعهم في مواجهة الحقائق. أولئك الناس الذين بددوا حياتهم كلها في شراء سيارة، ومنزل جميل، وآخر لقضاء العطلة الصيفية، والبحث عن مدارس ذات مستوى ليرسلوا أبناءهم إليها، تناسوا أنهم سوف يموتون في يوم من الأيام ويخلّفوا وراءهم البيوت والسيارات والأولاد، وتركوا التفكير بما يجب أن يقدموا للحياة الحقيقية بعد الموت. إنّ الموت قادم لا محالة، وكل الناس سوف يموتون حتماً عاجلاً أم آجلا، واحداً تلو الآخر، سواء صدَّقوا ذلك أم لا، وبعد ذلك تبدأ الحياة الأبدية لكل منا، إما إلى الجنة أو إلى النار، فالأمر يعتمد على ما أسلف الإنسان في هذه الحياة القصيرة. ومع أنّ هذه الحقائق واضحة كعين الشمس، فإنّ السبب الوحيد الذي يجعل الناس يتعاملون مع الموت وكأنّه غير موجود، هو ذلك السحر الذي سيطر عليهم؛ لأنّهم أعرضوا عن التفكر. إنّ الذين لا يؤدي بهم التفكر إلى إنقاذ أنفسهم من هذا السحر. وبالتالي من حياة الغفلة – سوف يفهمون الحقائق عندما يرونها رأي العين بعد الموت، قال تعالى: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (ق/ 22). فكما يقول الله تعالى في الآية الكريمة، فإنّ البصر الذي تكتنفه الغشاوة في الحياة الدنيا بسبب عدم التفكر، ولكنه سيكون حاداً عندما يحاسب الإنسان في الآخرة بعد الموت. وجدير بالذكر في هذا المقام، أنّ الناس هم الذين يفرضون على أنفسهم هذا النوع من السحر بملء إرادتهم؛ لأنّهم يظنون أنهم بهذه الطريقة سوف يعيشون حياة رغد واسترخاء. لكن من السهل جدّاً اتخاذ قرار التخلص من الجمود العقلي وعيش الحياة بوعي وإدراك، فلقد قدم الله تعالى الحلول للناس، فالذين يتفكرون يستطيعون بكل سهولة أن يبطلوا عن أنفسهم هذا السحر فيما هم على قيد الحياة، ويفهموا كل ما يدور حولهم من الأحداث والغاية منها ودقائق معانيها، والحكمة مما يقضيه الله من أمور في كل لحظة.   - التفكر ممكن في أي زمان وأي مكان: إنّ التفكر والتدبر لا يستدعيان مكاناً أو زماناً أو شروطاً محددة، فالإنسان يمكن أن يتفكر ويتدبر خلال المشي في الشارع، عند توجهه إلى مكتبه، خلال قيادته لسيارته، أو خلال عمله أمام شاشة الكومبيوتر، أو خلال جلسات السمر مع أصدقائه، وربما خلال مشاهدة التلفزيون، أو حتى خلال تناول الطعام. فخلال قيادة السيارة مثلاً، يمكن رؤية مئات الأشخاص في الشوارع، وعندما ينظر الإنسان إلى هؤلاء الأشخاص يمكنه أن يتفكر في أمور شتى، فلربما انصرف ذهنه إلى الاختلاف الكامل في المظهر بين هؤلاء الناس، فليس هناك واحد منهم يشبه الآخر! كم هو مذهل هذا الاختلاف في المظهر بين الناس الذي لديهم نفس الأعضاء من العيون إلى الحواجب إلى الرموش والأكف والأيادي والأرجل والأفواه والأنوف؟! ولو استغرق الإنسان في التفكير أكثر، لتذكر أنّ الله قد خلق الألوف من البشر عبر بلايين السنين، وكل واحد منهم مختلف عن الآخر، وما ذلك إلا دليل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى. والذي يراقب كل هؤلاء الناس يحثّون الخطى؛ تتجاذبه أفكار شتى، فللوهلة الأولى يبدو أنّ كل واحد من هؤلاء هو نسيج وحده، له عالمه الخاص وأمنياته ومشاريعه وذوقه وأسلوبه في العيش، وأمور تفرحه وأخرى تحزنه. ولكن هذه الخلافات بين البشر ليست أساسية، فبشكل عام كل إنسان يولد ويكبر ويتعلم ثمّ يتزوج، وينجب الأولاد ويزوجهم، فيصبح جدّاً أو جدة، ثمّ يُتوفى في النهاية. من هذه الناحية ليس هناك اختلاف كبير في حياة الناس، سواء كانوا يعيشون في حي في استنابول، أو في مدينة في المكسيك، فإنّ ذلك لن يغير شيئاً، فكل هؤلاء الناس سوف يموتون، وربما بعد قرن من الزمان لن يبقى منهم أحد على قيد الحياة. ومن يدرك هذه الحقائق لابدّ أن يسأل نفسه: بما أننا في يوم من الأيام سوف نموت جميعاً، لماذا يتصرف الناس وكأننا لن نبارح هذا العالم؟ ولماذا يتصرف من أدرك حتمية موته وكأن هذه الحياة الدنيا لن تنتهي، في حين يجدر به أن يجاهد من أجل الفوز بالآخرة؟! وفي حين أنّ غالبية الناس لا تتفكر بهذه الأمور، فإن من توصل إلى التفكر بها سيخلص إلى نتائج حاسمة. فلو سئل معظم الناس بشكل مفاجئ: بماذا تفكرون في هذه اللحظة؟ سوف يظهر بوضوح أنهم يفكرون بأمور ليست ذات بال ولا تعود عليهم بالنفع. وعلى كل حال، فإنّ كل إنسان يمكن أن يتفكر بحكمة في أمور مهمة وذات قيمة ومعنى، ويتدبرها ويخلص إلى نتائج من وراء ذلك. ويعلمنا القرآن الكريم أنّ من صفات المؤمنين أنهم يتفكرون ويتدبرون ليخلصوا إلى النتائج التي تعود بالنفع عليهم (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران/ 190-191). فكما تخبرنا الآيتان الكريمتان، فإنّ تفكر المؤمنين مكّنهم من رؤية جانب الإعجاز في الخلق، وتمجيد حكمة الله وعلمه وقدرته.   - إخلاص النية لله عند التفكر: من أجل أن يعود التفكر بالنفع على الإنسان ويهديه إلى جادة الحق، يجب عليه أن يفكر دائماً بطريقة إيجابية. هناك فرق كبير بين من ينظر إلى شخص حباه الله بحسن الهيئة من منظار عقدة النقص الناشئة عن عدم التكافؤ في المظهر الخارجي بينهما، فيشعر بالغيرة، ويؤدي به تفكره إلى ما لا يرضي الله، وبين من يسعى إلى مرضاة الله فينظر إلى هذا الشخص على أنّه جمال من خلق الله، ويعتبر حسن هيئته برهاناً على كمال الله في خلقه، فيشعر بسعادة غامرة ويدعو الله أن يزيد هذا الإنسان جمالاً في الآخرة، كما يدعو لنفسه أن يرزقه الله الجمال الأبدي في دار الخلود، ويفهم أنّ الإنسان لا يمكن أن يكون كاملاً في الحياة الدنيا؛ لأنّ حياتنا هذه خلقت غير كاملة كجزء من ابتلائنا فيها، وبذلك كله يزيد توقه وتطلعه إلى الفوز بالجنة. وهذا كله مثال واحد على الإخلاص في التفكر، ولسوف يعرف للإنسان الكثير من الأمثلة المشابهة في حياته، خاصة وأنّه في امتحان دائم ليرى إن كان سيسلك سلوكاً حسناً ويفكر بأسلوب يرضي الله. إنّ نجاح الإنسان في امتحان التفكر، وكون التفكر سيعود عليه بالنفع في الآخرة، يعتمد على التدبر والاعتبار من الدروس والتحذيرات التي يستخلصها أثناء تفكره، ولذلك فإنّ من الضرورة بمكان، أن يتفكر الإنسان بصدق دائماً. قال تعالى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ) (غافر/ 13).   المصدر: كتاب التفكّر العميق

ارسال التعليق

Top