كل الاعتراضات التي تثار بوجه المبادئ الدينية منطلقها الروح المادية.
القرآن أرجع كل ظاهرة كونية إلى عللها الطبيعية.
الإنسان بما وهبه الله من قدرة يستطيع أن يكتشف جزءاً صغيراً من قوانين هذا الكون.
على الإنسان أن يفهم وجوه كجزء من هذا الكون.
التصور الإلهي للكون إضافة إلى واقعيته يمنح الإنسان الأخلاق والملكات السامية.
إنّ العالم الذي نعيش فيه اليوم يشهد تطوراً سريعاً لم يسبق له مثيل في جميع المرافق الفنية والعلمية، كما أنّ جميع الطاقات قد حشدت من أجل إيجاد أحسن السبل لرفع احتياجات الإنسان، وهذا الاهتمام الكبير بتسخير الطبيعة وتذليلها في طريق تحقيق الأهداف البشرية يتطلب مزيداً من العمل والنشاط، وتراكم الأعمال يدعو بطبيعته إلى ضرورة الإسراع في إنجازها وعدم التفريط بأيّة لحظة دون الاستفادة منها إلى أقصى حد ممكن.
إلا أنّ الذي ينبغي الالتفات إليه هو أنّ الإنسان مهما أراد توسيع نطاق أعماله فهو محدود الطاقات والقابليات، فإن صرف همه في جانب فلابدّ أن يكون على حساب جانب آخر.
ومن هنا فإنّ انصراف الإنسان اليوم بجميع طاقاته وملكاته نحو المسائل المادية قد أدى إلى غلظة في حسه المادي وإلى سيطرة الماديات على المعنويات.
إنّ مطالعة التاريخ ومراجعة الأوضاع الدينية للناس على مرّ العصور تدلنا بما لا يقبل الشك على انّ البشرية متى ما أسرفت في الجانب المادي من حياتها ضعفت روحها المعنوية ونسيت قيمها الدينية.
إنّ كل الاعتراضات والتشكيكات التي تثار ضد المبادئ الدينية والأسس المعنوية إنما تنبع من هذه الروح المادية، وإنّ المتتبع ليرى أنّ هذه التشكيكات تتكرر بالذات في عصور مختلفة، تثور حيناً لتواجه أجوبة رادعة، فتخمد لتعود في فترة أخرى أيضاً. وهذه مسألة غفل عنها أولئك الذين خالوا أنّ الشك الديني وليد عصر العلم!!
إنّ الدغدغات المادية وإيحاءات الغرائز تتراكم في النفس البشرية فتملأ شعور الإنسان لتسوقه نحو الابتعاد عن العقل السليم، ويبدأ عندها اللسان يهذي بذم جميع المعنويات.
إنّنا نرى اليوم بعض هذه الألسن تتحرك لتقول: إنّ التعليمات الدينية تصلح لسكان الخيام ولا تجدي نفعاً لإنسان اليوم الذي غاص في أعماق المحيطات وحلق بين الكواكب.. ولتقول أيضاً: إنّ الدين يدفع الإنسان لأن يعيش عالماً غيبياً موهوماً وهو بذلك يشل الإنسان عن ممارسة أعماله العلمية في حقل استثمار الطبيعة.
هذه الاعتراضات ليست بالجديدة، فهي كما قلنا وريثة التكذيب والتشكيك والافتراء الذي جوبهت به الدعوة الدينية في مختلف العصور.
لابدّ أن نشير في هذا الصدد إلى مسألة هامة هي أنّ العلوم الطبيعية، وإن استطاعت أن تسلط الضوء على بعض المجهولات وتحل بعض الإلغاز، إلا أنّها محدودة ومختصة في مجالها المعين ولا يمكن أن تكشف المجهولات الخارجة عن إطارها.
فعلم النفس مثلاً لا نتوقع منه أن يحل لنا المسائل الفلكية.. والعلوم الطبيعية هي الأخرى ينبغي أن لا نزجَها في فهم المسائل الروحية والميتافيزيقية.
فالعلوم الطبيعية محايدة بالنسبة لما وراء الطبيعة لا تثبت ولا تنفي. بل تترك المجال لمنطق الدين كي يعالج المسائل الميتافيزيقية ويسبر أغوارها.
إنّ منطق القرآن في هذا الصدد يتضح من الحقائق التالية:
1- لم ينكر القرآن الكريم قانون العلية العام، بل ارجع كل ظاهرة كونية إلى عللها وأسبابها الطبيعية، وهذه الحقيقة واضحة في كل سياق الكتاب الكريم.
والإنسان، كموجود صغير جدّاً من هذا الكون، هو الآخر محكوم خلال مسيرة حياته وفي مصيره ومآبه بالقوانين التي تسيّر الموجودات، وليس له استقلال عن الظواهر الطبيعية التي تحيطه، ولا يستطيع أن يقف موقف المصارع المعارض للقوانين والنظم الكونية التي تتحكم فيه وفي جميع الموجودات. بل إنّه يستطيع كظاهرة من ظواهر هذا الكون أن يستفيد من قواه المودعة فيه لتنفيذ مآربه التي لا تتحقق إلا إذا كانت مسايرة لسائر العلل والأسباب التي تتحكم في الوجود.
2- يؤكد القرآن الكريم على أنّ زمام أمور الكون بجميع أجزائه بيد ربّ واحد يسير هذا الكون طبقاً لقوانين ونواميس معينة، وهذا ما تدعو إليه الفطرة أيضاً.
فالوجود المستقل الوحيد في هذا الكون هو وجود ربّ العالمين الذي لا يحتاج في وجوده إلى شيء خارج ذاته، وكل الأشياء التي نفترضها محتاجة إليه. وهو المصدر الوحيد الذي يمكن اللجوء إليه والركون عنده بكل ما في الكلمة من معنى.
3- يصرح القرآن الكريم بأنّ علم الإنسان محدود والله تعالى هو الذي تفرّد بعلم الغيب الذي يحيط بخصائص جميع الأشياء.
والإنسان يستطيع بما وهبه الله من قدرة محدودة أن يكتشف جزءاً يسيراً جدّاً من قوانين هذا الكون. وهذا القدر الذي يهديه عقله إليه هو ضئيل جدّاً بالنسبة لما يحيط الإنسان من مجهولات لا متناهية.
انطلاقاً من هذه النظرة فإنّ من الجهل والغباء أن يلجأ الإنسان إلى القوانين المحدودة التي اكتشفها ويركن إليها ويعتبرها أساساً مستقلاً لمسيرة هذا الكون، ومن الجهل أيضاً أن يعزف الإنسان عن العلة التامة التي تتحكم في هذا الوجود لمجرد أنّه توهّمها مخالفة لميوله ورغباته.
والحقيقة العملية التي يمكن أن نحصل عليها من كل هذه المقدمات هي أنّ الإنسان ينبغي أن يفهم وجوده كجزء من هذا الكون.. تتحكم فيه القوانين والعلل التي تسيّر هذا الوجود، وينبغي أن يركن ويلجأ إلى من بيده زمان هذه القوانين ومن هو علّة جميع العلل وهو الله تعالى، وأن لا ينبهر بالقوانين المحدودة التي اكتشفها ليجعل منها ربّاً موهوماً.
ودعوة القرآن الكريم هذه لا تطالب الإنسان بإهمال القوانين والعلل الكونية التي استطاع أن يكتشفها ولا تدعوه إلى الجلوس في انتظار الفرج الغيبي للوصول إلى أهدافه وغاياته، إذ العامل الغيبي لا يؤثر إلا عن طريق العلل والأسباب.
والإنسان مكلف بالاستفادة مما وهبه الله من قدرة لاكتشاف القوانين التي تتحكم في هذا الكون والاستفادة منها لأغراضه وغاياته، على أن لا يلجأ ويركن إليها، بل يفهم نفسه كجزء من هذا الكون محكوم بقوانينه ونواميسه ويلجأ إلى الله الذي ترجع إليه جميع العلل والأسباب والقوانين.
هذا التصور إضافة إلى واقعيته فإنّه يهب الإنسان مجموعة من الأخلاق الفاضلة والملكات الإنسانية السامية، كالتفاؤل والصبر والعزيمة والشهامة والإحساس بالارتباط بقوة جبارة لا تفنى ولا تقهر.
إضافة إلى انّه يقلع من النفس ما فسد من الصفات ورذل كالتكبر والأنانية والزهو والخيلاء والجزع والضعة واليأس والضعف وغيرها من الصفات الذميمة التي تعتري النفس الإنسانية.
إنّ هذا البحث وان كان قد اتخذ طابعاً فلسفياُ إلا أنّ جميع مضامينه قد استقيت من القرآن الكريم، ولا يخفى ذلك على كل من أمعن النظر في كتاب الله العزيز.
المصدر: مجلة ثقافة التقريب/ العدد 34 لسنة 2010
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق