◄لما استشهد الإمام الحسن (ع) تحركت الجماهير بالعراق وكتبوا إلى الإمام الحسين (ع) في خلع معاوية والبيعة له فامتنع عليهم، ويرجع امتناع الإمام (ع) لعهد وعقد بينه وبين معاوية فإذا مات معاوية نظر في ذلك.
فلما مات معاوية، وذلك للنصف من رجب سنة 60هـ/ 680م كتب يزيد إلى الوليد بن عتبة ابن أبي سفيان وكان على المدينة من قبل معاوية أن يأخذ الحسين (ع) بالبيعة ولا يرخص له في التأخر عن ذلك[1].
ويرفض الإمام الحسين (ع) البيعة ليزيد رفضاً قطعياً ويدعم هذا الرفض بأسباب وحقائق دامغة، فضح فيها شخصية هذا الحاكم المتسلط على رقاب المسلمين بالقهر والغلبة بأنّه "ظالم، وشارب للخمر، وقاتل الأنفس البريئة، ومتمرد على حكم الله، ولا يخشى الله لا في السر ولا في العلانية".
قبل أن يخرج الإمام (ع) من مكة المكرمة، كتب وصية وأعطاها إلى أخيه محمد ابن الحنفية، يُبيّن فيها أسباب ثورته ودوافعها. ومن بين هذه الأسباب سببان عظيمان أساسان هما:
السبب الأوّل: إصلاح هذه الأُمة.
والسبب الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويبيّن لنا الإمام (ع) معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في خطبة ألقاها في موسم الحج. "فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – فريضة منه – لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلها، هيّنها وصعبها، ذلك أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع رد المظالم، ومخالفة الظالم، وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها وضعها في حقها...".
ورسالة سليمان بن صرد، والمسيب بن نجبة، ورفاعة بن شداد الجبلي، وحبيب بن مظاهر، والمسلمين من أهل الكوفة تكشف لنا وجهاً من الواقع الاجتماعي الذي كان يعيش فيه المسلمون في ذلك العهد تحت حكومة ظالمة مستبدة، تراقب الإعلام الإسلامي مراقبة شديدة، وتكبل الفكر الإسلامي وتلقيه في غياهب الجب، وتحرص حرصاً شديداً على تتبع حركات زعماء الأُمّة الإسلامية وتمعن بهم قتلاً وتشريداً وتسيطر على فيء المسلمين وتقسمه على الظلمة وأعوانهم.
"أما بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد، الذي انتزى على هذه الأُمّة فابتزها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضى منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها. فبُعداً له كما بعدت ثمود، إنّه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق"[2].
من هنا، يتضح أنّ المؤمنين في ذلك الوقت ما كانوا ليقدموا الولاء للحكومة الظالمة ولئن حدث ذلك فإنما يكون قسراً وجبراً، فصلح الإمام الحسن (ع) مع معاوية كان أمراً قهر عليه الإمام وذلك للأسباب التالية:
عندما بعث الإمام (ع) حِجر بن عدي ليستنفر الناس للجهاد بعد مسير معاوية وبلوغه جسر منبج تثاقلت الناس للجهاد لكنهم استجابوا بعد ذلك. فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: أي الفئات هي التي استجابت، وما هي اتجاهاتها السياسية؟
فالجواب أنهم كانوا يمثلون خمس فئات من الناس:
1- فئة مناصرة له ولأبيه عليهما السلام.
2- فئة محكمة يؤثرون قتال معاوية بكلِّ حيلة.
3- فئة أصحاب فتن وطمع في الغنائم.
4- فئة شكاك.
5- فئة أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون إلى دين[3].
فكان رأي الإمام الحسن (ع) في الصلح في تلك الفترة من أعظم الآراء السياسية العالمية الذي لم يجد الإمام بداً منه. وإلّا لو وجد الإمام الحسن (ع) أنصاراً لأعلن الحرب على تلك الحكومة الظالمة حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين.
وفي خطبة الإمام الحسين (ع) بذي حسم نستشف واقع الحياة المرير الذي وصلت إليه الأُمّة الإسلامية في ذلك الوقت من تنكر الدنيا وتغير أحوالها حتى بات الحق أسيراً مكبلاً وأصبح الباطل مهنة اجتماعية وسياسية لا يتناهى عنه، فأقام هذا الواقع وهذه السياسة المتبناة على الصعيدين الحكومي والاجتماعي يرسم الإمام (ع) للمؤمن الخط السياسي والصراط المستقيم الذي يجب عليه أن ينتهجه إذا أراد أن يحيا حياة كريمة عزيزة. فلابدّ من الخروج من هذه الحياة، والخروج منها يجب أن يكون رغبة من المؤمن في لقاء الله. فالمؤمن المحق لا يستطيع أن يعيش مع الظالمين أو أن يكيف دينه مع الحكومات الظالمة، فإذا قبل بها فإنما هي حياة كلّها تعب ونكد وضنك. فالإمام (ع) كان يرى الشهادة شاخصة أمام عينيه وهذه الشهادة إنما هي رغبة للقاء الله.
وفإمامنا العظيم (ع) عندما لا يرى الموت إلّا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلّا برما تستطيع أن تقرأ من خلال هذه الصورة، الصورة الحقيقية لنفسية هذه الأُمّة، والفساد الاجتماعي والانحطاط الخلقي والثقافي، والإعلام الإرهابي، وضياع الشخصية الإسلامية "... وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون، وذمة رسول الله محقورة، ... وبالإدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون، كلّ ذلك مما أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون...".
لقد خسرت الشخصية الإسلامية في تلك الحقبة من التاريخ عزّتها بعد ما قطعت حبل عصمتها مع الله ورسوله، تلك العزّة التي بنى قواعدها وشيد بنيانها طب القلوب ودواؤها، سيد المرسلين، وإمام المتقين، أبو القسام محمد (ص).
فالإمام (ع) يُبيّن ضياع هذه الشخصية "... ألا ترون أنّ الحقّ لا يعمل به، وأنّ الباطل لا يتناهى عنه! ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فإني لا أرى الموت إلّا سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلّا برما"[4].
وبالبيضة خطب الإمام (ع) أصحابه وأصحاب الحر بين يزيد الرياحي – رضوان الله عليه – وكان أصحاب الحر فرقة من فرق الجيش التابع لحكومة يزيد بن معاوية. فالشيء الذي يلفت الإنتباه هنا أنّ الإمام (ع) استفتح خطبته بقول رسول الله (ص) لأمرين:
الأوّل: لإثارة إنتباه هذه الفرقة من الجيش بأنها تعطي الولاء والطاعة لحكومة ظالمة ولسلطان جائر. فعليها أن تلتحق بأصحاب الإمام لأنّه هو ولي أمرهم وولي أمر الأُمّة الإسلامية قاطبة وخليفتهم وقائدهم، فإذا لم يستجيبوا فيكون الإمام قد أقام عليهم الحجة.
الثاني: أنّ الحكم هنا حكم رسول الله (ص) في رئيس الدولة المنحرف ومن يمده بالعون والمدد. "من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله (ص) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قولٍ كان حقاً على الله أن يدخله مدخله"[5].
الخطاب هنا والكلمة لرسول الله (ص) والإمام (ع) يُبيّن لهذه الفرقة المسلمة صفات رئيس حكومتهم وأعوانه من حكام الجور "ألا وانّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد، وعظلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله"[6].
أصدر الرسول (ص) حكمه في السلطان الجائر لكن من استجاب لهذا الحكم من الأُمّة الإسلامية في ذلك العصر سوى الإمام الحسين (ع)؟
وبالأمس القريب ينادي رسول الله (ص) بالمدينة المنورة من ينزل إلى عمرو بن عبد ود العامري. الذي كان يمثل أعلى قمة الهرم في الشِرك والإثم والعدوان بل كان في قمة الاستعمار الجاهلي، فإذا بصوت يجلجل في الآفاق مستجيباً لنداء رسول الله (ص) قائلاً: "أنا يا رسول الله" إنّه صوت الحق، صوت العدالة الإنسانية، صوت أبي الحسن، أسد الله الغالب، عليّ بن أبي طالب (ع).
ويستجيب لحكم رسول الله (ص) ابن رسول الله (ص) وابن إسماعيل (ع) وابن إبراهيم الخليل (ع) الإمام الحسين (ع) قائلاً: "وأنا أحقّ من غيّر"[7].
وبعد أن ذكّر الإمام الحسين (ع) هؤلاء الناس بنكث بيعته وخيانتهم لعهد الله وميثاقه قال (ع): "وسيغني الله عنكم"[8].
ويقول ابن خلدون في مقدمته: "وأما الحسين فإنّه لما ظهر فسق يزيد عند الكافة من أهل عصره رأى انّ الخروج على يزيد متعين من أجل فسقه"[9].
وقال: "فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد ولا ليزيد بل هي من فعلاته المؤكدة لفسقه، والحسين فيها شهيد مثاب وهو على حقٍّ واجتهاد".
ورد ابن خلدون على القاضي أبي بكر بن العربي عندما أراد أن يسوغ قتل الإمام الحسين (ع) في كتابه الذي سماه بالعواصم والقواصم: "بأنّه قد غلط وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل، ومن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء"[10].
أما الحسن البصري المولود في 12هـ والمتوفى في 110هـ، فقد أعطى رأيه واضحاً وجليّاً وبدون تردد عندما سُئل عن تنصيب يزيد حاكماً على الأُمّة الإسلامية[11].
أما عبد الرحمن بن أبي بكر ما أن سمع كتاب معاوية الذي قرأه مروان بن الحكم على الناس في المسجد الذي يقول فيه إنّه عوّل على أخذ البيعة لابنه يزيد حتى قال بعد ان هاجت الناس وماجت: "ما الخيار أردتم لأُمة محمد ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية كلّما مات هرقل قام هرقل"[12].
أما الكاتب المصري عبدالقادر المازني، وبعد حضوره ولأوّل مرة مجلس عزاء لأبي عبدالله (ع) في بيت أحد العلماء الإيرانيين في القاهرة عام 1936 ابتدأ يفكر في مغزى ومقصد ثورة الإمام الحسين (ع) ضد يزيد وحكومته وأخذ يتساءل بعد قراءته لمقال نشر في جريدة English Review الذي يؤكد فيه كاتبه أنّ الإمام خاض هذه المعركة مع يقينه وعلمه الحتمي بنتيجة المعركة. فلماذا إذاً حمل الإمام الحسين (ع) عائلته معه في هذه المرحلة الخطيرة بالذات؟ ويجاوب المازني عن هذا السؤال بنفسه: بأنّ الإمام الحسين (ع) كان مخلصاً، مضحياً بنفسه، نافذ البصيرة، وكان يدرك ضخامة قوة المعارضة التي ستواجهه والتي ستقف في وجه حركته الإصلاحية، لكنه منذ أن كان يعتبر الحكومة الأموية حكومة فاسدة، وكثائر شريف رأى أنّه مجبر على أن يعمل غاية ما يستطيع عمله.
ولئن لم يستطع الإمام الإطاحة بالحكم في ذلك الوقت، فإنّه في النهاية نسف هذا الحكم وأطاح به.
ولقد تبنّى يزيد الغاية في سياسة العنف، واقتراف كلّ تلك الجرائم في كربلاء، لكن الإمام الحسين (ع) نجح في خلق حقد عميق في الناس ضد يزيد، فقد غدت كلّ نقطة دم من دمه، وكلّ حرف من اسمه، وكلّ التماس من ذاكرته لغماً فجّر الدولة الأموية من أساسها ونسفها نسفاً وقطعها إرباً[13].
وبعد مرور عشرين عاماً على نشر مقال المازني تناول هذا البحث الكاتب المصري الكبير عباس محمود العقاد في كتابه "أبو الشهداء الحسين بن عليّ" شدد العقاد فيه على التناقض العميق بين شخصية الإمام الحسين (ع) وشخصية يزيد فيقول: "انّ التناقض كان أساساً بين مزاجين وبين نخوتين... ومن ثمّ بين رأيين، رأي يمثل الإمامة الدينية ورأي يمثل الدولة الدنيوية"[14].
كانت ثورة الإمام الحسين (ع) نوراً ربانياً أضاء للأُمّة الإسلامية دربها الطويل عبر الأجيال فانبثقت منها ثورات اتخذت من ثورة الإمام الحسين (ع) نبراساً ومشعلاً تستلهم من نورها فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلك الفريضة التي أنزلها الله في فرقانه آية محكمة فجسّدها ثورة على الجاهلية الجهلاء والضلالة العمياء، الذي دنى فتدلّى فكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى، الحبيب المصطفى والرسول المجتبى محمد بن عبدالله (ص). فلما التحق صلوات الله عليه وآله بالرفيق الأعلى. سلّم رايتها إلى الذي ضرب بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين، أبي الحسنين عليّ بن أبي طالب (ع). فلما فاز بالشهادة، بلى ورب الكعبة، سلّم الراية إلى شبيه المصطفى، الإمام الحسن المجتبى، الشهيد المظلوم، سيد شباب أهل الجنة، الذي سلّمها إلى أخيه الإمام الحسين (ع) فكان أبو عبدالله (ع) أبا الشهداء وكبش الفداء.
ويأبى أبيّ الضيم أبو عبدالله (ع) أن يغمض عينيه عن راية جده وأبيه وأخيه حتى قتل ابن فاطمة الزهراء وابن خديجة الكبرى ظلماً وحزّ رأسه من القفاء، وسلب العمامة والرداء والتحق بالرفيق الأعلى والراية مغسولة بدمه الشريف.
فدم الإمام الحسين (ع) هو دم رسول الله (ص) ودم شهيد المحراب عليّ ولي الله، ودم الحسن المجتبى قرة عين رسول الله، وتسقى الراية بهذا الدم الزكي، وبدم أبي الفضل العباس الذي اعتلى بالفضل والكرامة والشهادة إلى سدة الإمامة، وبدماء أهل بيت النبوة، لأنّ هذه الراية ودماء أهل بيت النبوة توأمان لا ينفصلان.
ويبقى دم الشهيد دم أبي عبدالله (ع) دمّاً حيّاً، نقيّاً، زكيّاً، ينبثق منه فكر الإمام الحسين (ع) ومنهجه السياسي الديني الذي ارتضاه الله لعباده من إقامة العدالة الإنسانية واظهار الصلاح في البلاد.
"اللّهمّ إنّك تعلم أنه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك، وسنتك وأحكامك".
الهوامش:
[1]- المفيد، الارشاد، ص200، تاريخ الطبري، الجزء الخامس، ص339-340.
[2]- محمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري، ج5، ص352 المفيد، الارشاد ص203. اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص242.
[3]- المفيد، الارشاد، ص189، اليعقوبي. تاريخ اليعقوبي، ج2، ص215.
[4]- محمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري. ج5، ص404، ج5، ص403، ابن الأثير الكامل في التاريخ، ج4، ص48.
[5]- المصدر نفسه.
[6]- المصدر نفسه، ج4، ص403.
[7]- المصدر نفسه، ج5، ص403.
[8]- المصدر نفسه، ج5، ص403.
[9]- ابن خلدون، المقدمة، ص216.
[10]- المصدر نفسه، المقدمة، ص217.
[11]- صحيح مسلم.
[12]- حسن إبراهيم حسن، "تاريخ الإسلام"، ج1، ص282.
[13]- حامد عناية.
[14]- المصدر نفسه، ص186.
المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 30 لسنة 1987م
ارسال التعليق