• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العقل.. شعور

د. أفراح لطفي عبدالله

العقل.. شعور
◄العقل عند برغسون على وجه العموم مقسوم إلى قسمين حسب مجال معرفة كل قسم منهما: الأوّل: العقل العلمي وهو الذي يبحث في معرفة العالم الخارجي مستعيناً بالتحليل والتصنيف، وما يفكر به العقل في هذا العالم هو الأشياء السكونية التي يكون زمانها متحيزاً في المكان ومما يقاس ويضبط. والثاني: هو العقل الذاتي الذي يبحث في معرفة حالاتنا الداخلية المتغيرة باستمرار كون الزمان هنا يمثل ديمومة، وإننا نعرف هذا العالم الداخلي من خلال قدرة عقلية هي الحدس[1]. ولم يركز برغسون على العقل العلمي واعتبره غير حقيقي، وافترض أنّ ما هو حقيقي هو عقلنا الداخلي. لذلك فإننا إذا أردنا أن نقع على صورة فسلجية للعقل عند برغسون سنجدها تشرح العقل من جانبه الوجداني الذي لا شك في أن تكون مادته قد جمعت بالمجهود العقلي أوّلاً. إنّ الصورة التشريحية التي قدمها برغسون للعقل قد وعت ما قدمته العلوم العصبية والنفسية حول الدماغ. ونظراً لتركيز برغسون – كما قلنا – على الشعور فإنّه قد حاول بتشريحه للعقل هذا أن يدلنا على مواقع تأليف الشعور حيث يقول: "في أسفل التلفيف الجبهي اليساري الثالث تقيم ذكريات الحركات اللفظية وفي منطقة تشمل التلفيفين الصدغيين اليساريين، الأوّل والثاني تقيم ذكريات أصوات الكلمات، وفي القسم الخلفي من التلفيف الجداري اليساري الثاني تقيم الصور البصرية للكلمات والحروف... إلخ[2] هذه الصورة على الرغم من إعلانها الاتفاق مع علوم الدماغ إلا أنها في أحيان كثيرة لا تكتفي بما قدمته هذه العلوم بل تحاول أن تضيف من الفلسفة الموقف الأساس، حيث رأى برغسون أنّ ما قررته هذه العلوم من أنّ ثمة علاقة بين الشعور والدماغ إنما تمثلها حياة النفس وتقع دراستها على عاتق الفلسفة[3]. فالشعور حقاً معلق بالدماغ كما أشار العلم بذلك، ولكن هذا لا يعني أبداً أنّ الدماغ يرسم كلّ تفاصيل الشعور ولا أنّ الشعور وظيفة الدماغ؛ وإنّ ما أعلنه العلم عن علاقة بينهما فإنّ ماهية هذه العلاقة لم يبحثها العلم وهذا من مهمة الفلسفة وعلم النفس. يرى برغسون أنّ الدماغ من التعقيد بحيث إننا لا نستطيع أن نلم بكل الحركات والأحداث في الدماغ، فإنّ النفس الشاعرة لا تضيء إلا جزءاً يسيراً من الحركات الداخلية الدماغية وأدواتنا لرؤية الدماغ سوف لن تظهر سوى شرارات صغيرة ترفرف فوق تجمعات معينة للذرات. وحقيقة الأمر أنّ هنالك تجمعات من هذه الذرات وحركات دماغية بأكملها تفوتنا، ولكن لو كنا نمتلك أدوات تكبير أقوى مما لدينا بملايين المرات فإننا سنشهد "حركات الجواهر الفردة والذرات والالكترونات التي تتألف منها القشرة الدماغية. وكنا نملك من جهة أخرى، لائحة التقابل بين ما هو دماغي وما هو عقلي أعني – يقول برغسون – معجماً يسمح بأن نترجم كل حركة من هذه الحركات بلغة الفكر والعاطفة لعلمنا كما تعلم هذه النفس المزعومة كلّ ما تفكر فيه وكل ما تشعر به وكل ما تريده وكلّ ما تحسب أنها تفعله بملء حريتها مع أنها لا تفعله في حقيقة الأمر إلا آلياً"[4]... ولكننا لا نمتلك هذه الأدوات. ولكن مازالت الفلسفة موجودة فإننا نستطيع وصف الظاهرات الداخلية لاسيّما ونحن نمتلك المقدرة العقلية (الحدس). فالفيلسوف وحده هو القادر على توجيهنا إلى الظاهرات التي يعرفها علم النفس وبإمكان الفيلسوف أن يشهد "الصيرورة التدريجية إلى مادة، ورصد الخطوات التي يبرز فيها الشعور إلى الخارج مما يمكنه – على الأقل – أن يصل إلى حدس غامض لما عسى أن يكون عليه نفاذ الروح في المادة وعلاقة النفس بالجسم"[5]. وهنا يأتي دور علم النفس في تقويم منهج الملاحظة الداخلية التي تصحح ما يكون في التجربة الداخلية من خطأ وتكمل النقص. وهكذا يكون برغسون قد وجد نفسه قد اقترب من حل المسألة من خلال التردد بين مركزين للملاحظة: الداخل والخارج. ولعل برغسون بكلامه هذا كان قد أثار مسألة أنّ الذات تتكون من الديمومة الشاعرة باستمرار، كونه قد أوجد ماهية جديدة للعقل تمزج بين الروح والشعور والذاكرة... والروح هنا هي التي تنمو، فهي ليست الروح الغيبية المتعارف عليها، بل هي الشعور الذي ينشأ بتطور الذات من خلال الذاكرة... لاسيما وأنّ الشعور هو الذاكرة يقول برغسون: "متى قلت روحاً فقد قلت شعوراً... إنّ الشعور يعني الذاكرة قبل كل شيء"[6]. حيث وظيفة الشعور الأولى هي ذكر مالم يعد موجوداً واستباق مالم يوجد بعد، فنحن ديمومة تنقسم إلى قسمين: ماضينا المباشر ومستقبلنا الوشيك. ونحن متكئون على الماضي ومنعطفون على المستقبل، وعليه يكون ما يخص الكائن الشاعر هو الاتكاء والانعطاف. وطالما نحن نملك هذه الخاصية فإنّ وظائف كثيرة فينا تبدأ بخلق أعضاء ملائمة لهذه الوظائف ويحصل هذا بالتكامل وتعقد الكائن الحي، حيث يتوزع العمل وتصبح للوظائف المختلفة أعضاء مختلفة. فالجهاز العصبي مكون من الدماغ والنخاع الشوكي والأعصاب وغيرها. كلّ واحد منها يمكن أن يتحرك بتأثير سبب خارجي مما يجعل الجسم يحقق فوراً مجوعة من الحركات المتوافقة رداً على التنبيه الوارد له، وهو متكامل بهذا الشكل مع الإنسان كون دماغ الإنسان بهذا الشكل بإمكانه استلام المنبهات من كل نوع سواء من النخاع أو غيره، حيث يحتوي النخاع على عدد كبير من الأجوبة الجاهزة يرد بها على السؤال الذي تطرحه الظروف. وهنا يكون الدماغ عضو اختيار كونه سيختار أحد الأجوبة. هذه الشبكة المعقدة من الأعصاب تختلف مع الكائنات الأدنى حيث يكون الانفصال بين وظائف الدماغ ووظائف النخاع أقل وضوحاً، وتبدأ وظيفة الاختيار بالامتداد إلى النخاع أقل وضوحاً، وتبدأ وظيفة الاختيار بالامتداد إلى النخاع الذي يكوّن عدداً من الأجهزة أقل ويعبئها بدقة أقل، وهذا يعني أنّ جميع الكائنات الحية تمتلك شعوراً لكنه يختلف باختلاف التعقيد[7]. فالعقل إذن، بتعقيده وارتقائه كان قد أوجد أعضاء ووظائف جعلت من الإنسان شعوراً وديمومة أو فكراً واتصالاً؛ وهنا يركز برغسون على الكلمات فالفكر يعبّر عنه بالكلمات لأنّه مختلط ولكي يتضح "ويتميز لابدّ له من أن يتناثر في كلمات"[8]. والفكر ليس حالات بل هو اتجاهات وجوهر الفكر هو التغير الدائم المتصل، واتجاهه يكون إلى الداخل كون محاولاته تكمن في التعبير عن نفسه بتغيرات ذات اتجاه خارجي، أي بأفعال وحركات قادرة على أن تمثل في المكان حركاته ذاهباً آيباً فتعبر عنها مجازاً إن صح التعبير. والإنسان ينمي نفسه بنفسه بوجود الشعور والذاكرة والفكر فهو من يخلق نفسه، إنّه خلق يتجدد في كل لحظة هذا بالإضافة إلى الإدراك. فجسمنا المندرج في العالم المادي عليه أن يستجيب بحركات مناسبة لما يتلقاه من تنبيهات، وهذه الحركات طبعاً يؤديها الدماغ والمجموعة الشوكية مما يساعد على الإدراك. لكن يجب أن نشير إلى أنّ الإدراك ليس كل شيء لأنّه يوجد شيء آخر أساسي لصنع الإدراك وهو الإرادة. وتكمن وظيفة الإرادة في "أنّ الجسم يقوم بالحركات الإرادية بفضل بعض الأجهزة المعبأة في المجموعة العصبية والتي تنتظر الإشارة حتى تنطلق"[9]. وبالتأكيد إنّ الدماغ هو مصدر الإشارة والانطلاق، وهذه الإشارات تطلعنا على الحل الذي يقدمه برغسون حول العلاقة بين العقل والدماغ. حلل برغسون مسألة ظهور الوعي ويبدو – مما سبق – أنّه يعتقد بأنّ المادة هي الأولى وأنّ الشعور قد نفذ إليها بالتدريج وكأنّما أراد الشعور أن يشق لنفسه ممراً باطنياً فقام بمحاولات ذات اليمين وذات الشمال فاندفع قليلاً أو كثيراً إلى الأمام وتحطم على الصخر في معظم الأحيان. لكنه استطاع – في اتجاه واحد على الأقل – أن ينفذ وأن يخرج إلى النور وهذا الاتجاه هو الذي يؤدي إلى الإنسان"[10]. ونفاذ الشعور الخالق في المادة كان قد حرر بالبراعة والابتكار شيئاً ظل حبيساً في الحيوان لينطلق نهائياً في الإنسان. وقد وصف برغسون هذه العلاقة بدقة قائلاً: إنها معقدة ومرهفة ويمكن صياغتها بقانون بسيط هو أنّ "الدماغ هو عضو التعبير عن الفكر بإشارات. فوظيفته هي أن يومىء إلى حياة الفكر بإشارات ويومىء بإشارات أيضاً، إلى الظروف الخارجية التي ينبغي للفكر أن يتلائم معها. فالنشاط الدماغي هو النشاط النفسي". الدماغ ليس عضو تفكير ولا عاطفة ولا شعور بالمعنى الأصلي للكلمة، وإنما هو يجعل الشعور والتفكير والعاطفة تظل ممتدة على الحياة الواقعية. يقول: "فقولوا إن شئتم: إنّ الدماغ عضو الانتباه إلى الحياة"[11]. فالدماغ يختزن عادات حركية لا ذكريات. وجميع وظائف الدماغ إضافة إلى الذاكرة مستقلة من الدماغ. وهذا إن عنى شيئاً فإنّه يعني إعلاء للجانب النفسي على الجانب الدماغي، وهذا ليس غريباً على برغسون، الذي حصر الحقيقة في العالم الذاتي الوجداني المتحرك والمتغير باستمرار، الذي سمته الديمومة والخلق. 

  الهوامش:

[1]- إنّ مفهوم الحدس كان قد اكتسب بحثاً تشريحياً من قبل برغسون كفكرة فاعلة في فلسفته وهي الفكرة التي دلتنا على خريطة مفاهيمية مترتبة عليها، كالوجدان والوثبة الحيوية... إلخ. الأفكار التي كان برغسون عالماً تشريحياً بها جسد وظيفة الفلسفة كتشريح للأفكار... [2]- برغسون، هنري، الطاقة الروحية، ت: سامي الدروبي، الهيئة المصرية العامة، 1971، ص30. [3]- نفسه، ص34. [4]- نفسه، ص31. [5]- نفسه، ص34. [6]- نفسه، ص5. [7]- نفسه، ص7-11. [8]- نفسه، ص20. [9]- نفسه، ص41. [10]- نفسه، ص20.

[11]- نفسه، ص43-45.

  المصدر: كتاب الفلسفة (فسيولوجيا العقل وعلم تشريح الأفكار)

ارسال التعليق

Top