• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

علامات بيئية في الفقه الإسلامي

السيد هاني فحص*

علامات بيئية في الفقه الإسلامي
◄ليس بالضرورة أن تكون البيئة، بمفهومها الإشكالي الراهن، والمفتوح على تعقيدات واستحقاقات خطرة جدّاً، موضوعاً معرفياً ناجزاً في منظومة فكرية أو فقهية، دينية أو وضعية، مهما تكن سعة هذه المنظومة وعمقها، في ظروف تأسيسها التاريخية والسابقة على المعطيات البيئية المستجدة... وكيف يمكن أن ينجز تكييف فقهي فرعي إسلامي مثلاً لمسألة البيئة أو مسائلها بكل معطياتها المشهودة ومؤشراتها، قبل تبلور إشكاليتها كما هي الآن، وبما هي ناتج للتطور العلمي الذي حكمته منذ عصر النهضة تقريباً ثنائية الإنسان الحادة مع الطبيعة؟ وهل يمكن تحقيق تكييف فقهي على موضوعات غائبة لأنّ الفقه هو ترتيب الأحكام على موضوعاتها، والحكم يدور مدار موضوعه وجوداً وعدماً كما في لسان الفقهاء، فإنّ كان الموضوع غائباً كانت الأحكام أقرب إلى الأخيلة واستباقاً لمعطيات حضارية بعيدة؟على انّ الفقه الإسلامي لا يخلو من اطلاعات لافتة على جزئيات وتفاصيل وفروع وأحياناً عموميات تتصل بمسألة البيئة وإن كانت مندرجة تحت عناوين أخرى. إنّ عناءً كبيراً ينتظر من يحاول أن يستجمع هذه المسائل ليكون منها أوليات تكييف فقهي لمسألة البيئة، لأنّه سيجد نفسه مضطراً لإجراء فحص تفصيلي لأكثر أبواب الفقه، في العبادات والمعاملات. إذاً، فالفقه البيئي بمعناه الكامل، يمكن أن يكون مشروعاً قيد الانجاز، إذا ما رغب الفقهاء المعاصرون في ذلك مستفيدين من العلوم المدنية الحديثة، النظرية منها والبحتة والدقيقة والتطبيقية، عاقدين العزم على إعادة المسار التكاملي بين العلم الديني والعلم المدني، بما فيه الحقوقي. ولقد أصبح من الوضوح بمكان انّ هذا المسار التكاملي قد أمسى ضرورة حياة، وقد كانت الالماحات المبكرة إليه ذات أثر كبير في توجه المسلمين أبان فترات الطموح والإزدهار المعرفي... منها المأثور عن الرسول (ص) "العلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان". وفي حين كان الإسلام من القرآن إلى السنة إلى سيرة العلم والعلماء والعقل والعقلاء في تاريخنا، يلزم بالعلم بالمطلق، فقد فهم المسلمون من هذا الالزام انّ العلم المدني، المعبر عنه بأبرز مصاديقه أو أفراده (علم الأبدان) تعبيراً لا يقصد منه الحصر قطعاً، متمم للعلم الديني وشرط من شروطه، وهنا طال الحديث في الفقه وبين الفقهاء حول أهل الخبرة، أي أهل الاختصاص غير الفقهي ودورهم وموقعهم في إضاءة الموضوع أمام نظر الفقيه، وكثر حديث الفقهاء عن الوظائف الضرورية لحياة الاجتماع السلامي والإنساني العام، وكونها واجبات كفائية يمكن أن تتحول في لحظة معينة إلى واجبات عينية. إنّ انجاز الفقه البيئي بالحدود المجزية، أمر ممكن ومطلوب، ومفيد لأنّ حالة التدين الراسخة والواسعة وغير المهددة بالانحسار، تجعل من اهتمام الفقهاء بالمسألة عاملاً كبيراً من عوامل المواجهة مع الأخطار البيئية الملموسة والمتوقعة، تخرجها من إطار المسؤولية الحصرية للدولة إلى إطار القواعد الشعبية الواسعة والمعنية أساساً بسلامتها وبالمخاطر المتفاقمة على حياتها، وذات المصلحة الأكيدة في مواجهتها والحد منها. إنّ إعادة وضع مسألة البيئة في إطار الأدبيات الإسلامية وعلى خارطة الأحكام التكليفية، التي تدخل في وظيفة المبلغ الديني، من شأنه أن يسهم في انتاج وعي بيئي شعبي عام، تفصيلي ويومي، الزامي وطوعي يشكل رادعاً ذاتياً قوياً ويؤسس لسلوك بيئي ناجع. ويمكن للوعي الفقهي البيئي المؤصل والموصل بمقاصد الشريعة، أن ينفتح على مساحات تشكل ضمانة للالتزام بالفقه البيئي، منها مثلاً مساحة الالتزام بالقوانين الوضعية التي تتصل بالنظام العام ووجوب حفظه بصرف النظر عما إذا كانت الدولة التي وضعته مقبولة من وجهة نظر فقهية أم غير مقبولة. وحينئذ يمكن تربية الملتزمين بأحكام الشرع وعامة المتدينين على مراعاة القوانين والتشريعات البيئية، ونحن نلاحظ أن تراخي الفقهاء والمبلغين الدينيين في هذه المسألة يؤدي إلى خلل ونقص في الالتزام العام، يطال فيما يطال الالتزام بالأحكام الشرعية من قِبَل المتدينين في كثير من الحالات التي تتصل اتصالاً وثياقاً بمسألة البيئة. إنّ البيئة باعتبارها أكثر المشتركات عمومية تصبح شأن الجميع، ومن هنا فإنّ وعياً فقهياً بأحكام البيئة، يعم العامة والنخبة معاً، يمكن أن يندرج في سياق ثقافة عامة تمتد تأثيراتها إلى السلوك العام واليومي وفي شتى المجالات، ويمكن أن تصب في تيار من الوعي الاجتماعي، يؤدي إلى تصحيح في تصور المجتمع الأهلي والمدني وتصور الدولة لمسألة التنمية وشروطها وضرورة شموليتها وأولياتها. انّ المستوى السياسي، باعتباره المستوى الذي يصل بمسألة المشاركة إلى غايتها، سوف يكون في انتظار أي حركة بيئية جادة، وليست القضايا الكبرى، التي عشناها ونعيشها، من العدالة إلى الوحدة والتحرير والتقدم، بأكثر أهمية أو صلة بحياتنا ومستقبل وجودنا، من مسألة البيئة، وها هي أوروبا تحتضن مسيرة وعي وحركة في اتجاه قضايا البيئة، تتحول يوماً بعد يوم، من حركة وعي مباشر ومحايد سياسياً، إلى حركة مشاركة واحتجاج وتغيير، يمكن أن تتراكم فعالياتها سنة بعد سنة لتصبح أكثر عمومية وتأثيراً ومدخلية في بناء الاجتماع الحديث والدولة الحديثة. ومن هنا يصح لنا أن نتوقع انّ أحزاب البيئة سوف تكون، وربما في المستقبل القريب، الأكثر استقطاباً، وقد ننقسم مستقبلاً، انّ اتجهنا هذا الاتجاه إلى جماعات بيئية تختلف مناهجها وبرامجها وأحجامها وتأثيراتها بحسب مقاربتها لمسألة البيئة ونشاطها فيها، لأنّ هذه المسألة تنجر بدورها لتصبح مسألة مركزية أو المسألة المركزية الأولى والكبرى على مستوى المعمورة. وإذا أضفنا البُعْد النفسي والروحي إلى منظومة المسائل البيئية، يمكن لنا أن نتوقع أو نتصور انّ العدالة الاجتماعية وتحرير الأرض والإنسان في كل أصقاع الدنيا، يمكن أن تندك في قضية البيئة التي هي في حصيلتها الأخيرة قضية عدالة واعتدال وتوازن. وهنا ينفتح الباب واسعاً أمام الفقهاء ليسهموا في ثقافة القرن القادم من خلال فقه البيئة، ويطلوا من خلاله على القضايا الأخرى إطلالة حضارية، وذلك من خلال حركة اجتهادية تجمع إلى قراءة النص ثانية على ضوء المستجد المعرفي والحياتي، إعادة الاعتبار إلى مقاصد الشريعة والقواعد الفقهية العامة، كحافز على مواكبة الأخطار والأسئلة التي لا يجوز أن تبقى مؤجلة أو من دون أجوبة، ولا يكفي في تلافي طرحها الإفراط في الطمأنينة أو المبالغة فيها. لقد كان تهميش الفقهاء من قبل بعض الحكام وتهميش الفقه من قِبَل بعض الفقهاء أو أكثرهم، مدعاة إلى الانصراف عن فقه الحياة الدنيا إلى فقه الآخرة، إلى فقه العبادات، التي هي ضرورة دين ودنيا معاً، ولكنها لا يجوز أن تكون مفصولة عن شؤون الدنيا التي هي مزرعة الآخرة... واختبارها... وكأنّ الفقهاء في انصرافهم ذاك، قد ذهبوا إلى الحيز الذي يؤكد الهوية الإيمانية في مقابل من حلول الغاءها أو تشويهها، وشكّل لهم ذلك، أي الاستغراق في فقه العبادات مكاناً آمناً احتموا فيه من أدوات القمع والمنع والمصادرة. ولكن هذا المسلك، انكشف عن آثار سلبية، فأسهم في طبع الفقه الإسلامي بماضوية مقطوعة وبطابع الجدل الذهني التكراري والسجالي، بدل أن يستمر في حركته الموصولة بالواقع ترشيداً واسترشاداً، كما كانت سيرته أبان عهود الإزدهار، في العهد الراشدي وبعض المحطات الضيقة في عهود أخرى. انّنا لا نوافق القائلين أو المقرين بأنّ باب الاجتهاد في فقه مذاهبهم قد أقفل أو أغلق فانغلق، لأنّه لا ينغلق حتى لو أغلق، جل ما في الأمر انّه كان للسلطان دور والفوضى والمزاجية الفقهية، كناتج من نواتج التطورات التي حصلت على مستوى الدولة والمجتمع، دور في تحويل الاجتهاد عن غاياته وشروطه الداخلية ومساراته، ولكن الذي حصل فعلا، هو انّ فقهاء المذاهب، التي وسمت بالإغلاق أو الإقفال، وخصوصاً التي كانت في أدوار متبدلة معنية بمتطلبات المجتمع والدولة فيما يتصل بالنظام العام، وكانت الدولة معنية بها وبمعرفتها كمصدر وحيد للتشريعات التي تقتضيها ضرورات الحكم والاجتماع، لم يكف عن الاستجابة للأسئلة والمتغيرات استجابة فقهية اجتهادية بنحو من الأنحاء. والآن، على هذا المقلب أو المنقلب الحضاري الصعب، صار من اللازم، لحفظ الوجود والفكرة والهوية، أن نفتح الاجتهاد على آفاقه الرحبة، وأن نجري تعديلاً منهجياً في شروطه المعرفية وغاياته. وأن نحوّله من اجتهاد المذاهب داخل دوائرها المغلقة إلى اجتهاد عام يتسع لقضايا الأُمّة في حاضرها وغدها وعلى مساحة وجودها الأوسع والأكثر تعقيداً أو الأشد تعرضاً للتحديات والمساءلة. بمقتضى المحددات المنهجية للاجتهاد في الفقه الإسلامي، تتوفر فرص كبيرة وواسعة تمكن الفقيه من مواكبة المستجد أو المتغير، وتحصن المجال الفقهي الإسلامي من أن تحدث فيه انقطاعات ومناطق فراغ علمي أو عملي، وفي المباني الأصولية مجال إعادة التأسيس الفقهي والبناء على الأسس العامة، لما تتمتع به من مرونة وعمومية، تجعلها قابلة لإعادة الخاص إلى العام وضبط الجزئيات في نظام العموميات مع الحفاظ على خصوصياتها. وتنهض معيارية المصلحة والمفسدة وحركة العناوين بين العنوان الأولي والعنوان الثانوي، بين الأصلي والطارئ، كمفاهيم متحركة ومتيحة لحركة يتم على أساسها استيعاب التغيير والمتغيرات فقهياً مع الحفاظ على وحدة السياق والتواصل. وشمولية الفقه الإسلامي بمعنى انطلاقه من أنّ لكلّ واقعة من الوقائع حكماً فقهياً، تشكل ملزماً للفقهاء بالعناية بالموضوعات والمسائل المستجدة التي تتطلب أحكاماً فرعية تفصيلية، قد لا يكون الفقيه مضطراً، في كثير من الحالات، إلى التأسيس فيها ولها، لأنّها متضمنة، بشكل أو بآخر، في أبواب الفقه ومسائله، وكأن ما يحتاجه الفقيه في موضوع كموضوع البيئة، انّما هو إعادة التشكيل لمجموعة الأحكام والمباني واستكمال أو ملء الفراغ الفرعي فيها. ولعل قراءة سريعة لمصادرنا، يمكن أن نلاحظ من خلالها مدى اهتمام الرسول الأكرم (ص)وصحابته الكرام بموضوعات تتصل بموضوع البيئة من بعيد أو قريب، وتزودنا بمحصول وافر من الأدبيات الإسلامية التي تصلح مدخلاً إلى المعالجة الفقهية المختلفة (باب الأطعمة والأشربة والطهارة والنجاسة والذباحة والصيد وغيرها). وهذه أمثلة من الأدبيات التي تتصل بموضوعنا: 1-              عن جماعة في المدينة كانت لهم مأدبة في بستان "ثمّ رفعت المائدة فذهب أحدنا ليلتقط ما كان تحتها فقال المضيف: مه، انّ ذلك في المنازل تحت السقوف، فأما مثل هذا الموضع فهو لعافية الطير والبهائم" أي أنّ ما يفضل من الطعام هو للطيور والحيوانات البرية. 2-              "الدجاج خنزير الطير" لأنّه يتغذى على عذرة الإنسان، كما كان في كثير من أريافنا ولعله باق في بعضها حتى الآن... ومن هنا كانت أحكام الحيوان الجلال في الفقه الإسلامي. 3-              "انّ لكل ثمرة سماً فإذا اتيتم فامسوها الماء واغمسوها في الماء". 4-              مروي فيما يروى استحباب الشرب من ماء الميزاب وكراهية ماء الكبريت. 5-              الغريب عندما يريد أن يتوضأ، ولأنّه خارج بيته أو لا بيت له، يتقي شطوط الأنهار، والطرق النافذة، وتحت الأشجار المثمرة ومواضع اللعن (أبواب الدور). 6-              وعن الرسول (ص): "ومن قتل عصفوراً عبثاً عج إلى الله يوم القيامة منه، يقول: يا رب انّ فلانا قتلني عبثاً، ولم يقتلني لمنفعته" ونهى (ص) عن قتل كل ذي روح إلّا أن يؤذي. 7-              وعن المخدرات يقول (ص): "سيأتي زمان على أمتي يأكلون شيئاً اسمه البنج أنا بريء منهم وهو بريئون مني". 8-              ست خصال ينتفع بها المؤمن بعد موته، ولد صالح يستغفر له، ومصحف يقرأ منه وقليب يحفره (بئر ماء) وغرس يغرسه، وصدقة ماء يجريه، وسنة حسنة يؤخذ بها بعده. 9-              سُئل الرسول (ص) "أي المال خير؟ فقال: الراسيات في الحل والمطعمات في المحل. 10-          "ما في الأعمال شيء أحبّ إلى الله تعالى من الزراعة، وما بعث الله نبياً إلّا زارعاً، إلّا إدريس فإنّه كان خياطاً".

ارسال التعليق

Top