◄وحدانية وصفات الله تعالى:
قال تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (الحديد/ 1-6).
أول خطوةٍ على طريق السعادة أن تعرِف ربّنا، الواحد الأحد، الذي له الصفات الحسنى، وبيده كلّ شيء، فنعبّده، ونلجأُ إليه، ونستمدُّ منه ما يُصلح حياتنا وآخرتنا.
1- تسبيح الخالق:
قال تعالى في الآية الأولى من سورة الحديد: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، والتسبيح يعني تنزيله الله تعالى عما يحدُّه بشكلٍ أو حدود، وعن كلِّ الصفات الناقصة، فصفاته صفات الكمال المطلق، وهو مُنزّهٌ عن العجز والنقص والضعف، وهو المطلق بلا تقييد، والقادر بلا حدود، والعادل بلا موانع. يُسبح لله تعالى كلّ ما في السماوات والأرض، من الإنسان والحيوان والجماد وجميع المخلوقات، (وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء/ 44)، فنحن لا نعرف كيف يُسبحون، ولكن الجميع يسبح لله تعالى، الذي يتصرف من موقع العزة والاقتدار، وبكلّ حكمة واتساق.
2- المالك المحيي والمميت:
قال تعالى في الآية الثانية: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). هذه الميزة هي الأصل والأساس، إنّ الله تعالى يملك كلّ شيء، فهو يملك السماوات والأرض، ويملك كلّ ما يمكن أن نتصوّره أو لا نتصوّره موجوداً في الكون أو في الآخرة. الملكية مطلقةٌ لله تعالى، لا يشاركه فيها أحد، ولا ينافسه فيها أحد، (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الإخلاص/ 1)، حيث تقطع كلمة أحد الطريق عن العدِّ، فلا اثنان ولا ثلاثة بعده، هو الواحد الأحد. (اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) (الإخلاص/ 2-3)، ولا يضاهيه أو يُساويه أحد، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص/ 4). كيف نعرف ذلك؟ يأتي الجواب الإلهي: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الأنبياء/ 22). ومن وصية الإمام عليّ (ع) لابنه الحسن (ع) قوله: "واعلَم يا بُنيّ، أنّه لو كان لربِّك شريكٌ لأتتك رُسُله، ولرأيت آثار مُلكه وسلطانه، ولعَرَفْتَ أفعاله وصفاته، ولكنه إلَهٌ واحدٌ كما وصف نفسه، لا يُضادّه في ملكه أحدٌ، ولا يزول أبداً ولم يَزَلْ، أوّل قبل الأشياء بلا أوليّة، وآخرٌ بعد الأشياء بلا نهايَةٍ".
الإله واحدٌ أحد، عرفناه بالعقل، ودلّتنا الآيات المحيطة بنا على أنّه الخالق العليُّ القدير، فكلُّ ما حولنا يُشير إليه، (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الملك/ 1). فهو القادر على كلّ شيء، وكلُّ شيء من خلقه وعطائه وتقديره، وهو الذي يُحيي ويُميت، وهو (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك/ 2).
بداية الحياة من عند الله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) (الطارق/ 5-7). وهو الذي أوجد النطفة الأولى لتنمو في رحم المرأة، ثم يخرج المولود إلى الحياة، (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) (الواقعة/ 58-59)، وها هي الحقيقة ساطعة وبيِّنة في كلِّ لحظة على هذا الأرض، بتكاثر الخلق وفق إرادة الله تعالى الواحد الأحد.
والموت بيد الله تعالى: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) (الواقعة/ 60)، فلا يمكن لمخلوق أن يتحكّم بتوقيته، (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (الأعراف/ 34)، وها هي المحاولات البشرية من الملوك والرؤساء والأغنياء، الذين يبذلون ما لديهم من أجل استمرارية حياتهم، تبوء بالفشل، إنّه الموت بيد الله تعالى.
يخلق الله تعالى بمقادير وضوابط، (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى/ 2-3)، فهو الذي خلق الإنسان بمقادير معينة، وهداه إلى طريق حياته، وخلق الحيوانات بمقادير وغرائز وصفات وفطرة، وهداها إلى كيفية تمضية حياتها على هذه الأرض، وكذلك كلّ ما يحيط بنا مقدّرٌ من الله تعالى لحياتنا التي نعيشها. نحن بحاجة إلى أن نتنشق الأوكسجين وهو من خَلْقِ الله تعالى، وبحاجة إلى الطعام لتستمر حياتنا فخلق لنا النباتات والحيوانات المختلفة، وبحاجة إلى الشمس التي تضيء وتؤثِّر في حياة الكرة الأرضية. وكذلك خلقنا وأوجدَ في داخلنا كلّ المقومات التي نحتاجها، لقد فطرنا لنحيا على هذه الأرض، وأوجد لنا المحيط المتناسق الذي قدّره بما يساعدنا على استمرارية الحياة.
3- هو الأوّل والآخر:
قال جلّ وعلا في الآية الثالثة: (هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). إنّ كلّ آية من الآيات الست تشتمل على علمٍ غزير في التوحيد والألوهية، وتتضمن معارف كثيرة من العلوم الصمدية والربوبية.
كما إنّ هذه السورة المباركة، سورة الحديد، وخاصة هذه الآيات المباركة الأولى منها، تحتوي على معارف تقصر عنها أيادي آمال العارفين. وفي عقيدة هذا الكاتب، تستبطن هذه الآية الشريفة على خصوصية تفوق الآيات الأخرى، وهي: بيانُ أنّ الحق سبحانه هو الأوّل والآخر، والظاهر والباطن، حيث تقصر البلاغة عن الشرح، ويعجز القلم عن الخوض فيه.
هو الأوّل الذي لا يوجد قبلَه شيء، فالبدايةُ من عنده، ولم يبتدئ من شيء، هو الأوّل بلا بداية، والخالق المطلق. والآخر الذي لا يوجد بعده شيء، فالنهاية عنده، تنتهي عنده الأشياء ولا نهاية له. وهو الظاهر في كلِّ شيء، والباطن في كلِّ شيء، فالإنسان له ظاهر نراه، وله باطن نعرف بعضه، لكن الله تعالى ظاهرٌ نراه بقلوبنا لا بأنظارنا، فهو جليٌّ واضح بلا ظهور محدود، وباطنٌ لا نُدرك كيفيته، لكنه موجود في كلِّ شيء.
قال النبيّ (ص): "لا يزال الناس يسألون عن كلِّ شيء حتى يقولوا: هذا الله كان قبلَ كلِّ شيء، فماذا كان قبلَ الله؟ فإن قالوا لكم ذلك فقولوا: هو الأوّل قبل كلِّ شيء، وهو الآخرُ فليس بعده شيء، وهو الظاهر فوق كلِّ شيء، وهو الباطنُ دون كلِّ شيء، وهو بكلِّ شيء عليم".
وقال أمير المؤمنين عليّ (ع): "ليسَ لأوّليّتِه ابتداءٌ ولا لأزليّتِه انقضاءٌ، هو الأوّل ولم يَزَلْ، والباقي بلا أجَلٍ... الظاهر لا يُقالُ مِمّ؟ والباطن لا يقال فيمَ؟". للمخلوق بقاءٌ محدود وأجلٌ محتوم، لكن الله تعالى يبقى ولا أجل له، فالبقاء من صفات الخالق.
4- ثم استوى على العرش:
قال تعالى في الآية الرابعة: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
مقدار يومنا المعروف هو أربع وعشرون ساعة، ولكن اليوم في الآية ليس كيومنا، وإنما هو مرحلة، فقوله تعالى (سِتّةِ أيّامٍ) أي ست مراحل، وقد ورد اليوم في القرآن الكريم بعدة مقادير، قال تعالى: (يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (السجدة/ 5)، فاليوم مقداره ألف سنة. وفي آية أخرى: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (المعارج/ 4)، فاليوم في هذه الآية مقداره خمسون ألف سنة، ولا نعرف مقدار اليوم أو المرحلة للأيام الستة. رُبّ سائل: لماذا خلق الله تعالى السماوات والأرض في ستة أيام، وهو القائل: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس/ 82)؟ إنّ الله قادر على خلق السماوات والأرض بأمره كن فيكون، لكنه يخلق كيفما يشاء، فهو (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الأنبياء/ 23)، وربما أراد أن يُبيِّن عظمته في خلقه، كما أورد بعض المفسرين، وهو غير مقيّد جلّ وعلا بأي طريقة من طرق الخلق، فقد خلق الإنسان بنماذج مختلفة، فخلق آدم (ع) من دون أبٍ ولا أُمٍّ، وخلق عيسى (ع) من دون أبٍ، وخلق باقي البشر من أبٍ وأمٍّ، إنّها إرادته في خلقه، لا تُقيّدها حدود.
خلق الله تعالى الخلق في ستة أيام فأتقن خلقه، ووضع الضوابط والقوانين بدقة متناهية، فالقمر يولد في التوقيت المحدد، وتدور الأرض حول الشمس ثلاثمائة وأربعة وستين يوماً وربعاً، فتجد مثلاً أنّ الخامس من آذار من هذه السنة، يشبه توقيت السنة التالية والسنة السابقة، في أوقات الفجر والظهر والمغرب، وطول اليوم وقصره، إنّها الدقة العظيمة التي تُشير إلى خلق الله تعالى: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل/ 88).
قبل أن نشرع في تفسير قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، لابدّ من التوضيح، بأنّ الكلمات التي يستخدمها الله تعالى لمُخاطبتنا تنسجم مع مداركنا وأفهامنا، ليوصل إلينا المعاني التي يُريدها، وإن كنا لا نُدركها على حقيقتها الكاملة، أو تُعطينا أحياناً صورة تقريبية، لنستوعب ما يقوله الله جلّ وعلا. فمثلاً نحن نفهم معنى العلم المحدود ويمكن أن نتصوّره، لكن صفة الله بأنّه عليم، تستلزم أن نضيف بأنّه بلا حدود بحيث لا تُدركه عقولنا، ونفهم معنى القدرة، فنراها في قوة رجل يُحطِّم الصخر أو يهزم الأعداء، لكنّنا نضيف بأنّها بلا حدود، فهي قدرة متناهية لا تستوعبها عقولنا.
وهنا، العرش: هو كرسيٌّ مسقوف يجلس عليه الملك، في مكان مرتفع، يُدير من خلاله أمور المملكة، والجالس على هذا الكرسي (العرش) هو الملك المسيطر صاحب القرار. يريد الله تعالى أن يُبيِّن لنا: بأنّه مسيطرٌ على كلّ شيء، ويدير كلّ شيء، ويشرف على كلِّ شيء، ويملك كلَّ شيء، فقال: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، أي استوى على الموقع الذي يُعبِّر عن السلطة الكاملة التي لا يُنازعه فيها أحد، فهو ملك الملوك، وبيده كلّ شيء، وهو الخالق المطلق. فالعرش ليس كرسياً يجلس عليه جلّ وعلا، لأنّ الكرسي محدود، وكلّ ما يخطر ببالكم أنّه محدود لا ينطبق على صفات الله تعالى الذي لا حدود له. إذاً (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، أي سيطر سيطرةً كاملة على ما خلق، بعد أن خلق السماوات والأرض في ستة أيام. وكذلك عندما يقول تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ) (البقرة/ 255)، أي وسع ملكه وسيطرته وقدرته السماوات والأرض، وهذا ما قاله أمير المؤمنين عليّ (ع) في تفسيره: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه/ 5)، يعني استوى تدبيره وعلا أمره.
سُئل أمير المؤمنين عليّ (ع) عن البُعد ما بين الأرض والعرش. فقال: "قول العبد مخلصاً: لا إله إلّا الله"، فلا مسافة، ولا بُعد، ولا حدود، ولا كيلومترات قابلة للقياس، وَحِّد ربّك فقط، وقل: لا إله إلّا الله، فتزيح الأوهام التي تأخذك إلى المسافة والزمان والمكان.
5- وهو معكم أينما كنتم:
ثمّ قال تعالى: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). الذي يلج هو ما يؤدي إلى الدخول العميق في الأرض، وما يعرُج هو الذي يصعد إلى السماء، فكلُّ نازلٍ وصاعد في السماوات والأرض تحت إرادته ومعرفته. ثم يقول جلّ وعلا: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)، فالله تعالى معنا في أي مكان، معنا في البيت، وفي السماء والأرض، وفي كلِّ لحظات حياتنا، لماذا؟ وكيف؟ لأنّه الخالق المطلق، الذي يحيطُ بكلِّ شيء ولا يُحيطُ به شيء، هو موجود في كلِّ مكان ولا يحصره المكان، وموجود في كلّ زمان ولا زمان له.
سأل نافع بن الأزرق أبا جعفر (ع) فقال: "أخبِرني عن الله متى كانَ؟ فقال: متى لَمْ يكن حتى أُخبِرَك متى كان سُبحانَ! مَن لم يَزَل ولا يَزالُ فَرداً صمداً، لم يتّخِذ صاحِبَةً ولا وَلَداً".
قال رجل للصادق (ع): "يا بن رسول الله دلّني على الله ما هو؟ فقد أكثَرَ المجادلون وحيّروني.
فقال (ع): يا عبد الله، هل ركبتَ سفينةً قط؟ قال: نعم.
قال: فهل كُسر بك حيث لا سفينة تُنجيك ولا سباحة تُغنيك؟
قال: نعم.
قال: فهل تعلّق قلبُك هنالك أنّ شيئاً من الأشياء قادرٌ على أن يخلِّصَك من ورطتك؟ قال: نعم.
قال الصادق (ع): فذلك الشيء هو الله القادرُ على الإنجاء حيث لا مُنجي، وعلى الإغاثة حيث لا مُغيث".
قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق/ 16)، وقال الرسول (ص): "إنّ من أفضل إيمان المرء أنْ يعلم أنّ الله تعالى معه حيثما كان". إنّ وسوسة الشيطان، هي الأفكار المختلفة التي تخطر ببال الإنسان: هل يقوم بهذا المحرّم أم لا، يسرق أم لا، يؤذي أم لا...؟ هذه كلُّها وسوسة يعلم الله تعالى بها، ولكنه لا يحاسب إلّا على ترجمتها إلى عمل. ولأنّه قريبٌ جداً منا ومعنا، يقول لنا تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186). فالله تعالى حاضرٌ يرى كلّ شيء، ويسمعُ كلّ شيء، وبإمكاننا مناجاته ودعاؤه في كلّ آن، فهو قريب غير بعيد.
يُروى أنّ النبيّ موسى (ع) قال: "يا رب أين أجدُك؟ قال عزّ وجل: يا موسى إذا قَصدتَ إليَّ فقد وَصلتَ إليَّ"، فالله تعالى موجود معك دائماً، ولكن العلّة ممن لا نعيش وجود الله تعالى معهم.
6- رؤية الله:
هل نستطيع أن نرى الله تعالى؟ الجواب: لا نستطيع رؤيته، (لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام/ 103)، لماذا لا نستطيع أن نراه جلّ وعلا؟ لأنّنا نرى من له حدودٌ وشكل، طولٌ وعرض، بدايةٌ ونهاية، فنحن عاجزون أن نرى ما لا حدود له. وكلُّ محدودٍ عاجز، أما الله فهو مطلق بلا حدود، ولا عجز أو نقص، ولا يمكن للعاجز المحدود أن يرى المطلق غير المحدود.
عَن أبي هاشم الجعفري عن أبي الحسن الرّضا (ع) قال: سألتُه عن الله هَلْ يُوصَفُ؟
فقال (ع): "أما تقرَأ القرآن؟ قُلْتُ: بَلَى.
قال (ع): أما تقرأُ قوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ)؟ قُلْتُ بَلَى.
قال (ع): فتَعرِفُونَ الأبصار؟ قُلْتُ: بَلَى.
قال (ع): ما هي؟ قُلتُ: أبصارُ العُيُونِ.
فقال (ع): إنّ أوهامَ القُلُوبِ أكبرُ من أبصارِ العُيُونِ، فَهُوَ لا تُدرِكُهُ الأوهامُ وهو يُدْرِكُ الأوهامَ".
لكن أمير المؤمنين عليّاً (ع) لا يعبدُ رباً لا يراه، وقد سأله ذعلب اليماني، فقال: "هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال (ع): أفأعبدُ ما لا أرى؟ فقال: وكيف تراه؟ فقال (ع): لا تُدرِكُه العيون بمشاهدة العِيَان، ولكن تُدركه القُلُوب بحقائِقِ الإيمان، قريبٌ من الأشياء غَيْرَ مُلامِسٍ، بعيدٌ منها غير مُبايِنٍ". إنّك ترى الله تعالى بقلبك وتشعر به. وفي القصة: إنّ ناسكاً ابتعد عن الناس، فتحسّر الناس عليه بسبب وحدته، فردّ عليهم: مَن قال إني وحيد، فقالوا: كيف ذلك ونحن لا نرى أحداً معك؟ قال: الله تعالى معي، إن أردتُ أن أحدثه دعوته، وإن أردتُ أن يحدثني قرأت القرآن.
حدّثنا القرآن الكريم عن طلب موسى (ع) من الله تعالى أن يراه: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف/ 143). لقد ترك الله تعالى مجالاً للأنبياء أن يخاطبوه ويطلبوا منه ما يشاؤون، وذلك لدعم موقعهم وقوة أدلتهم في دعوتهم إلى الإيمان، والجواب الواضح أنّ الله تعالى لا يُرى بالعين.
توجدُ آيةٌ كريمة معبِّرة وشاملة توضح لنا صفات الله تعالى من دون حاجةٍ إلى فلسفة أو مجلدات، يقول تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى/ 11)، أي شيء يخطر ببالك اطرده فوراً، فإذا أردت أن تصف قدرة الله فـ(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، أي لا يمكنك وصف قدرته، والله عزّ وجلّ (عَليمٌ)، ولكن لا يمكنك أن تصف أو تُدرك علمه الكامل، وهكذا...، فالله تعالى هو القادر الكامل الكبير المتعال، وأنت الضعيف الناقص والمحدود بالعلم والفكر والإمكانات، فلا تستطيع تجسيد صفات الخالق، لذا يقول تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).
ولكن بماذا نفسّر قوله تعالى: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (الفتح/ 10)؟ المعنى أنّ الله تعالى يؤيدهم، ويرعى جمعهم، لا أنّ له يداً وشكلاً، وللأسف فإنّ البعض فسر اليد باليد، وهذا تحديدٌ لله تعالى يتنافى مع صفاته. أو قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 115)، ووجه الله ليس معناه الوجه الإنساني، وإنما تعبيرٌ عن وجود الله تعالى في كلّ مكان. أو: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة/ 22-23)، فالنظر في يوم القيامة ليس بنظر العين وإنما بنظر القلب، ولهفة الشوق والإقبال، فكما تقف أثناء الصلاة متوجهاً إلى الله تعالى، وكأنك تشير إليه أمامك، وأنت تقصد أنّك متوجه بقلبك إليه تعالى، كذلك يكون النظر القلبي متجهاً إلى الله تعالى في يوم القيامة، ولا صحّة للقول باختلاف صفات الله تعالى في يوم القيامة عنها في الدنيا، فصفاته واحدة، وهي عين ذاته، ومطلقة لا حدود لها، في الدنيا والآخرة.
قال تعالى في الآيتين الخامسة والسادسة: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ). فالله جلّ وعلا مالك كلّ شيء، وإليه ترجع الأمور، فيحاسب الناس في يوم القيامة على ما اجترحته أياديهم، وهو يعلم كلّ شيء بما في ذلك ما في الصدور.
عندما نتعرّف على صفات الله تعالى نفهم تماماً بأنّ مرجع الأمور كلّها إليه، فلا نلجأ إلّا إليه، وهو معنا أينما كنّا، ما يدفعنا لدوام ذكره، وعيش رقابته، فتستقيم أمورنا في الدنيا، ونحصل على ثواب الله تعالى في الآخرة.►
المصدر: كتاب مفاتيح السعادة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق