• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

بين التجديد والمرونة

محمّد عليّ التسخيري

بين التجديد والمرونة

◄الفكر المنتَج يتأثر بثقافة المفكر ومعرفته بالعلوم المرتبطة بذلك الفكر

* مرونة الشريعة توفر ساحة مفتوحة من المتغيرات تتدخل فيها العوامل المتغيّرة

* المرونة لا تعني التنازل المبدئي أو الميوعة التنظيمة

* تحقيق مقاصد الشريعة على الصعيد الفردي موكول إلى المجتهد وعلى الصعيد الاجتماعي إلى ولي الأمر

* الحكم الثانوي يعبّر عن مرونة تشريعة

* ولي الأمر يصدر أحكامه الولائية في إطار الشريعة ومقاصدها وليس له أن يستبد برأيه.

 

التمييز بين التجديد في الفكر الإسلامي وعنصر المرونة في الإسلام؛ يمثل مدخلاً للتعرف على حقائق التجديد، ومدخلاً أيضاً لاكتشاف مظاهر المرونة وتطبيقاتها. ويتم هذا التمييز عبر أساسين: الأوّل: أنّ الفكر هو تصور مستقى من الإسلام، أي أنّه نتاج فهم المفكر للمصادر الإسلامية المقدسة عبر الأدوات الشرعية للفهم. وهذا الفهم له علاقة أيضاً بطبيعة فهم المفكر للواقع. ومن هنا فإنّ الفكر المُنتَج يتأثر بثقافة المفكر ومعرفته بالعلوم ذات المدخلية بموضوع الفكر، فضلاً عن بيئة المفكر واستجابته لعوامل الاختلاف ونوعيته وإحاطته بجوانب الموضوع. وهذه العوامل متغيّرة من مفكر لآخر، الأمر الذي يؤدي إلى بروز نوع من الاختلاف بين النتاجات الفكرية، وبالتالي فالتجديد الفكري يتأثر بمجمل هذه الحقائق، وهو الذي يعبَّر عنه بالاجتهاد.

أمّا الإسلام فهو نظام شامل ومتكامل، ويعبِّر عن الثوابت التي لا تقبل التجديد بذاتها. وللإسلام أساليب ثابتة في التعامل مع الجانب الثابت في الحياة الإنسانية، وله أيضاً أساليب مرنة في التعامل مع الجانب المتغيِّر، أي إنّ مرونة الإسلام وشريعته السمحاء تقتصر على معالجة المتغيرات، التي تمثّل المساحة التي تتحرك فيها عملية التجديد.

الثاني: إنّ مرونة الشريعة تخلق مساحة مفتوحة من المتغيرات، وهي مساحة مشروعة تتدخل فيها الاجتهادات أو تصورات المفكر والعوامل المتغيرة في شخصيته وفي فهمه، والتي يعمل المفكر في إطارها على تنظيم الجوانب التقنينية (التشريعية والتنفيذية) للحياة، بهدف اخضاع الحياة للشريعة. ومن هنا فإنّ العبد المرن في الشريعة هو الذي يحدد مجالات التجديد في الفكر الإسلامي ومساحاته. وهذه المساحات تتسع كلما ازدادت متغيرات العصر وضغوطاته وتحدياته.

 

مظاهر المرونة في الشريعة:

لا تعني المرونة التنازل المبدئي أو الميوعة التنظيمية، فإنّ كلاً منهما يتنافى مع عقائدية المبدأ المرن وواقعيته العملية؛ ذلك أنّ العقائدية والواقعية توجبان ثبات الأسس العقائدية والمفاهيم التصورية وثبات النظم والبناء العلوي الذي يقوم على أساس من ذلك التصور الرصين، فالمرونة – إذن – تعني التكتيك والتدرج الواقعي الذي يلحظ ضغوط الواقع، ويستهدف تعميق التصور الأصيل، والوصول إلى تطبيق الصورة التنظيمية المثلى. كما تعني قدرة النظام على استيعاب التحولات الزمانية والمكانية والتعقيدات الاجتماعية كلها، ووضع العلاج الواقعي لها في إطار الأطروحة العامة للتنظيم. وبالتالي فالمرونة هي اتخاذ موقف مؤقت يتغير بتغير الحالة بهدف المحافظة على الموقف العام.

والعقيدة لا تخضع لعامل المرونة، فهي الثابت – بالمطلق – الذي لا يخضع للمساومة تحت ضغط الواقع. في حين أنّ التشريع وأساليب التطبيق والتبليغ فيهما جوانب متغيرة، ولذلك فإنّ لعنصر المرونة مدخلية في صياغاتهما ونظمهما. وهنا يكمن سر خلود الإسلام وبقائه وقابليته على استيعاب كلّ ألوان التطور والتحدي. وتتمثل أهم مظاهر المرونة في الشريعة الإسلامية بما يلي:

1-  مقاصد الشريعة وقواعدها الفرعية، وهي على نوعين: مقاصد عامة، وترتبط بالغايات العامة للشريعة، والتي من شأن أحكامها الكلية تحقيق مصالح الأُمّة. أما المقاصد الخاصة، فهي ترتبط بغايات باب محدد من التشريعات التي تحقق مصلحة معينة من مصالح الناس. والمقاصد الخاصة فيها أيضاً جزئية ترتبط بحكم شرعي معيّن. وقد اختلف الفقهاء والأصوليون في تحديد أنواع المقاصد العامة للشريعة، ولكنهم اتفقوا على خطوط عامة تدخل في إطار تحكيم العدالة وتحكيم الأخوة وحفظ الدين وحفظ النفس والعرض وحفظ النسل وحفظ المال وحفظ العقل وغيرها. وبما أنّ قضية المقاصد ترتبط بتحقيق المصالح ودرء المفاسد؛ فإنّ الخشية من الوقوع في ملابسات الظنون الفردية التي تتجاذب الأفراد، تجعلنا نحيل هذه القضية في المجالات الفردية إلى قطع المجتهد فقط، إما بالنسبة للمجال الاجتماعي أو أمر الأُمّة فتحال إلى ولي أمر الأُمّة الشرعي؛ لتكون جزءاً من اختصاصاته في عملية التقنين، وهي بالتالي مساحة مرنة في الشريعة ترتبط باجتهاد ولي الأمر وتشخيصه المصلحة التي تحقق مقصد الشريعة.

2-  الأحكام الشرعية التي تحدد موضوعاتها الأعراف وأهل الخبرة، وهو ما يمكن أن نعبِّر عنه بتأثير الزمان والمكان في الاجتهاد ونوعية التأثير هذه لها مدخلية في موضوع المرونة؛ لأنّ تأثير الزمان والمكان في موضوع الحكم الشرعي هو الذي يحدد مضمون الحكم الشرعي وشكله. ومن مظاهر ذلك اختلاف مصاديق المفاهيم من مكان لآخر، كطبيعة الإسراف والغنى والاحترام وإعداد القوة وغيرها. كما أنّ متطلبات الزمان والمكان قد تتطلب – أحياناً – تعطيل حكم ما أو نظام ما لفترة معينة؛ نتيجة التزاحم بين ضرورة تطبيق الحكم والآثار السيئة التي قد تنجم عن التطبيق في ظل ظروف معينة قاهرة. وإذا كان الحكم يرتبط بعمل الأُمّة فلابدّ من إيكال تشخيص التزاحم وتقديم الأهم لولي الأمر أيضاً.

3-  فتح باب الاجتهاد في مجال استنباط الأحكام الشرعية، وهي المساحة الأكثر مرونة في الشريعة نفسها، أي إنّ عملية الاجتهاد عملية بالغة الدقة وبحاجة إلى نوع متميز من التخصص الذي لا يستطيع أي مكلف بلوغه، بل ولا يستطيع المجتهد نفسه ممارسته برأيه واستحسانه. فالمجتهد إذا لم يعثر على دليل من مصادر التشريع فإنّه يرجع إلى الأصول العملية، أي الأصول التي تحدد الموقف العملي عند غياب الدليل الشرعي النصي في إطار منهجية لصيقة بالشريعة. ومثال ذلك المسائل المستحدثة والجوانب التنظيمية الجديدة، سواء على مستوى فقه الأفراد أو فقه المجتمع، ككثير من قضايا العلوم التطبيقية والقضايا الداخلية في الأمور الحسبية، كنظم المرور والتسعير والتعليم، وقضايا الإعلام والاتصالات والفنون والآداب وغيرها. والحقيقة أنّ النصوص التي تركتها مصادر التشريع تحديداً (القرآن الكريم والسنّة الشريفة) تتناول قضايا الواقع المرتبط بفترة الصدور، وتتناول أيضاً الخطوط العامة للنظم الإسلامية، إضافة إلى بعض الأحكام التي تستمر موضوعاتها مع الزمان والمكان. والحال أنّ كلّ يوم يمرّ على البشرية يحمل معه قضايا وموضوعات جديدة، لا تعجز الشريعة مطلقاً عن تحديد أحكامها، وذلك من خلال نافذة الاجتهاد، هذه المكرمة العلمية التي منحتها الشريعة للأُمّة (من خلال مجتهديها)، لكي تبقى قادرة على إخضاع واقعها لأحكام الدين الحنيف. وبالطبع فإنّ موضع الاجتهاد يشتمل على تحديد دور العقل في عملية الاستنباط، كإدراك المصالح العامة أو إدراك التلازم بين أحكامه وأحكام الشرع.

ومن البديهي أن يرفض الشرع المقدس – خلال ممارسة عملية الاجتهاد – القواعد الظنية التي لم يقم على اعتبارها دليل قطعي، بل يحدد الاجتهاد في إطار القواعد التي قام على اعتبارها دليل قطعي؛ لأنّ الشارع لا يسمح للفكر البشري المحضن أن يضيف من ذاتياته للإسلام. وهذا الأمر دليل على دقة عملية الاجتهاد، وكونها لا تترك للمجتهد اختراع منهجية أو قواعد وأصول غريبة عن جنس الشريعة، أي لا تفتح الباب على مصراعية للمجتهد بأن يجدد ويصلح ويطوّر في الشريعة كيفما شاء، هذا فضلاً عن غير المجتهد، فذلك من باب أولى لا يتدخل في هذه الأمور التي ليست من اختصاصه.

4-  تشريع الأحكام (الشرعية) الثانوية في الحالات الطارئة. فالحكم الشرعي – لاعتبارات مختلفة – ينقسم إلى حكم أوّلي وحكم ثانوي وحكم ولائي. وما يهمنا هنا هو الحكم الثانوي، ويمكن أن نعرِّفه: بأنّه الحكم المجعول للموضوع بلحاظ ما يطرأُ عليه من عناوين خاصة تقتضي تغيير حكمه الأولي. وهذه الحالات الطارئة هي من قبيل: "الضرر"، "العسر والحرج"، "العجز"، "الإكراه"، "الخوف"، "المرض"، "تزاحم الحكم عند تنفيذه مع حكم أهم منه"، "وقوع الحكم مقدمة لحكم آخر"، إضافة إلى تحوّل الأحكام الوجوبية الكفائية إلى تعيينية إذا انحصرت بشخص واحد. ومن هنا فالحكم الثانوي يعبِّر عن مرونة تشريعية؛ لأنّ المرونة هنا تعني الاستجابة للحالة الضاغطة بمقدار ما تحمله من ضغط. والحالة الضاغطة هنا ليست دائمة، بل إنها استثنائية، فمثلاً في حالة "الاضطرار" نستدل بالآية الكريمة" "... (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (البقرة/ 173)"، وفي باب تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها. وكذا في حالة "الحرج"، فإنّ الآية الكريمة تقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج/ 78)، وغيرها. ولابدّ أن نؤكد هنا على أنّ الأحكام الثانوية تختلف عن الأحكام الولائية (أحكام ولي الأمر)، لأنّ الأحكام الثانوية هي أحكام شرعية وضعت للعناوين الطارئة، وتنحصر عناوينها فيما ذكر في القرآن الكريم والسنة الشريفة، فهي ترتكز عليها، بينما ترتكز الأحكام الولائية على المصلحة العامة ومتطلبات الوضع العام للمجتمع، ويصدرها ولي الأمر من منطلق صلاحياته، وهو الذي يحددها، بينما يستطيع الفرد تحديد الأحكام الثانوية في إطار الضوابط والشروط المنصوص عليها.

5-  المساحة التي ينفذ فيها حكم ولي الأمر، أو ما يصطلح عليه فقهياً بـ"الأحكام الولائية" أو "الحكومية" أو "السلطانية"، وهي مساحة من الأحكام خاصة بولي الأمر الشرعي، أي الذي تولى أمر المسلمين في إطار ضوابط الشريعة، ومنها قابليته على استثمار هذه المساحة من الأحكام الشرعية، وهي القابلية التي ترادف القابلية على الاستنباط. ونعرف الحكم الولائي بأنّه: "الاعتبار الصادر من الحكم الشرعي بمقتضى صلاحيته الشرعية: والمتعلق بأفعال العباد، وهو يشتمل على الأحكام التكليفية والوضعية. وهذه الأحكام لا تطلق لكلِّ مجتهد، فذلك ما يؤدي إلى تعدد الإرادات الاجتهادية، وبالتالي تفتت وحدة الأُمّة وتدمير كيانها، وهو ما يتناقض مع مقاصد الشريعة وروحها وغايتها، بل إنها تنحصر في الولي الذي حددت الشريعة مباني ولايته، أي الولي الحاكم. ومن هنا فالأحكام الولائية تختلف عن الأحكام الأولية والثانوية التي يحددها جميع الفقهاء، شريطة أن لا يكون فيها تقاطع مع الأحكام الولائية، كما أنّها محددة بموضوعات معينة هي مساحة المباحات في الشريعة وتشمل أساليب تطبيق الشريعة الإسلامية، كأساليب تطبق النظام المالي والاقتصادي أو أساليب تطبيق مبدأ الشورى. وتدخل الأحكام القضائية في هذا الباب. وباختصار فإنّ ولي الأمر يصدر الأحكام الولائية في إطار الكليات الشرعية ومقاعد الشريعة، وليس له في هذا المجال أي أن يستبد بالأمر، بل عليه أن يستشير ذوي الخبرة والاختصاص، ثمّ ينتهي إلى الحكم الشرعي في ضوء:

1-   مصلحة الأُمّة، وهنا تسمح الشريعة لولي الأمر بالنظر في المصالح وتحديدها عبر استشارة المتخصصين.

2-   الأضوية الكاشفة – كما يعبّر عنها الإمام محمّد باقر الصدر –، وهي التي اعطته إياها الشريعة ليسلطها على الواقع ويشخص الحكم المطلوب، ومن هذه الأضوية: الأحكام الولائية التي أصدرها الرسول العظيم بصفته ولياً للأمر، وهذا باب واسع لا نستطيع تفصيله هنا.

3-   الأولويات، وهي التي يواجه بها المساحة التي تتزاحم فيها الأحكام فيقدم الأهم على المهم، أو في إطار الاحتياط لقضية معينة، فيصدر حكماً يستبق فيه وقوعها أو مضاعفاتها، كما هو الحال في مجال سدّ الذرائع التي يظن أنها تؤدي إلى المفسدة، أما الذرائع القطعية الأداء فهي محرمة بالعنوان الثانوي الذي يشخصه المكلّف نفسه ولا تحتاج لحكم ولي الأمر.

وهنا لابدّ أن أوضح نقطة التقاء مهمة بين المدرستين الفقهيتين الكبريين: مدرسة أهل البيت – عليهم السلام – ومدرسة أهل السنّة، وتتمثل في سماح مدرسة أهل البيت – عليهم السلام – لولي الأمر باستخدام قواعد المصالح المرسلة وسد الذرائع وغيرها، وهي القواعد التي لا يسمح الفقه الإمامي باستخدامها في عملية الاجتهاد بالنسبة لمجمل الفقهاء.

 

العلم يضيء لنا الطريق، ويمنحنا القوة. والإيمان يشعّ في نفوسنا العشق والأمل والحرارة. العلم يصنع الآلة والإيمان يعيّن المقصد. العلم يمنحنا السرعة والإيمان يبيّن لنا الاتجاه. العلم استطاعة والإيمان توجّه نحو الانتخاب الأفضل.

الأستاذ مرتضى مطهري

 

 

المصدر: مجلة ثقافة التقريب/ العدد 11 لسنة 2008م

ارسال التعليق

Top