لعل الدين الإِسلامي من أكثر الأديان السماوية حرصاً على تقرير المساواة في الشؤون الاقتصادية بين الناس، وأشدها اهتماماً في إضعاف الفروق بين طبقات المجتمع وتقريب بعضها من بعض.
لقد نظر الإِسلام إلى ما يكمن في تضخم الثروات من خطر كبير على المجتمع الإنساني بما يحققه من تفاوت طبقي اقتصادي، يقضي على ثروة الإنسان الخُلُقية، ويؤول إلى الصراع العنيف على الأكثر بين تلك الطبقات.
هذا الصراع الذي يشتد بين الطبقات الفقيرة من جهة، وبين الطبقة الغنية التي تعمد إلى استعبادها واستثمارها.. مما يورث لدى الأولى السخط والحقد.
نظر الإسلام إلى ما يكمن في ذلك من الخطر على الأفراد والجماعات بسبب نمو الكراهية والبغضاء، فعمد إلى محاربة التفاوت الطبقي الاقتصادي محاربة لا هوادة فيها، وأمسك بتلابيب أولئك المترفين ووضعهم تحت رقابته الصارمة.
ورأى أنّ التضخم في الثروات ونمو الطبقية انما يقتحمان المجتمع من نوافذ عديدة، ومن طرق مختلفة فهناك طريق الربا، وطريق استغلال النفوذ والسيطرة وغيرها.. فوجه اهتمامه إلى سد هذه النوافذ وقطع الطريق عليها فحرم عمليات الربا بمختلف أنواعها تحريماً قاطعاً، واعتبرها من أكبر الكبائر، وتوّعد مرتكبها بحرب من الله ورسوله، وحّرم ما ينجم عنها من أرباح مالية قال تعالى:
(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...) (البقرة/ 275-279).
وحرّم جميع المعاملات المنطوية على الغش والخداع والقمار والتغرير والرشوة، وفي ذلك يقول سبحانه: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 188). قال (ص): (من غشّ أمتي فليس مني).
وحرّم استغلال النفوذ والسلطة للحصول على المال، وأجاز مصادرة الأموال التي تأتي عن هذا الطريق. وقد روي أنّه أقبل ابن الليث الازدي على رسول الله (ص)، وكان النبي (ص) استعمله على الصدقة (أي الجباية) فقسّم الرجل ما معه من المال قسمين، وقال للنبي (ص): هذا لكم وهذا أهدي لي.. فظهر الغضب في وجه الرسول (ص) وقام وخطب الناس وقال:
"أما بعد فإني استعمل رجالاً منكم على أمور مما ولاّني الله فيأتي أحدكم فيقول: هذا لكم، وهذا هدية أهديت لي، فهلاّ جلس في بيت أبيه أو بيت أمه، فينتظر أيُهدى إليه أم لا؟! والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحد منكم شيئاً إلاّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها تبعَّر".
.. فترك الرجل ما أهدي إليه ولم يمسه.
وحكي عن الخليفة عمر بن الخطاب أنّه فعل مثل هذا مع أبي هريرة عامله على البحرين، وقد بلغه أنه أثرى في أثناء ولايته، فاحصى ثروته وصادر جميع ما شك في مصدره. وقال عمر: استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين، ثم بلغني أنك ابتعت أفراساً بألف وستماية دينار.
فقال له أبو هريرة: كانت لنا أفراس تناتجت وعطايا تلاحقت، فقال له عمر:
قد حسبت لك رزقك ومؤونتك، وهذا فضل فأدّه.
فقال أبو هريرة: ليس ليس.
قال عمر: واللهِ أوجع ظهرك.. ثم قال إليه بالدرة، فضربه حتى أدماه ثم قال له: ائت بها.
قال أبو هريرة: احتسبتها لله.
قال عمر: ذلك لو أخذتها من حلال وأديتها طائعاً.
وحدث لعمر مثل ذلك مع سعد بن أبي وقاص، وقاسم ماله حين شك في مصدره، وفعل ذلك أيضاً مع عمرو بن العاص.
وفعل مثل ذلك عمر بن عبد العزيز حين تولى الخلافة، فقد ردّ جميع الإِقطاعات التي كانت لبني أمية وصادرها. وفعل ذلك من قبلُ أمير المؤمنين علي (ع) حين صادر القطائع التي أقطعها عثمان بن عفان وهو خليفة على ذويه وأوليائه الذين لم يكن لهم أي غنى في الإِسلام ولم يجاهدوا في سبيله.
وكان عمر بن الخطاب في خلافته اقطع قطائع، ولكن لأرباب الغَناء في الحرب، والآثار المشهودة في الجهاد، وفعل ذلك بازاء ما بذلوا من دمائهم ومهجهم في طاعة الله سبحانه، على خلاف عثمان فإنه أقطع أقاربه وخاصة من بني أمية وغيرهم لا لشيء إلا لأنهم ذووه وخاصته.
وقال علي (ع):
"ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان، وكلّ مال أعطاه من بيت مال الله فهو مردود في بيت المال، فإنّ الحقّ لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوج به النساء، ومُلك به الإِماء لرددته. فإنّ في الدول سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق".
وحرّم الإِسلام القمار بشتى أنواعه. ولا ريبّ أنّ بعض الناس كان اثراؤه من هذه الطريق المحرمة، فتحريم القمار والميسر وسواهما قطع هذه الطريق غير المشروعة لاكتساب المال.
ولم يكتف الإِسلام بإغلاق هذه النوافذ التي يتسرب منها تجمع الثروات في المجتمع، حتى فتح نوافذ عديدة، محاولاً تفتيت الثروات الضخمة، والحيلولة دون تراكمها، فوضع فريضة الزكاة، وأوجب الكفارات في كثير من المخالفات الشرعية، كلّ ذلك لأجل إضعاف الثروات القائمة المتراكمة.
ووضع نظام الأرث على الطبقات المعروفة، الذي يكفل به توزيع الثروات والتركات، ويحول دون تضخمها، لتتحول إلى ملكيات صغيرة موزعة على عدد أكبر. وهو بهذا النظام يوزع دائرة الانتفاع بها من جهة حين يحقق الملكيات المتعددة، ويحول من جهة ثانية دون تكديس ثروات كبيرة في أيدي فئة قليلة من الناس. وبفضل هذا النظام الأرثي الذي وضعه الإِسلام لا تلبث الثروات الكبيرة التي قد تتجمع في يد بعض الأفراد أن تتقلص وتتوزع ملكيتها بعد زمن قليل على عدد كبير من الناس.
وأين هذا النظام الحكيم الذي يهدف إلى التوازن الاقتصادي بين طبقات المجتمع وتقليل الفوارق بينها وإحاطته بسياج تحريم لحمايته، من نظام الغرب الحديث الذي يحافظ على بقاء التضخم وحفظ الثروات، حين ينقل بعضها جميع ثروة المتوفي أو أكثرها إلى الولد البكر، وَيَدَعُ كثير من قوانينهم المالك حراً في أن يوصي بتركته لمن يشاء، حتى تجمعت من جراء ذلك ثروات ضخمة في أيدي أفراد معدودين، وأثار ذلك حفيظة الفقراء وسخط القادمين، وأورثهم الحقد على المجتمع ونُظُمه بأسره وعلى الأغنياء وأُسَرِهم.
أقول: نظر الإِسلام إلى تراكم الثروة كمصدر فساد كبير، وكخطر داهم على المجتمع لما يصحبه من طغيان الفئة الثرية على الطبقات الفقيرة الكادحة، ومن تحكم في مقدراتهم، ومن سيطرة على حياتهم. نظر إلى ذلك وأشار إليه سبحانه بقوله: (كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق/6-7).
.. يطغى على الناس باستثمار كدحهم وتعبهم، ويطغى عليهم بإغلالهم والتحكم بهم، ويطغى عليهم بتسيير مصائرهم والسيطرة على مقدراتهم.
ويقول الإِمام علي (ع) "من ملك استأثر".
وهي حكمة بليغة صارخة جاءت لتقرر ذلك على ضوء الآية الكريمة السابقة، جاءتنا من وراء الأجيال تصوّر لنا طبقة الأثرياء المترفين، وحقيقة ذهنيتهم وطبيعتهم في صورة واضحة معبّرة.
إنّهم – أي الأثرياء المترفون – يهتمون بمصالحهم دون مصالح الناس والمجتمع، ويؤثرون منافعهم الشخصية على ما سواها من منافع.
ونحن نخادع أنفسنا إذا كانا ننتظر منهم أن يعنوا بمصالح غيرهم من البائسين. فالإنسان بوجه عام مجبول على أن يجر الناس إلى قرصه.
والاهتمام بالانتاج وحده، دون الاهتمام بتوزيع ذلك الانتاج، يفضي – عادة – إلى تراكم الثروة في أيدي فئة قليلة، تترك بقية الناس في حرمان.
ويفضي كذلك إلى انغماس المترفين الأثرياء في الترف واللذة والانهماك في شهواتهم وملاذّهم مما يجعل بقية الناس ترزح تحت سيطرتهم وتحوّلهم اتباعاً لا يملكون لأنفسهم شيئاً، لأنّهم بحكم فقرهم وعوزهم مضطرون إلى خدمة أصحاب الثروات والعمل لحسابهم، طمعاً بما يجودون عليهم به من سدّ رمقهم، وكفى بذلك طغياناً، يخلق من هؤلاء أسياداً مستغلين، ومن هؤلاء عبيداً خاسئين.
والله سبحانه أفصح عن هذه الروح وعن هذه الطبيعة، وما يترتب عليها من أخطار، فقال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء/ 16).
ولا يقف خطر هؤلاء المترفين عند استعباد الجماعات والتحكم بمصائرهم، بل كثيراً ما يتعدى إلى ما هو أبعد أثراً وأكبر خطراً.
ذلك حين تجد كثيراً من هؤلاء عمدوا إلى خداع الجماعات والأفراد بما يشيدون من مساجد ومدارس دينية وغيرها، وبما خصصوا لها من أوقاف واسعة، وهم يحسبون أن الله تعالى سيبني لهم، عوضاً، عما بنوه، القصور الكثيرة في الجنة، بينما هم لا يعنون بالفقراء المساكين بقليل أو كثير وقد جاءت الآية الكريمة تعبر عن روح هؤلاء تماماً، قال تعالى حكاية عن هؤلاء المترفين:
(.. فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا * .. وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا...) (الكهف/ 34-36).
المصدر: مجلة نور الإسلام/ العدد الأول لسنة 1988م
ارسال التعليق