(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) (سبأ/ 28).
الإسلام دين عالمي، وليس خاصّاً بأُمّة وليس محصوراً في وطن وإنما هو للبشرية كلها في جميع الأوطان (إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) (التكوير/ 27). وهو دين البشرية الأخير فلن يتلقى الناس رسالة غيره من السماء حتى يكتب لهذا العالم الفناء، ومن هنا كان نبي الإسلام (ص) خاتم الأنبياء (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) (الأحزاب/ 40). وهو دين يتناول الإنسان من جميع أقطاره: جسداً، وروحاً فرداً ورب أسرة وعضواً في المجتمع، مكافحاً في سبيل العيش، وعابداً مسالماً لغيره من الناس ومحارباً. إذن فهو دين ينظم شؤون الحياة جميعا. والحياة الإنسانية ليست جامدة، وليست متحجرة، وإنما هي متحركة ومتغيرة وهذه الحركة وهذا التغيير يشملان جميع مظاهر الحياة الإنسانية، الأشكال المادية وعلاقة الناس بعضهم ببعض وأفكارهم وهما يؤديان بالأحياء وبمظاهر الحياة طوراً إلى التقدم والتحسن وطوراً آخر إلى التأخر والانحطاط. وإذا كان الإسلام ديناً عالمياً يتناول الحياة الإنسانية من جميع جهاتها فلابدّ أن يكون له موقف معين إزاء ما يطرأ على مظاهر الحياة الإنسانية من تبدل وتغير وتطور نحو الأحسن تارة وانتكاس إلى الوراء أخرى، فما هو موقف الإسلام؟ إنّ الإسلام دين البشرية الأخير فهو خالد ما بقي للإنسان على ظهر الأرض وجود، ولكن كونه خالداً لا يعني أنّه يقف موقفاً سلبياً من كل تغير يطرأ على الأحياء ومظاهر حياتهم بل يقف إيجابياً من هذه التغيرات فينميها ويوسع من مجالاتها إذا كانت تغيرات خليقة بأن تساعد الإنسان والحياة الإنسانية على التقدم والتحسن والازدهار ويرفضها ويمنع منها إذا كانت خليقة بأن تقعد بالإنسان عن الغايات العليا التي أرادها الله له، فالإسلام لم يجمد الحياة الإنسانية في إطار معين لا تتعداه في أشكالها ومناهجها وأسوب ممارستها بل أتاح للحياة الإنسانية أن تنمو وأن تطرد تقدمها وازدهارها. وما يطرأ على مظاهر الحياة الإنسانية من تغير تارة يمس الطبيعة المادية التي تحيط بالإنسان وأخرى يمس النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لهذه الحياة. والقسم الأوّل من التغيرات يظهر فيما أتيح للإنسان المعاصر من التقدم العظيم في أساليب انتفاعه بالطبيعة المادية والسيطرة عليها واستخدامها في تحسين شروط حياته اليومية. ولا يقف الإسلام موقفاً سلبياً من هذا التقدم الذي أحرزه الإنسان المعاصر في هذا المجال بل هو يدعو المسلم إلى الاستمتاع به والمشاركة والإبداع في مجالاته ولأنّه ليس عدواً للتقدم والمدنية. بل هو حافز إلى التقدم وإنشاء المدنية. والقسم الثاني من التغيرات يظهر في النظم الاجتماعية والاقتصادية المبتدعة التي تمخضت عنها الحضارة الغربية ومفاهيم الإنسان الغربي عن الكون والحياة والإنسان وموقف الإسلام من هذه النظم مما قد يستحدث فيها من تغيير وتبديل ليس موقف الرفض المطلق وليس موقف القبول المطلق لأنّ الإسلام كما أسلفنا دين ينظم شؤون الحياة جميعاً ولذلك فلابدّ من عرض كل تغير المجالات على مبادىء الإسلام وأحكامه الخاصة بهذا المجال الذي يطرأ التغير فيه، وحينئذ فما خالف أحكام الإسلام لابدّ أن يرفض نهائياً وبصورة قاطعة وحاسمة. وأما ما اتفق مع أحكام الإسلام أو لم يخالفها – كما لو لم يرد تحديد خاص من الشارع في مسألة ما ولم تكن هذه المسألة من جزئيات مبدأ إسلامي عام – فإنّ الإسلام يرحِّب به بعد أن يطبعه بطابعه ويسبغ عليه روحه وسَمْته المميزة فمثلاً لا يمكن أن يقبل الإسلام وجهة النظر الغربية في حيوانية الإنسان وماديته ومشروعية الربا، والمسالة الجنسية، وما إليها. ولكن ليس في الإسلام ما يحول بين العمال وبين من ينظموا أنفسهم ويعهدوا إلى هيئة منهم تتولى النظر في مصالحهم وسبب إختلاف موقف الإسلام هنا عن موقفه هناك هو أنّ وجهة النظر الغربية في المسائل السابقة مخالفة لأحكام الإسلام، أما في المثال الأخير فإنّه مبدأ حرية العامل في عمله وكسبه مبدأ أساسي في الدين الإسلامي وهذا المبدأ يجعل للعامل الحق في أن يمارس الوسائل المشروعة التي تجعله قادراً على تحسين مستواه المعيشي وليس لنا أن نمنع من ذلك لأنّه لم يكن في زمان النبي (ص) ما دام المبدأ الإسلامي في العمل هو الحرية. والاجتهاد – وهو مرتبة عالية من العلم بأحكام الإسلام ومبادئه العامة عن أداتها الخاصة – هو الوسيلة التي يتاح لفقهاء المسلمين بأعمالها أن يطبعوا الحياة الإنسانية بطابع الإسلام حيثما كان له سلطان. وهكذا فالإسلام خالد متطور: خالد في مبادئه وأحكامه في الكتاب العزيز والسنة المعتبرة ومتطور في أحكامه الثانوية، لم يقيدنا الشارع فيها بنهج خاص وأسلوب مخصوص وفيما ورد فيه حكم عام يتسع لما يطرأ على الواقعة الخاصة من أشكال مختلفة. وهنا يأتي دور الحديث عن فكرة شائعة بين كثير من مسلمي هذا العصر حول تطور الإسلام، وكيف ينبغي أن يكون، فيرى هؤلاء أنّ أحكام الإسلام نفسها يجب أن تتطور وأن تتغير لتجاري الحياة الإنسانية في مسارها ولئلا تنعزل عنها، وإذن فالإسلام كما أنزله الله تعالى على نبيه محمد (ص) ليس صالحاً لمعالجة الواقع الإنساني، ولأجل أن يكون كذلك يجب على المسلمين أن يصوغوا الإسلام صياغة جديدة تلائم الواقع المعاصر. ومنشأ هذا الوهم هو السموم الفكرية الوافدة التي يعمل أعداء الإسلام على نشرها بين المسلمين ليجردوا الإسلام – في أنفسهم – من حيويته وأصالته وقدرته على الصمود، وهو وهم لا يمكن أن ينطبق على الإسلام بحال من الأحوال لأنّ الإسلام ليس قانوناً وضعياً قامت بوضعه جماعة من الناس ذات مدارك وأفهام محدودة، ووعي للواقع الإنساني محدود، طائفة من الناس محكومة بظروفها ووراثتها وحالات بؤسها ونعيمها وحبها وبغضها وغير ذلك من عوارض الإنسان. ولو كان الإسلام شيئاً من هذا القبيل لوجب تعديله وتطويره. وإلغاء شيء منه وإدخال شيء فيه، أما وهو ليس كذلك فلا يمكن الحكم عليه بمقياس غير مقياسه والنظر إليه على أنّه كغيره من النظم والوضعية ذات المدى المحدود. إنّ الإسلام ليس قانوناً وضعياً محدود الأفق، محدود الأهداف، وإنما هو نظام سماوي موحى به من عند الله عزّ وجلّ خالق الإنسان والعالم بكل ما يصلحه في جميع أدواره وحالاته في دنياه وآخرته لو اتبعه وتمسك به وسار في حياته على هُداه، ولا تزال تجارب الإنسانية البعيدة عن الإسلام تقدم الدليل تلو الدليل على أنّه لن يصلح أمر الناس إلا بالإسلام ومناهجه ونظمه. وإذا كان الإسلام كذلك فأين موقع الحديث عن تعديله وتطويره من الصدق والصحة؟ وإذا طورنا الإسلام على النحو الذي يلائم الأشكال الحديثة للنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية فماذا نكون قد أبقينا منه؟ إننا في الحقيقة نكون قد ألغيناه من واقع الحياة، وحصرناه في الوجدان الفردي وسمينا النظم الغربية بإسمه، وهذا هو ما يعمل له أعداء الإسلام والمخدوعون بهم من المسلمين. إنّ الإسلام ليس في حاجة إلى التعديل، وليس في حاجة إلى التطوير والتحرير، وإنما الإنسان هو الذي يجب عليه إذا أراد الحياة السعيدة النبيلة أن يطبق الإسلام على نفسه فرداً وأسرةً ومجتمعاً وعالماً ليصلح الإسلام أمره لأنّ الإسلام لم يوجد ليبرز ما في حياة الإنسان من فساد وانحطاط وإنما وجد ليهذب هذه الحياة ويبعثها نحو الأهداف العليا التي أرادها الله للإنسان. وبعد.. فلهؤلاء الذين يصرون على (تطوير) الإسلام في هذا العصر، نظراء في عصر النبوة وما سبق من عصور، إنهم هم الذين يحرفون الكتب، كتب الله تعالى ليشتروا بها ثمناً قليلاً من عرض الحياة الدنيا وقد قال فيهم الله تعالى: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران/ 78). المصدر: كتاب رسالتنامقالات ذات صلة
ارسال التعليق