أُعطي النبيّ سليمان ما لم يعط غيره من الأنبياء من الملك والسلطان، فهو أمير الإنس والجن، وله السيطرة التامة على هذه المخلوقات، حيث استجاب الله دعاءه حينما قال: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (ص/ 35). فقد سخر الله له الجن والطير، وحتى الرياح كانت تجري حيثما أراد: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) (ص/ 36-37). (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (النمل/ 17).
فيما هو يستعرض جيشه المتكون من هذه الأصناف والأجناس لم ير الهدهد بين هذه الصفوف المحتشدة التي جاءت في استعراض الملك المهيب لجيوشه، وتفقد الغائب والحاضر فلابدّ من تفقد الرعية حتى أمثال الهدهد وبحجمه: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ)؟ (النمل/ 20).
صوّب نظره في جيوشه الواقفة أمامه، فلم يشاهد الهدهد، تعجب من عدم حضوره وقال:
أين الهدهد؟!، لم لا أراه؟!، هل هو بينكم أم انّه تغيب عن الحضور؟. ثمّ عرف انّ الهدهد لم يكن بين هذه الجموع الواقفة في الاستعراض.
هنا صدر التهديد من سليمان للهدهد متدرجاً في العقوبة: (لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) (النمل/ 21). انّه تهديد بالعقوبة قبل أن يحضر المتهم الغائب ويدلي بما لديه من عذر، لذلك كان قرار الحكم متدرجاً ومعلقاً على عدم وجود السبب العقلائي، أوّلاً العذاب الشديد، ثمّ الذبح، هذا إذا لم يكن لديه العذر الذي ينجيه من العقوبة. تدرج في المؤاخذة بحسب الذنب الذي يأتي به صاحبه، الأقل درجة ثمّ الأعلى: أوّلا التعذيب بسبب الغياب بدون مبرر، ثمّ الذبح إن علم منه ما يكره، أو انّه يستطيع فكاك رقبته من الذبح وبدنه من التعذيب بعذر سديد، لكن كيف يعذب سليمان الهدهد وبأيّة طريقة؟ قيل انّه يحسبه مع ضده من الطيور فيضعه في قفص واحد مع نده، وقد قيل انّ أضيق السجون معاشرة هو حبس الطيور المتضادة في قفص واحد. أو يبعده من خدمته، أو يلزمه بخدمة أقرانه الاضداد، أو يأمر بنتف ريشه، أو يلقي به في الحر، أو يفرق بينه وبين إلفه.
وسرعان ما عاد الطير وهو منتفش لا يخاف التهديد الذي صدر بحقه، وألقى ما في جعبته من أنباء مهمة جداً، وهذه الأنباء لا يعلمها سليمان على رغم ملكه العظيم وسلطته الواسعة حيث قال: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) (النمل/ 22). سليمان الذي دانت له الريح، وحشرت الجن والأنس والطير لم يطلع على ما جاء به الهدهد، لم يدر كلّ ما يدور حوله، والهدهد يقول جئتك من سبأ بنبأ حقّ لا يشوبه باطل الكذب.
انّ المعلومة التي جاء بها الهدهد خطيرة جدّاً، لقد عثر في جملة تطوافه في الأرض، وطيرانه في الجو بمشاهدة صحيحة عن جماعة لا تسجد لله ولا تعبده، بل تسجد للشمس: (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) (النمل/ 23-24). وهذا يدلنا على انّ الهدهد يعبد الله، ويستغرب أن يرى من يعبد غيره، ويعتبر ذلك ذنباً عظيماً، وفساداً خطيراً.
هناك جماعة تعبد الشمس، وتتأمر عليهم امرأة، هذه المرأة على ما يذكر التاريخ تدعى بلقيس بنت شراحيل، وقد أوتيت من الثراء والأبهة ووسائل الحرب والسلاح وآلات القتال الشيء الكثير الذي لا يوجد مثله إلا في الممالك العظمى، وانّ لها سريراً عظيماً تجلس عليه مرصعاً بالذهب وأنواع الجواهر في قصر منيف... ثمّ راح الهدهد يبين معتقدهم وطريقة عبادتهم، وهي عبادة الشمس من دون الله، ثمّ يردف بتحسر وتعجب: (أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ...) (النمل/ 25)، أي المخبوء والمستور، ويعلم الخفي من أفعال العباد... والطريف انّ من خصائص الهدهد هو انّه مولع بالبحث عن المخبوء لطعامه.
يلاحظ انّ في حكومة سليمان حرية تعبير وديمقراطية سليمة، ويحق للآخر أن يقول كلمته أمام القائد، ويبدي رأيه وإن كان بمستوى الهدهد. وقد كان صريحاً مع الحاكم المتمكن حيث قال: أنا أعرف ما لا تعرفه أنت، حيث قد تسللت وعرفت أموراً عجيبة في بلدة سبأ وهي عبادة ما دون الله.
ماذا صنع سليمان حين سمع عذر الهدهد؟ قال: (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (النمل/ 27).
سوف نختبرك، هل أنت كاذب أم صادق؟ ثمّ قال: (اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ) (النمل/ 28)، خذ هذه الرسالة وتوجه بها إليهم ثمّ انظر ماذا يقررون بشأنها، وماذا تكون ردة فعلهم، والكتاب هو: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (النمل/ 30-31)، قرار صارم ودقيق يبدأ باسم الله، آمر بالتسليم والإقرار لسليمان، وفيه تلميح لاستعمال القوة مع هؤلاء المشركين.
ذهب الهدهد بالكتاب، ورمى به في قصر الملكة بحيث تكون هي من يطلع عليه مباشرة.
ماذا صنعت الملكة حين رأت الكتاب؟ لقد وصفته لقومها بالكتاب الكريم، ولعل ذلك لأنّ الكتاب ابتدأ باسم الله، أو انّه من سليمان الملك المعروف، ثمّ قامت باستشارة قومها لأنّها لا تريد أن تتفرد بالقرار، فكان جوابهم: نحن أصحاب قوة وبأس شديد، لكن أنت من يملك الأمر فانظري، فقالت: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل/ 34)، إذن لا فائدة من قوتهم أمام الملوك، لأنّ الملوك إذا احتلوا بلاداً أفسدوها، وأسروا أهلها، واسترقوهم... لكنها ستختبر هذا الملك فترسل إليه بهدية، وسوف تعرف طبيعة هذا الملك من طبيعة تعامله مع الهدية الثمينة، إلا انّ سليمان حين رأى الهدية غضب وقال: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) (النمل/ 36). اتعطونني مالاً؟، فما أعطاني الله خير مما أعطاكم، خذوا هديتكم هذه، قالها بغضب وأمر جنوده بالتهيؤ لغزو سبأ.
حمل الوفد الهدية إلى الملكة مردودة خائبة.
إلا انّه أراد أن يكون عرش الملكة في قصره قبل أن يأتي هؤلاء مسلمين، وتكون هذه المفاجأة لهم بمثابة المعجزة على صدق دعوته ونبوته، طلب أن يحضر العرش، وهنا تدخل عفريت من الجن وقال:
(أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ) (النمل/ 39)، إلا انّ الذي عنده علم من الكتاب قال: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ...) (النمل/ 40)، وجيئ بالعرش، فلما رآه سجد لله شكرا وقال: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) انّه يستشعر النعمة بهذا النحو، انّه ابتلاء ضخم مخيف معجز يحتاج إلى يقظة ليجتازه، ويحتاج إلى عون من الله ليقوى عليه، ويحتاج إلى النعمة والشعور بفضل المنعم ليعرف الله منه هذا الشعور، ثمّ يقول: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل/ 40)، لأنّه لا ينفعه شكر من شكره، ولا يضره جحود من جحده.
ثمّ جيئ ببلقيس فقيل لها ادخلي القصر، عندها لاحظت عرشها وقد تغير شيء منه لئلا تعرفه حين تراه، ثمّ سألوها أهكذا كان عرشك؟، قالت كأنّه هو، ولم تجزم بذلك لأنّه قد يكون عرشا آخر يشبه عرشها.
ثمّ كانت المفاجأة الأخرى عندما قيل لها ادخلي الصرح أي القصر، فحسبته مبنياً على الماء، وكشفت عن ساقيها، أي رفعت ثيابها إلى الأعلى حتى لا تتبلل بالماء، لأنّ بلاط البهو من زجاج شفاف وتحته ماء جارٍ فيه صنوف الأسماك، فحسبت انّ هذه لجة فكشفت عن ساقيها، فقيل لها: هذا ليس ماء، انّه (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ) (النمل/ 44)، زجاج يجري من تحته الماء. لقد أيقنت مما رأت انّ دين سليمان هو الحقّ. وانّها قد ظلمت نفسها بكفرها وعبادتها للشمس فقالت: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (النمل/ 44).
المصدر: مجلة الرياحين/ العدد 35 لسنة 1430هـ
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق