• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

في رحاب قصة ذي النون (ع).. إني كنت في من الظالمين

أسرة البلاغ

في رحاب قصة ذي النون (ع).. إني كنت في من الظالمين

  يذكر القرآن قصة العبد الصالح ذى النون (ع) في سورة الأنبياء وفي سورة الصافات وفي سورة ق، وقد ذكر القصة المفسرون، نذكر إجمالاً منها:

لما بعث الله يونس بن متي عليه السلام إلى أهل قرية نينوى وهي قرية من أرض الموصل في شمال العراق، فدعاهم إلى عبادة الله تعالى، فابوا عليه وتمادوا على كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث، فلما تحققوا منه ذلك وعلموا انّ النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وانعامهم ومواشيهم وفرقوا بين الأُمّهات وأولادها ثمّ تضرعوا إلى الله عزّ وجلّ وجاروا إليه، فرفع الله عنهم العذاب. وأمّا يونس (ع) فإنّه ذهب فركب مع قوم في سفينة فلججت بهم وخافوا أن يغرقوا فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس (ع) فابوا أن يلقوه، ثمّ اعادوها فوقعت عليه أيضاً فابوا، ثمّ اعادوا فوقعت عليه أيضاً. فقام يونس (ع) وتجرد من ثيابه ثمّ ألقى نفسه في البحر فأرسل الله حوتاً يشق البحار حتى جاء فالتقم يونس فأوحى الله إلى ذلك الحوت أن لا تأكل له لحماً ولا تهشم له عظماً فان يونس ليس لك رزقاً وانما بطنك تكون له سجناً. ولما صار يونس في بطن الحوت ظن انّه قد مات، ثمّ حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه ثمّ نادى يا رب اتخذت لك مسجداً في موضع لم يبلغه أحد من الناس، فمكث في بطن الحوت أربعين يوماً وهو يسبح لله ويدعوه. وجاء عن رسول الله (ص) كما هو مضمن في الآية الكريمة كان يقول: اللّهمّ لا إله إلا أنت، سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجاب الله له لدعوته ونجاه من البلاء فأمر الحوت فطرحه في العراء وهكذا جاء في قوله تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء/ 88)، فأنجاه من بطن الحوت والحزن الذي كان يعتريه والظلمات التي كان يعيش فيها وهكذا يفعل الله ذلك للمؤمنين الذين يقعون في الشدائد ويدعونه منيبين إليه وقد جاء عن الرسول (ص) الترغيب في هذا الدعاء الذي دعا به يونس ربه فاستجاب له.   إني كنت من الظالمين.. - الأحوال: 1- الأحوال منازل رحمة الله. 2- العلاقة المتبادلة بين العبادات والأحوال. 3- اقتران الأحوال بالوعي. 4- كسب الحال والمحافظة عليه. 5- عوامل الحال. 6- عوائق الحال.   - إني كنت من الظّالمين: في هذا النص يعترف العبد الصالح يونس (ع) بالظلم "إني كنت من الظالمين"، وليس في النص استغفار، والإعتراف بالذنب يستبطن الاستغفار، عن الإمام الباقر (ع) (المقر بالذنب تائب)، وعن علي (ع) (الندم استغفار، والإقرار اعتذار)[1].. عن الإمام الباقر (ع) لا والله ما أراد الله من الناس إلا خصلتين أن يقروا له بالنعم فيزيدهم وبالذنوب فيغفرها لهم[2]. و(الإعتراف) بحد ذاته من منازل رحمة الله، وهنا، في هذا النص، يضع العبد الصالح يونس (ع) نفسه في موضع رحمة الله، حيث يعترف بالظلم[3] بين يدي الله، فيستنزل بذلك رحمة الله تعالى. ولابدّ لهذا الإجمال من تفصيل:   - الأحوال: للإنسان مع الله تعالى علاقة ما وراء (الأعمال) و(الأقوال) وهذه العلاقة هي علاقة (الأحوال) وهي الحالات النفسية التي توجّه الإنسان إلى الأفعال والأقوال.   - الأحوال منازل رحمة الله: والأحوال منازل رحمة الله: فإن رحمة الله تعالى تنزل على (أحوال) الإنسان من خشوع، واضطرار، واقبال، وخوف، وحب، وشوق... والعلاقة بين (الحال) و(رحمة الله تعالى) هي علاقة السببية والعلية[4]. فإذا رقّ القلب نزلت رحمة الله على العبد، كما ينحدر الماء إلى الأرض الواطئة، وكما تجتذب التربة الهشّة الماء... كذلك القلب الذي يرقّ يجتذب ويستنزل رحمة الله بنفس القانون، إلا أنّ العلاقة بين الأرض الواطئة وانحدار الماء علاقة مادية محسوسة فيزياوية، والعلاقة بين رقّة القلب ونزول رحمة الله علاقة غير مادية وغير محسوسة ما وراء الفيزياء. إلا أنّ العلاقة بين رقّة القلب ونزول رحمة الله تبقى هي من العلاقة السببية.   - قيمة العبادات في الأحوال: ومن دون أن ننتقص من قيمة الأفعال والأقوال في العبادات في الجزاء والأجر، نقول أنّ الأحوال هي الأساس في تقييم الأفعال والأقوال. وقيمة الفعل والقول في العبادات بمقدار ما يحمل كل منهما من الحال. وكلما كان حظّ الفعل والقول في العبادات من (الحال) أكثر كانت تلك العبادة أقرب إلى مرضاة الله، وأجزل ثواباً عند الله. فثواب الصلاة وقيمتها عند الله بقدر ما يستحضر المصلي ذل الوقوف بين يدي الله، وبقدر ما يخشع في صلاته لله، وبقدر ما يستحضر في قلبه من ذكر الله، وكلما حظّ العبد في الصلاة من الخشوع والذل بين يدي الله والذُكر أكثر كانت صلاته أقرب إلى الله وأبلغ في استنزال رحمة الله وأجزل ثواباً عند الله. وقيمة التوبة في العزم على العودة إلى الله، والكف عن معصية الله، والإستحياء من الله، والندم. وليست التوبة في حقيقتها إلا هذا العزم والاستحياء من الله والندم، وهي حالات يحبها الله تعالى لعبده، تستنزل رحمة الله، وقيمة التوبة عند الله بها. روي عن أمير المؤمنين (ع): "إنّ التوبة ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وترك الجوارح، وإضمار أن لا يعود"[5]. وعن أمير المؤمنين علي (ع): "أنّ الاستغفار درجة العليين وهو إسم واقع على ستة معان: أوّلها: الندم على ما مضى. والثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً. والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم. والرابع: أن تعمد إلى كل فريضة ضيعتها فتؤدي حقها. والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السّحت فتذيبه بالأحزان. والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة... فعند ذلك تقول.. استغفر الله"[6]. وقيمة الدعاء: أنّ الدعاء يشعر الإنسان بفقره واضطراره إلى الله، كما إنّ الدعاء ينبع من الإحساس بالفقر إلى الله والاضطرار إليه تعالى، وهاتان الحالتان هما اللتان تستنزلان رحمة الله. وفي آية سورة النمل (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (النمل/ 62)، إشارة إلى ذلك فإن حالة (الإضطرار) إلى الله هي التي تستنزل (الإجابة) من عند الله، إذا دعا العبد ربه. وقيمة الاستعاذة في اللجوء إلى الله، واللوذ بالله، ومن دون اللجوء، واللوذ تفرغ الاستعاذة من كل محتواها، ولا يبقى منها إلا اللفظ. وقيمة الذكر في التذكر (الذُّكر)، ولولا إنّ الذكر يّكر الإنسان بالله لا تبقى قيمة للذكر. وقيمة الزّكاة في حالة (الإنفاق ما يحبّه الإنسان) يقول تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران/ 92). وفي حالة إيثار الإنسان لغيره على نفسه مع وجود الحاجة والخصاصة، يقول تعالى: (يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر/ 9). وفي حالة (الإنفاق حُباً لله)، يقول تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) (الإنسان/ 8). وهذه حالات يحبها الله تعالى لعبده وهي التي تستنزل رحمة الله تعالى، وفيها قيمة الزّكاة والإنفاق. وقيمة الصّوم في (الكف) و(الجوع) والكف سبب والجوع نتيجة. وقيمة التقوى، في الطاعة والتسليم والعبودية لله. وقيمة العبادات على نحو العموم في ابتغاء وجه الله في الذكر. وقيمة الإبتلاءات التي يبتلي الله تعالى بها عباده في الصّبر والتضرع، فإنّ ابتلاء الله يتطلب من الإنسان الصبر. والصبر حالة يحبها الله تعالى لعباده يقول: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة/ 155-157). وفي الإبتلاء يتضرع الإنسان إلى الله تعالى. يقول تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) (الأعراف/ 94). والتضرع إلى الله حالة يحبها الله تعالى ويهبها رحمته وفضله. وعلى العموم: قيمة العبادات فيما تتضمنه وما تستنبطه من (الحال). وهذه الأحوال هي منازل رحمة الله.   - العلاقة التبادلية بين العبادات والأحوال: والعلاقة بين العبادات والأحوال علاقة تبادلية (جدليّة) وهي علاقة معروفة ورائجة في الثقافة الإسلامية، فإنّ الدعاء يحسّس الإنسان بفقره وحاجته واضطراره إلى الله، من جانب، ومن جانب آخر يلجئ الفقر واضطرار الإنسان إلى الدعاء.   - اقتران الحال بالوعي: والأحوال تقترن عادة وغالباً بالوعي، فالحاجة والفقر والإضطرار إلى الله، في حد نفسه، لن يكون حالاً إلا عندما يعي الإنسان فقره وحاجته إلى الله واضطراره إليه، وإلا فلا يخلو إنسان عن الحاجة والفقر والاضطرار إلى الله. فلا يختلف الناس في الفقر والحاجة والاضطرار إلى الله، وإنما يختلفون في وعي الحاجة والفقر والاضطرار، وفي درجات هذا الوعي. فكلما يكون الإنسان أكثر وعياً لحاجته وفقره واضطراره إلى الله يكون أقرب إلى رحمة الله، وتكون الرحمة الإلهية أسرع إليه. وليس معنى ذلك إنّ الرحمة الإلهية لا تنزل إلا على موضع الوعي، فإن رحمة الله تنزل على مواضع الفقر والحاجة والاضطرار من دون وعي، ومن دون سؤال، ومن دون معرفة الله تعالى. وقد ورد في دعاء شهر رجب: "يا مَنْ يعطي مَنْ يسألهُ، يا مَن يعطي من لم يسألَهُ، ومَن لمْ يعرفهُ تحنناً منهُ". ولكن شتّان بين نزول الرحمة على مواضع الفقر والاضطرار المقترن بالوعي والاضطرار والفقر غير المقترن بالوعي والمعرفة، وارتكاب المعصية ليس من منازل رحمة الله بل من موجبات مقت الله وغضبه، ولكن الإعتراف بالذنب من منازل رحمة الله كما ذكرنا. و(الإعتراف بالذنب) هو وعي قبح عمل الإنسان في معصية الله تعالى. وهذا الوعي هو مصدر الإحساس بـ(الندم من الفعل) و(الخجل من الله)، وبقدر وعي الإنسان لقبح فعله في معصية الله تعالى يكون إحساسه بالندم من فعله وبالخجل من الله تعالى. (الندم) و(الخجل) من منازل رحمة الله. وحقارة الإنسان وصغاره تجاه الله تعالى ليس في حد نفسه حالاً، ولا من منازل رحمة الله، ولكن إحساس الإنسان بالحقارة والدونية والصّغار تجاه الله تعالى وبين يدي الله من منازل رحمة الله. فإذا أحسّ الإنسان بهذه الحقارة والضعة والدونية ذلّ بين يدي الله، وتواضع له تعالى. وهذا الذل والتواضع من منازل رحمة الله، ولا يختلف الناس في الحقارة والضّعة والدونية تجاه الله تعالى، وإنما يختلف الناس في وعي هذه الحقارة والدونية، وفي درجات هذا الوعي. ويستنزل الناس من رحمة الله بقدر وعيهم لضعتهم وحقارتهم بين يدي الله. والتمتّع بنعم الله تعالى لا يستنزل رحمة الله تعالى، والحال هو وعي نعم الله، وعلى قدر الوعي يشكل الإنسان ربه سبحانه، وعلى قدر هذا الشكر ينزل الله تعالى رحمته على عبده. يقول تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم/ 7). وهكذا يقترن سائر الأحوال بـ(الوعي) فالحب وعي، والإيثار وعي، والشوق وعي، والأنس بالله وعي، والصّبر وعي، والتضرع وعي.   - كسب الحال والمحافظة عليه: وهذه الأحوال كثيرة كالذكر والعبودية، والطاعة، والتسليم، والرضا، والتواضع لله، والمسكنة، والتذلّل، والشّكر والفقر، التضرع، والإجابة (التلبية)، والحب، والشّوق، والأنس، والثقة، والتوكل وغير ذلك. وهذه الحالات هي منازل رحمة الله تعالى في حياة الإنسان. وعلى الإنسان أن: يكسب هذه الحالات أوّلاً. ويحافظ عليها ثانياً. وينميها ثالثاً. ويستثمرها رابعاً. ولكل ذلك أصول ومنهج وقانون في منهج التربية والتزكية في الإسلام. وإذا عرفنا هذه الحالات منازل رحمة الله تعالى في حياة الإنسان... ولا ينال الإنسان من رحمة الله إلّا بقدر ما يكسب من هذه الأحوال. كان من الضروري أن يعرف الإنسان كيف يكسب هذه الأحوال وتحسين اكتسابها. وفي منهج التربية والتزكية في الإسلام أبواب واسعة لاكتساب هذه الأحوال ومن رزقه الله الحال أعطاه كل شيء، ومن حُرِمَ منه لم ينفعه شيء. وما أجمل تعبير الشاعر الحكيم الرومي لا تطلب الماء **** ولكن اطلب الظّمأ حتى يتفجر الماء **** من كل جوانبك فإن من رزقه الله الظّمأ (وهي حالة الاضطرار إلى الله والانقطاع إلى الله في طلب الماء) فجّر الله تعالى الماء من كل جوانبه، كما يقول هذا الحكيم. ولا تقل قيمة المحافظة على الحال عن كسبه، فقد يكسب الإنسان الحال بمشقّة وعناء، ويضيعه ويفرّط به. فلابدّ أن يحسن الإنسان ثانياً المحافظة على هذه الأحوال. ولابدّ ثالثاً من أن ينمي الإنسان هذه الأحوال... فإنّ الأحوال لا تركد على حال، فإما أن تنمو وتقوى أو تذبل وتضعف. ولابدّ رابعاً من استثمار هذه الأحوال فإنّ هذه الأحوال، كما ذكرنا منازل رحمة الله، فإذا رزق الله تعالى عبداً من عباده بعض هذه المنازل، فعليه أن يستثمره سريعاً بالدعاء والإلحاح في الدعاء. وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص): "اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنّها رحمة"[7]. وعن أبي بصير عن أبي عبدالله الصادق (ع) قال: "إذا رقّ أحدكم فليدع، فإنّ القلب لا يرق حتى يخلص"[8]. وعن أبي عبدالله الصادق (ع): "إذا اقشعر جلدك، ودمعت عيناك فدونك دونك فقد قصد قصدك"[9]. وعن أبي حمزة قال قال أبو عبدالله الصادق (ع) إنّ أبي كان يقول: "إن أقرب ما يكون العبد من الرب عزّ وجلّ وهو ساجد باك"[10].   - المُعدات والعوامل التي تكسب الإنسان الحال: والعوامل والمعدات التي تكسب الإنسان الحال كثيرة، لا يسعنا استعراضها واستيعابها ودراستها في هذا المقال. ومن هذه المعدات (الزّمان) و(المكان) فإنّ للزمان والمكان دوراً في تثبيت الحال وتعميقه. الزمان مثل الأسحار. (وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الذاريات/ 18). (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ) (آل عمران/ 16). وفي ليلة القدر وليلة الجمعة ويوم عرفه وشهر رجب تصب رحمة الله صبا، وشهر رمضان ربيع الحال. والمكان مثل وادي عرفه والمساجد (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) (النور/ 36). وقد كان المكان الذي أسرى منه رسول الله (ص) إلى المسجد الأقصى ثمّ إلى السماء (المسجد الحرام) (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ..) (الإسراء/ 1)... وأما العبد الصالح يونس (ع) فقد انطلق من بطن الحوت إلى الله تعالى. ومجالس عزاء الحسين (ع) من المواضع التي تنزل عليها رحمة الله تعالى، فإنّ هذه المجالس ترقق القلوب وتعطف القلوب النافرة إلى الله عزّ وجلّ. وظروف الإبتلاء والشدة في حياة الإنسان تعد الإنسان للتضرع إلى الله، والتضرع إلى الله من منازل رحمة الله. يقول تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) (الأعراف/ 94). والذكر والحمد والاستغفار والصلاة والسجود بين يدي الله والصّلاة على محمد وآل محمد يكسب الإنسان حال الذكر والرّقة والإقبال على الله، وهو من منازل رحمة الله. روي عن أبي الله الصادق (ع): "أنّ رجلاً دخل المسجد، فصلى ركعتين، ثمّ سأله الله عزّ وجلّ، فقال رسول الله (ص) عجل العبد ربه، وجاء آخر، فصلى ركعتين ثمّ أثني على الله عزّ وجل، وصلى على النبي، فقال رسول الله (ص): سل تعط[11]. من الأمور التي تكسب الإنسان (حال) الإقبال على الله ورقة القلب.. الإنكسار والظّلامة، فإنّ الإنسان إذا تعرض للظلم، وظُلم لم يحجب دعاءه عن الله شيء، ولا يحجب شيء دعاء المظلوم عن الله تعالى. عن أمير المؤمنين (ع) قال: "اغتنموا الدعاء عند خمسة مواطن: عند قراءة القرآن، وعند الأذان، وعند نزول الغيث، وعند التقاء الصّفين للشهادة، وعند دعوة المظلوم، فإنّها ليس لها حجاب دون العرش". وقد يكون الإنفراد والوحدة من عوامل كسب الحال، كما في صلاة الليل، وقد يكون الإجتماع كما في صلاة الجمعة والجماعة والحج ولكل من (الوحدة) و(الإجتماع) تأثير خاص في أحوال الإنسان. فمن الأحوال ما لا يتحقق إلا بالانفراد والوحدة، ومن الأحوال ما يتحقق إلا بالإجتماع... وطبيعي أن نقصد بالإجتماع الموجّه كاجتماعات المؤمنين ومجالسهم ومثل الحج وصلاة الجماعة وسائر الاجتماعات الموجهة. ولكل من (الوحدة) و(الإجتماع) ما يخصه من الحال، ولا يستغني الإنسان عن هذا ولا ذاك. فمن الحال ما لا يمكن تحقيقه إلا في جو الإنفراد والوحدة، ومن الحال من لا يمكن تحقيقه إلا في جو الإجتماع. ولابدّ للإنسان في تعامله مع الله من هذا أو ذاك معاً. ولذلك نجد أن منهج التربية والتزكية في الإسلام توفر الفرصة (المتاحة) للإنسان لهذا وذاك معاً. ومن عوامل كسب الحال قراءة (القرآن) و(الصّوم) و(العمل الصّالح)، فإنّ العمل الصّالح يعد الإنسان للإقبال على الله. ومن عوامل الحال الجهد في سبيل الله فإن أي جهد يبذله الإنسان في سبيل الله يكسبه حال الإقبال على الله.   - عوائق الحال: وهناك طائفة من العوائق التي تعيق الحال وبقاءه ونموّه. من هذه العوائق الاستغراق في الحياة الدنيا، حتى في الحلال منها، والإنشغال بها حتى في دائرة الحلال. ومن هذه العوائق الذنوب والمعاصي، ومن العوائق حب الدنيا، ومنه أكل الحرام. ومنه الشبع والتخمه حتى من الحلال. ومن العوائق مصاحبة الفساق.   - اعتراف العبد الصّالح بالظلم: ونعود مرّة أخرى إلى اعتراف العبد الصالح ذى النون بالظلم. ويقتصر النص على الإعتراف بالظلم، ولا نجد في هذا النص ذكراً للإستغفار بعد الإعتراف، وكأنّما الإعتراف يتضمن الإستغفار أو يكفي عن الإستغفار، ويستنزل بنفسه رحمة الله تعالى على عبده. و(الإعتراف بالظلم) بين يدي الله ليس من أسباب تعقيد النفس بل الأمر بالعكس فإنّ الإعتراف بالظلم يحل العقد النفسية التي تستتبع الذنب. والذنوب من دون الإعتراف والندم والخجل تتحول إلى (رين) وصدأ و(درن) في النفوس، ويتحول إلى طبع وختم على القلوب وقسوة لها. فإذا اعترف الإنسان بذنوبه وظلمه بين يدي الله، أزال هذا الإعتراف الآثار السلبية التي تتركها الذنوب في نفس الإنسان، ورق قلبه، وزالت عنه القسوة والطبع والختم. فإنّ الذنوب تتحول إلى آثار سلبية ومخربة وعقد في نفس الإنسان إذا تجاهلها صاحبها واستهان بها. وأما إذا اعترف صاحبها بقبح ما ارتكبه من ظلم وذنب، واستشعر هذا القبح واعترف به، وتحول الذنب في نفسه إلى حالة من (الندم من فعله) و(الخجل من الله) فإنّ الذنوب عندئذ تتحول إلى حسنات. (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الفرقان/ 70). روي عن علي (ع): "عاص يقر بذنبه خير من عامل يفتخر بعمله"... (غرر الحكم). وبعد.. فقد قمنا بجولة شيقة مع العبد الصالح ذي النون (ع)، في رحلة العودة إلى الله تعالى، رجاء أن يرزقنا الله سبحانه متابعته والتأسّي به، في هذه الرحلة الربانيّة. ومعذرة إليه (ع) إذا كان في هذه الدراسة ما يمسّ موقعه العزيز عند الله.. وأدبه الرفيع مع الله تعالى.. فقد كانت غايتنا في هذه الدراسة استيحاء المفاهيم والأفكار الموجودة في الآية 87 من سورة الأنبياء. وذو النون (ع) عبد صالح ونبي جليل من أنبياء الله الكرام – عليهم السلام – الذين عصمهم الله تعالى من كل ذنب وأذهب عنهم الرجس وطهرهم من كل سوء ودنس ورجس.. وأكثر ما يمكن ما نفهم من مثل هذه الآيات في أنبياء الله (ع) ارتكاب ما لا ينبغي وما هو خلاف الأولى ممّن هو في موقعهم من الله تعالى.

فسلام عليهم من الله وسلام الله وسلام أنبيائه وعباده الصالحين وسلامنا على العبد الصالح ذي النون (ع) في معاناته وابتلائه الطويل، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا هديه ونوره في الدنيا وشفاعته في الآخرة.

الهوامش:


[1]- مستدرك الوسائل، 2/345. [2]- وسائل الشيعة، 11/ 347. [3]- ونقصد بالظلم ما كان مما لا ينبغي له عليه السلام، وليس المعنى المعروف عندنا من الظلم. [4]- وليس معنى ذلك ان نفصل نزول رحمة الله تعالى عن إرادته ومشيئته عزّ وجلّ، ولذلك بيان لا يسعه المقام. [5]- غرر الحكم للآمدي. [6]- شرح نهج البلاغة، 20/56. [7]- بحار الأنوار، 93/313. [8]- وسائل الشيعة، 4/1120، ج5/876. [9]- وسائل الشيعة، 4/1141، ج2/876. [10]- وسائل الشيعة، 4/1122، ج1/877. [11]- وسائل الشيعة، 4/1126، ج/786.

ارسال التعليق

Top