• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مصباح الرسالة وميزة الوسطية

د. قاضي عبدالرشيد

مصباح الرسالة وميزة الوسطية

الشيخ عبد العظيم العمري[1]

عن عبدالله بن مسعود (رض) قال: قال رسول الله (ص): "هلك المتنطَّعون"، قالها ثلاثاً[2]. إن التوجيهات الإسلامية للتوازن والوسطية والاعتدال تحتوي على سائر شعب ومجالات الحياة الإنسانية، كما أن العمل على التشريعات والأحكام الإسلامية يتطلب كذلك التمسك بالتوازن والاعتدال، وقد أشار النبي (ص) إلى هاتين الجهتين قائلاً: "إن الدين يسر ولن يشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه؛ فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة"[3]. وقد قام النبي (ص) في الجملة الأولى للحديث بتوضيح طبيعة هذا الدين وفطرته بأنه دينٌ سهلٌ يسير، ويتميز بميزة الوسطية والاعتدال، ثم بيَّن في الجملة الثانية أنَّ العمل بهذا الدين اليسر يتطلب كذلك طبيعة التوازن، وإذا سلك أحد بمسلك الشدَّة والغلو في هذا الدين المتسم بالاعتدال؛ فسيعجز يوماً عن العمل بهذا الدين الوسط والتمسك بأحكامه وتوجيهاته؛ لذلك فإن النبي (ص) و صف الشدة والغلو في الدين بالهلاك وبيَّن بأن مساوئ الغلو والشدة، والإفراط والتفريط في الدين كانت من أهم الأسباب لهلاك الأمم السابقة: "إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغُلُو في الدين"[4]. والحديث يدل على أن الاعتدال في العمل بالدين والتمسك به واجب وضرورة ملحة لبقاء الأمم ومنحها صفة الاستمرارية؛ لمواصلة عطاءاتها لخير الإنسانية، وهذا بدوره يشمل جميع أجزاء وطوائف وفئات الأمة دون استثناء، سواء كان على مستوى الأفراد، أو الجماعات، ولمَّا انحرفت الطبيعة الاجتماعية لأمة من الأمم، ومالت إلى الغلو؛ فهذا منذر بانحطاط هذه الأمة وزوالها وهلاكها، وقد أصيبت الأمم السابقة بهذه الطامة؛ فبادت وهلكت. والسبب الأساسي لزوال قوة النصارى كان في غلوهم في كل باب من أبواب الدين، بدءاً من العقائد وصولاً إلى العبادات؛ حتى جعلوا نبي الله عيسى (ع) ابن الله – والعياذ بالله – كما أن المبالغة باسم الدين والعبادة، وإبلاء النفس بالمشقة أصبح من ديدنهم وعادتهم، والتي كانت من البواعث والأسباب الرئيسية لضلالهم وهلاكهم. هذا وقد وصف النبي (ص) الغالين المتشددين في الدين بـ"المتنطعين" والذي يقول الإمام النووي – رحمه الله – عند شرحه: "المتعمقون المتشددون في غير موضع التشديد"[5]. وقال "المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم"[6]. وقد أشار الإمام النووي – رحمه الله – في القول المذكور إلى نقطتين: الأولى: تتعلق بالعمل، والثانية: بالعلم، والشدة التي ليست مطلوبة ولا داعي لها، تتعلق بالعمل؛ وهي أنواع مثل: إجبار الإنسان نفسه لمواصلة العبادات التي قد لا يقدر نفسه على أن يواصلها ويستمر عليها، ومحاولة تحميل النفس من المشقة باسم العبادة والتقرب إلى الله تعالى بما لا يحملها، ووضع النوافل موضع السنن، والسنن موضع الواجبات، وجعل الفروع كالأصول، وعدم الاستفادة من الرخص الشرعية، وتحريم الأشياء التي أحلَّها الإسلام؛ وبالتالي فإن هذه المظاهر للغلو تنافي الطبيعة المتوازنة للدين الإسلامي الحنيف، والمتسمة بالوسطية والاعتدال. أمَّا النقطة الثانية لكلام الإمام النووي – رحمه الله – التي تتعلق بالعلم مفادها: أن البحث في الموضوعات، والتقفر في الأغراض العلمية التي لا داعي لها، والتي قد تهدف إلى إثارة الأسئلة في القضايا والمسائل التي لم تحتج إليها الأمة، كما تؤدي إلى إهدار القوات الفكرية والذهنية بتشغيل المواهب في التحقيقات والدراسات التي لا تجدي نفعاً، والوقوع في الحوارات والمناقشات والمجادلات التي لم تكن الأمة بحاجة إليها قطّ، كما أن إيجاد القضايا الافتراضية، وإعمال القوات العقلية، وتضييع الذكاءات، وإهدار القوات الذهنية والفكرية؛ ومن ثَمَّ إطلاق الحرية لقوة التخيل في الغيبيات والتوسع فيها، وبذل المحاولات في تعيين كيفيات الأمور الغيبية- ظلت تلعب دوراً في إعاقة مسيرة الأمة رغم أنه من المدرَك تماماً بأنها لا توجد هناك وسيلة لمعرفة الأمور الغيبية إلاَّ الوحي الإلهي؛ وبالتالي فإن هذه الصور كلها ناتجة عن التخرصات والغلو والمبالغة في العلم وطلبه؛ والتي تؤدي إلى نتائج خطيرة، وضارة ومهلكة في معظم الأحيان؛ لذلك فإن النبي (ص) عندما رأى أصحابه يتناقشون في القدر ويجادلون فيه- احمر وجهه، وقال (ص): " دعوني ما تركتكم إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم؛ فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"[7]. ومارواه الترمذي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة (رض) قال: خرج علينا رسول الله (ص)، ونحن نتنازع في القدر؛ فغضب – حتى احمرَّ وجهه – حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرُّمان؛ فقال: "أبهذا أُمرتم أم بهذا أُرسلتُ إليكم؛ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر؛ عزمت عليكم أن لا تتنازعوا فيه"[8]. كما أن التنازع والتجادل في الغيب على أساس الظن والتخمين قد يعرِّض إيمان المسلم إلى الخطر، ويؤدي إلى تجاوز الحدود المرسومة للعلم والسؤال والمناقشة إلى الحد الذي يكون حركة اللسان فيه ذنب، وتسيير القلم معصية، وهو ما روى عبدالله بن عبد الرحمن، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال: رسول الله (ص): "لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله؛ خالق كل شيء، فمن خلق الله"[9]. هذا وإن الأحاديث النبوية التي ذُكرت توجِّه النقد القوي والتنديد الواضح كذلك إلى تلك المباحث للمنطق وعلم الكلام التي تؤدي إلى تعقيد ذهن الإنسان وفكره بدل تسهيله وتوضيحه، كما أن عقل صاحب هذه العلوم يتعرض إلى القلق والاضطراب قدر تعمقه وتبحره فيها بكونها مساهمة في تعقيد الأشياء البسيطة، ومن ثَمَّ فقد يحتاج الإنسان إلى جهد ذهني وفكري متزايد لإدراكها وفهم فحواها، ثم إن تحذير هذه الأحاديث الكريمة تحتوي كذلك على التحذير من العديد من تلك الكتب لفلسفة الإلهيات التي تنبني كل مباحثها على الظن والتخمين، ومجرد الرأي، وتحاول فَهْم وإدراك ذات الله سبحانه وتعالى، من خلال المصطلحات الفلسفية للعَرَض والجَوْهر، والجهة، وواجب الوجود، إلى غيرها من المصطلحات. إن من الظواهر الغريبة للعقل الإنساني بأنه يتسرع في إغراق نفسه في متاهات المباحث التي يسكت عنها الوحي الإلهي، رغم أن العقل الإنساني مهما ارتفع وارتقى، وبلغ إلى الذروة والعمق؛ فإنه لن يتجاوز حدود علم العليم القدير: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) (الإسراء/ 85). وقد ورد في الأحاديث أن مثال علم الإنسان لا يساوي إلا بمنقار طير ينقره من البحر؛ فالقَدْر الذي يحمله هذا الطير من ماء البحر لا يساوي علم الإنسان – حتى مثله – بعلم الله تبارك وتعالى وهو ما روى البخاري، وغيره بسنده إلى سعيد بن جبير، وغيره من حديث موسى والخضر الطويل الذي قال فيه بأنه: عندما وقع عصفور على حرف السفينة؛ فغمس منقاره في البحر؛ فقال الخضر لموسى: "ما علمك وعلمي وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره"[10]. وبالتالي فمن أين ستأتي الإمكانيات لفهم وإدراك ذات الباري تعالى بصغر الآفاق التي تملكها العقل الإنساني، وقلة علمه وضيق قدرته على الفهم وهي الذات التي لا تكفي لكتابة وتسجيل كلماتها سبعة أبحر: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) (لقمان/ 27). (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) (الكهف/ 109). وتأتي في إطار نقد الآيات والأحاديث بعض تلك الرسائل، والبحوث الجامعية التي تُكتب لنيل شهادات الدراسات العليا، وتقدم إلى العديد من الجامعات العالمية، وإن كان ما يحسد على هذا العصر العلم بأنه قد أفرز عن خدمة كبيرة للعلوم الإسلامية، وغيرها؛ بتخصيص شعب وأقسام لكل علم، وتخريج العديد من البحوث، والتحقيقات المفيدة إلى حيز الوجود، ولكن هذا المجال للعلم والتحقيق لم يتجنب كالمجالات الأخرى من ويلات الغلو والمبالغة، وما نشاهد مظاهره في صورة هؤلاء الطلاب والباحثين الذين يُقْدِمون على تحديد موضوع من المواضيع العلمية؛ لنيل الشهادات ويضيعون أربع أو خمس سنوات من عمرهم الغالي إلى أن تخرج الرسالة العلمية بعد جهد جهيد إلى حيز الوجود، ولكنها كثيراً ما تكون خالية من إضافة شيء في مجال العلم والتحقيق؛ بل تأتي وهي تحمل بعض التغييرات في المعلومات الموجودة في الكتب القديمة، وإذا خرجت بعض الرسائل والبحوث، وهي تحمل بعض الأفكار الجديدة فإنها بقيمتها، واعتبار نتائجها لا تتجاوز كونها من باب: "علمٌ لا ينفع وجهالةٌ لا تضر"، فهل يعقل إهدار الوقت والمال وفرصة غالية من العمر العزيز في مثل هذه البحوث والتحقيقات؟ لذلك كره بعض أهل العلم هذا النهج للبحوث والرسائل الجامعية. هذا وإن الشريعة الإسلامية بأحكامها وتشريعاتها كرهت كثرة السؤال، والقيل والقال؛ حرصاً على إبقاء صفة الاعتدال والتوازن في العلم وطلبه؛ لأن الأسئلة إذا كَثُرت كَثُر اللغط، وقد قال النبي (ص): "إن أعظم المسلمين جُرماً من سأل عن شيء لم يحرَّم فحُرِّم من أجل مسألته"[11]، وقال النبي (ص) بياناً لأهمية فريضة الحج: "أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج؛ فحجوا"، فقال رجلٌ: أكُلُّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً؛ فقال رسول الله (ص): "لو قلتُ نعم لوجبت ولما استطعتم"[12]. هذا وإن دراسة قصة بني إسرائيل لذبح البقرة ستنفعنا في فهم تلك التوجهات الفكرية التي تم توجيه النقد إليها خلال الحديثين المذكورين؛ حيث أمرهم الله – تبارك وتعالى – بأن يذبحوا بقرة، فلو قاموا بذبح البقرة التي توافرت لديهم، وعملوا كما أُمِروا فازوا بتنفيذ أمر الله – تبارك وتعالى – ولكنهم شددوا على أنفسهم بسؤالهم عن سنِّ البقرة، ولونها، وكيفيتها؛ فشدد الله عليهم. ثم إن منفعة العلم قد تضيع، ويتحول العلم إلى الضرر بدل أن يكون نافعاً ومفيداً ونوراً ضد ظلمات الجهل إذا لم يتسم طالبه بصفة التوازن؛ ففي حديث لصحيح مسلم أنه: "جاء رجلان من البصرة إلى عبدالله بن عمر بن الخطاب – (رض) – يشكوان إليه القدرية، ويصفانهم بأنّهم يتقفرون العلم – أي: يطلبون ويتتبعون غامضه – وأنهم يزعمون ألا قدر وأنّ الأمر أُنف – أي: جديد لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى – قال: فإذا لقيت أولئك أخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبدالله بن عمر: لو أن لأحدهم مثل أُحُد ذهباً، فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر"[13]. هذا وإنّ الأحاديث والآثار المذكورة تدل على أنّ التمسك بمنهج التوازن والاعتدال ملازم للعلم والعمل؛ فإذا فُقِد الاعتدال في العلم سيفقد في العمل، ولكن إذا تم التحري عن منهج التوازن والوسطية في كلتا الشعبتين: العلم، والعمل؛ فإن جميع الأنشطة والإنجازات، والتحركات للحياة الإنسانية ستتسم بالوسطية والتوازن.   الهوامش:
1- كاتب وباحث إسلامي، أحد أعضاء هيئة التدريس لجامعة دارالسلام، بدأ دراسته من الجامعة المذكورة، وتخرج من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، أُرسل بعد تخرجه مبعوثاً إلى الجامعة كداعٍ ومدرس من قِبَل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، ويُعَد من الباحثين والدعاة النشطاء في هذه المنطقة. [2]- أخرجه: مسلم في صحيحه، كتاب: العلم، برقم: (4823)، وأبو داود في سننه، كتاب: السنة، برقم: (3992)، وأحمد في مسنده، برقم: (3473). [3]- أخرجه: البخاري في صحيحه، كتاب: الإيمان، برقم: (38)، والنسائي في سننه، كتاب: الإيمان وشرائعه، برقم: (4148). [4]- أخرجه: النسائي في سننه، كتاب: مناسك الحج، برقم: (3007)، وابن ماجه في سننه، كتاب: المناسك، برقم: (3020)، وأحمد في مسنده، برقم: (1754- 3078). [5]- انظر: رياض الصالحين، للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، باب: الاقتصاد في العبادة، ط. محمد عمار آغا شحادة الرفاعي، القاهرة- مصر، (1994م). [6]- انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، (16/ 220)، كتاب العلم: باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعيه، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت، (1392هـ). [7]- أخرجه: البخاري في صحيحه، الاعتصام بالكتاب والسنة، برقم: (6744)، ومسلم في كتاب: الحج، برقم: (2380)، والفضائل، برقم: (4348)، والعلم، برقم: (4818)، والترمذي في العلم، برقم: (2603)، والنسائي في مناسك الحج، برقم: (2572)، وابن ماجه في كتاب المقدمة، برقم: (2)، وأحمد في مسنده، برقم: (3612). [8]- أخرجه: الترمذي في سننه، كتاب: القدر، برقم: (2069). [9]- أخرجه: البخاري في صحيحه، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، برقم: (6752)، ومسلم في كتاب: الإيمان، برقم: (190-192-193)، وأبو داود في كتاب: السنة، برقم: (4098)، وأحمد في مسنده، برقم: (8666-11557). [10]- أخرجه: البخاري في صحيحه، كتاب: تفسير القرآن، برقم: (4358)، وأحاديث الأنبياء برقم: (3149)، ومسلم في كتاب الفضائل، برقم: (4385)، والترمذي في كتاب تفسير القرآن، برقم: (3074)، وأحمد في مسنده، برقم: (20199). [11]- أخرجه: البخاري في صحيحه، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، برقم: (6745)، ومسلم في كتاب الفضائل، برقم: (4349-4350)، وأبو داود في سننه، كتاب السنة، برقم: (3994)، وأحمد في مسنده، برقم: (1463) والحميدي في مسنده، برقم: (72). [12]- أخرجه: مسلم في صحيحه، كتاب الحج، برقم: (2380)، وأحمد في مسنده، برقم: (10199)، ومالك في الموطأ، كتاب الحج، (763).

[13]- أخرجه: مسلم في صحيحه، كتاب: الإيمان، برقم: (9)، والترمذي في كتاب: الإيمان، برقم: (2535).

المصدر: كتاب المنهج الإسلامي للوسطية والاعتدال

ارسال التعليق

Top