• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

معيار العمل الصالح

جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

معيار العمل الصالح

 ◄(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة/ 79-80).

  -       قصة هاتين الآيتين: وردت عدة روايات في سبب نزول هاتين الآيتين في كتب التفسير والحديث، يستفاد من مجموعها أنّ النبي (ص) كان قد صمم على إعداد جيش المسلمين لمقابلة العدو – وربما كان في ذلك في غزوة تبوك – وكان محتاجاً لمعونة الناس في هذا الأمر، فلما أخبرهم بذلك سارع الأغنياء إلى بذل الكثير من أموالهم، سواء كان هذا البذل من باب الزكاة أو الإنفاق، ووضعوا هذه الأموال تحت تصرف النبي (ص). أما الفقراء، كأبي عقيل الأنصاري أو سالم بن عمير الأنصاري، لما لم يجدوا ما ينفقونه لمساعدة جنود الإسلام، عمدوا إلى مضاعفة عملهم، واستقاء الماء ليلاً، فحصلوا عن صاعين من التمر، فادخروا منه صاعاً لمعيشتهم ومعيشة أهليهم، وأتوا بالآخر إلى النبي (ص) وقدموه، وشاركوا بهذا الشيء اليسير – الذي لا قيمة له ظاهراً – في هذا المشروع الإسلامي الكبير. غير أنّ المنافقين الذين لا هم لهم إلا تتبع ما يمكن التشهير به بدلاً من التفكير بالمساهمة الجدية عابوا كلا الفريقين، أما الأغنياء فاتهموهم بأنهم إنما ينفقون رياء وسمعة، وأما الفقراء الذين لا يستطيعون إلا جهدهم، والذين قدموا اليسير وهو عند الله كثير، فإنهم سخروا منهم بأن جيش الإسلام هل يحتاج إلى هذا المقدار اليسير؟ فنزلت هاتان الآيتان، وهددتاهم تهديداً شديداً وحذرتاهم من عذاب الله[1].   -       المعيار في قيمة العمل في الإسلام: أنزل الله عزّ وجلّ شريعة الإسلام ليبيّن للناس التعاليم التي ينبغي أن تكون مُعتمَدة من قبلهم في تقييم الأمور ومعرفة الحق من الباطل أو العمل المقبول من غير المقبول، أو معرفة العمل الأفضل من العمل المفضول. فالمعيار الذي يسير عليه الناس هو أن من يقدّم أكثر هو صاحب الفضل الأكبر، ملاحظين في ذلك مجرد قضية أنّه أكثر بذلاً أو أكثر عطاء، ولكنّ القرآن الكريم يرفض ذلك، مؤكداً خطأ هذا المعيار، وهذا هو المستفاد من الآيات المباركة المذكورة. كما وردت الروايات العديدة التي تؤكد على أنّ العمل الأفضل عند الله عزّ وجلّ لا يرتبط بالكثرة فقط، بل يخضع لمعايير أخرى في التقييم.   -       العمل الأفضل عند الله: حتى يوصف العمل بأنّه أفضل وموجب للتقرب أكثر من الله عزّ وجلّ، لابدّ وأن تجتمع فيه صفات عدّة: أ‌-    الإخلاص: الإخلاص في العمل شرط في القبول وشرط في الوصول إلى الغاية الرئيسية التي يريدها الإنسان من العمل وهي التقرّب إلى الله عزّ وجلّ. وقد ورد عن أمير المؤمنين (ع): "الإخلاص غاية الدين"[2]. كما ورد في الروايات بيان أنّ الإخلاص هو الموجب لكون العمل أفضل عند الله عزّ وجلّ، ففي الرواية عن رسول الله (ص): "بالإخلاص تتفاضل مراتب المؤمنين"[3]. بل لعل الصورة الظاهرية التي تبدو للناس أنّ النجاحات والانتصارات التي يكتبها الله عزّ وجلّ تنحصر العلة فيها بما يعدّه الإنسان بحسب الظاهرة سبباً لذلك، ولكن الروايات وردت بأن بعض ما لا يراه الناس ولا يعدّونه سبباً للانتصارات هو السبب الحقيقي، ففي الرواية عن رسول الله (ص): "إنما نصر الله هذه الأُمّة بضعفائها ودعوتهم وإخلاصهم وصلاتهم"[4]. ب‌-العمل الصحيح: إذا كان المطلوب من العمل هو الوصول إلى غاية وهدف محدد، فإنّ العمل الذي يكون موصلاً إلى ذلك هو العمل الصحيح، لا العمل الكثير، فما على الإنسان أن يسعى إليه وأن ينظر إليه هو أن يكون عمله صائباً لا أن ينظر إلى الكثرة فقط، وهذا مضافاً إلى شهادة فطرة الإنسان ووجدانه بذلك، وردت به الروايات، فعن الإمام الصادق (ع) في قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (هود/ 7): ليس يعني أكثركم عملاً، ولكن أصوبكم عملاً، وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة[5]. ج. العمل مع العلم: من الأسباب التي ينبغي أن تلحظ في الحكم على العمل بأنّه أفضل عند الله عزّ وجلّ هو أن يصدر العمل عن علم، أي أن يكون العامل مدركاً لما يقوم به ولما يترتب على عمله من آثار ونتائج، ففي الرواية عن الإمام الكاظم (ع): "قليل العمل من العاقل مقبول مضاعف، وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود"[6]. وهذا يرجع إلى نفس ما ذكرناه سابقاً، فإنّ الغاية لما لم تكن هي مجرد العمل، بل الوصول من خلال العمل إلى نيل مقام القرب من الله عزّ وجلّ والوصول إلى غاية مراد المريدين فإنّ العلم هو من أهم أسباب الوصول إلى ذلك، ولذا ورد في الروايات وبألسنة متعددة بيان فضل العامل عن علم عن العامل عن جهل، بل وبيان أنّ القليل مع العلم أفضل وخير من الكثير مع الجهل، ففي الرواية عن رسول الله (ص): "ركعتان يصليهما العالم أفضل من ألف ركعة يصليها العابد"[7]. ورد في رواية أخرى تفضيل العمل القليل على الكثير إن كان الأوّل قريناً لليقين، فعن الإمام الصادق (ع): "العمل الدائم القليل عن اليقين، أفضل عند الله من العمل الكثير على غير يقين"[8]. وعن الإمام الصادق (ع): "يأتي صاحب العلم قدام العابد بربوة مسيرة خمسمائة عام"[9]. وعن رسول الله (ص): "ساعة من عالم يتكئ على فراشه ينظر في عمله، خير من عبادة العابد سبعين عاماً"[10]. د- المداومة على العمل: من أسباب التفضيل بين الأعمال، المداومة على العمل وإن كان قليلاً، ففي الرواية عن الإمام الباقر (ع): "أحب الاعمال إلى الله عزّ وجلّ ما (داوم) عليه العبد، وإن قل"[11]. وفي رواية أخرى عن الإمام الباقر (ع) – كان يقول –: "إني أحب أن أدوم على العمل إذا عودتني نفسي، وإن فاتني من الليل قضيته من النهار، وإن فاتني من النهار قضيته بالليل، وإن أحب الأعمال إلى الله ما ديم عليها"[12]. هـ- العمل الذي لا يلحقه الأذى: قال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) (البقرة/ 262-263). ذكر في تفسير الأمثل في تفسير الآية الأولى: (تبين هذه الآية منطق الإسلام في قيمة الأشخاص الاجتماعية وكرامتهم، وترى أنّ أعمال الذين يسعون في حفظ رؤوس الأموال الإنسانية، ويعاملون المحتاجين باللطف ويقدمون لهم التوجيه اللازم، ولا يفشون أسرارهم، أفضل وأرفع من إنفاق أولئك الأنانيين ذوي النظرة الضيقة الذين إذا قدموا عوناً صغيراً يتبعونه تجريح الناس المحترمين وتحطيم شخصياتهم)[13]. فالعمل قد يصدر عن نية خالصة ويكون مستجمعاً لشروط القبول عند الله، ولكن الإنسان يُلحقه بما يُبطله، وقد ورد في الرواية عن الإمام الباقر (ع): "الإبقاء على العمل أشد من العمل، قال – الراوي –: وما الإبقاء على العمل؟ قال: يصل الرجل بصلة وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فتكتب له سراً، ثمّ يذكرها فتحمى فتكتب له علانيةً، ثمّ يذكرها فتحمى وتكتب له رياءً"[14]. الهوامش:
[1]- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل – الشيخ ناصر مكارم الشيرازي – ج6، ص129-140. [2]- غرر الحكم: 851، 74. [3]- ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج1، ص754. [4]- ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج1، ص755. [5]- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج93، ص150، حديث 3. [6]- تحف العقول، ابن شعبة الحراني، 378. [7]- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج4، ص367، حديث 5762. [8]- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج71، ص214، حديث 10. [9]- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج2، ص18، حديث 48. [10]- روضة الواعظين، النيسابوري، ص12. [11]- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص82، ح2. [12]- مستدرك الوسائل، المحدث النوري، ج1، ص129، حديث 175.

[13]- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج2، ص299.

[14]- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص296، حديث 16.

    المصدر: كتاب (منازل الآيات/ سلسلة الدروس الثقافية 24)

ارسال التعليق

Top