• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أعطيتها زهرة لكنها تُريد الحديقة

أعطيتها زهرة لكنها تُريد الحديقة
لست من ذلك النوع من الرجال، الذين يحفظون أحكاماً وعبارات جاهزة، تَحطّ من قَدْر المرأة وتُشكك في وعيها وذكائها. إنّ المرأة ضلعي القوي وشريكتي التي أستند إليها وتستند إليَّ، في دروب هذه الدنيا الوعرة، وهي العقل الذي أجد عنده المَشُورة والأذن المصغية والتشجيع المطلوب. لم تُعجبني، في أي يوم، تلك المقولات التي تَزعُم أنّ من الضروري التضييق على النساء لأنهنّ لا يعرفن حدودهنّ. أو أنّ حَبْل المرأة يجب أن يَبْقَى في يد الرجل، وكأنها دَابّة مربوطة تَفْهَم الزَّجْر ولا تَعي الكلام.
إنّ أفكاري عن العدالة بين الجنسين ليست مجرد كلمات وشعارات، بل سياسة أقوم بتطبيقها في حياتي اليومية، ومع هدى، زوجتي التي تتمتع بالعلم والثقافة وتقف على قَدَم المساواة معي وراء دَفّة حياتنا. وانطلاقاً من هذه القناعة، فقد سمحت لزوجتي بأن تشارك في الندوات، وتسافر لحضور المؤتمرات العلمية التي تتعلق بتخصصها. ولمّا أرادت أن تُرشّح نفسها لانتخابات الهيئة الإدارية، لجمعية تُعنَى بتحسين ظروف عمل النساء وتدعمهنّ لبلوغ مراكز القرار، سمحت لها بذلك، بل ووقفت وراءها حتى فازت بالعضوية، وفي السنة التالية صارت رئيسة الجمعية، وراحت تقود الوفود التي تزور السادة المسؤولين، وتتفاوض معهم حول الأهداف المنشودة. ولمّا تعثّرت المفاوضات وشعرتُ هدى بأن جهودها وجُهود رفاقها ورفيقاتها لا تلقَى الاهتمام الكافي، كتبت مقالاً بهذا الخصوص في إحدى الصحف المحلية، ولم تستشرني فيه قبل النشر. لقد فتحتُ الجريدة، كعادتي كل صباح، فوجدتُ مقال زوجتي وصورتها يتصدران الصفحة الثالثة. ومع هذا، فإنّ رَدّ فعلي لم يتجاوز الدَّهشة وشيئاً من العتب، لأنني لا أريد أن أكون (الزوج آخر مَن يَعْلَم)، لكنها ردّت بأنها أرادت أن تترك المقال مفاجأة لي. وقد تقبّلت المفاجأة بصدر رحب، لأن ما كتبته زوجتي كان صائباً ومُقنعاً، ولا يبعث على القلق أو الخجل.
الآن، صارت أكثر ثقةً بنفسها، وقالات إنّ رئيس تحرير الصحيفة عرض عليها أن تستمر في الكتابة، وأن يكون لها مقالها الأسبوعي التربوي في الصفحة الثالثة، وهي متحمّسة للأمر وتعرض عليَّ الأفكار التي ستكتب عنها، من دون أن تسألني عن رأيي في المبدأ: هل أسمح لها بأن تُصبح كاتبة تنشر أفكارها على العلَن، أم أفضّل أن تَبْقَى مُربّية فاضلة؟ لقد منحتها زهرة فأرادت الباقة كاملة، ولمّا أعطيتها الباقة راحت تُطالب بالحديقة كلها. إنّها متفائلة وأنا مُتورّط. هل يقطع الحبل وأنا في منتصف البئر؟
يحدث كثيراً أن أترك المذياع يدور وأنا أقوم ببعض أعمال البيت، من دون أنتبه لِما يُبَث من أخبار أو أغنيات. لكنني أمس، وأنا أسقي نباتات الظل، تنبّهت لأغنية قديمة كانت صادرة عن الراديو، تبدو وكأنها تُعبّر عن حالي، أنا بالذات. إنّ النباتات تحتاج إلى الماء وأنا أحتاج مثلها إلى ذلك الرَّذاذ السَّخي، الذي كان إبراهيم يُمطرني به طوال مسيرة حياتنا. لولاهُ، لأصبحت مثل الأرض اليابسة المشقَّقة، ولولا دعمه لي، لكنت مُجرّد مُعيدة جامعية لا تعرف من دنياها سوى الطريق الذي يذهب من بيتها إلى عملها ويعود بها من العمل إلى البيت.
"وَصَّلْتِينا لنصّ البِيِر وقَطَعْت الحَبِل فِينا.. ويلي.. ويلي". إنّه زوجي الذي يبدو وكأنّه قد تعب من مهمة الوقوف ورائي، ودَعْمي والدفاع عنّي وتكسير الحواجز التي تعترض دربي. لقد ساعدني على الخروج من البئر وأمسك بالحبل الذي يشّدني إلى أعلى، لكنه قرّر أن يقطع الحبل وأنا في منتصف المسافة، فلا أنا غَرْقَى في الماء ولا أنا مُحلّقة في فضاء الدنيا الخارجية. هل يُعْقَل أن يخجل إبراهيم، الزوج المثقف وحامل الشهادة العليا، من صورتي التي تظهر في الصحيفة ومن اسمي الذي يرتبط باسمه؟
بدأت التجربة مثل مُغامرة عابرة، حين طلَبَت منِّي إحدى المحرِّرات نص الكلمة التي ألقيتها في ندوة عامة، ثمّ رَجَتْني أن أسمح لها بنشرها في الجريدة التي تعمل فيها. هل كان عليَّ أن أستشير إبراهيم؟ أم أنني بالغت حين سمحت لها بنشر صورتي مع نص الكلمة؟ لقد مَرّ النشر بسلام، وكان دفعة قوية لي للمُضي في جهودي وتحقيق واقع أفضل لنساء بلدي. لكن القضية لم تتوقف عند هذا الحد. فقد عادت المحررة وطلبت مني رقم هاتفي، ثمّ اتصل بي رئيس التحرير وعرض عليَّ أن أصبح كاتبة في جريدته التي تُعتبر من أبرز صُحف المدينة. هل أترك فرصة مثل هذه تضيع مِن يدي؟ وما الذي يُزعج زوجي في أن أنشر الكلام الذي أتحدث به في الندوات المحلية والمؤتمرات التي تُقام في الخارج؟ أنا لم أخرج على الأعراف ولا اعْتَدَيْتُ على القوانين، ولا طالبت للنساء بما يُعارض العقيدة. كل ما حاربت ضده، هو تلك التقاليد غير المستندة إلى الدين، والتي تمنع المرأة من الدراسة أو العمل أو الاستفادة من علمها وقدراتها. إنّ زوجي صامت وغير راضٍ وأنا في مواجهة الجدار، أمْضَغ الأمل المُحبط.

ارسال التعليق

Top