• ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الجمعة السعيدة وكل جمعة

الجمعة السعيدة وكل جمعة
◄هذه ليلتي وحلم حياتي. أستعد لها وأُمضي الوقت في تَرقُّبها والتهيّؤ لسهرتها ومائدتها وجمالها وطربها وكلّ ثانية فيها. إنّ العمر قصير وأنا لم أعد أملك منه الكثير. ولّى الشباب وأخذ معه الكثير. ابيَضّ الشعر وخارت القوَى وتكرْمَش الجلد، لكن الجيب لا يزال عامراً والحمد لله، مثله القلب. كان يكفي أن أعقد على زوجة جديدة شابة لكي تعود الشرايين إلى التدفُّق مثل شلّال قوي. لكن الحكمة، في مثل عمري، تقضي بتقنين مياه الشلالات وتعليبها وعدم التفريط في أي شيء.

وهكذا، وبمشورة من حكيم الأعشاب الذي أجد ضالتي لديه، وزعت أوقاتي بشكل دقيق، ما بين عباداتي وتجارتي وصَحبي وزوجتي الأولى، التي ما عادت تطالب بحقّها الشرعي، وخصّصت مساحة لأولادي منها ولأحفادي، وتفرغت مساء الجمعة للعروس الجديدة. إنّ حصتها من وقتي تستغرق الكثير، لأنّ الذهاب إليها تسبقه طقوس وتواكبه طقوس. أذهب إلى الصلاة وأطلب من ربي الصحة والستر وحُسن الختام، ثمّ إلى الحلّاق لكي يشذب لحيتي ويصبغها ومعها ما تبقّى من شعر رأسي. وبعدها إلى السوق لابتياع الأعشاب والعصارات الضرورية للهمّة. ثمّ أبعث مشتريات من اللحم والسمك والفواكه والتمور إلى البيت الجديد، مع كيس من الحنّة وشيء من البخور والمطيّبات ودهن العود. وأختتم كلّ ذلك بالذهاب إلى الحمّام العمومي، وترك نفسي ليدي المدلّك الهمام، يُليّف جلدي ويُصَوبِن قدمي ويُفصفص عظام ظهري بمعرفته ومهارته. وحين يقترب موعد اللقاء أكون قد ارتديت الثوب المعطّر والمكوي جيداً وصرت حصاناً جاهزاً للسباق، أو هذا ما أتمنّاه. عندها أجلس لاحتساء كوب أخير من الشاي بالعسل، ثمّ أتوكل وأسير إلى أحضان البركة.

تنتظرني الحرمة الصغيرة برأس مُطرْق وعينين خفيضتين، من دون أن يبدو عليها أنّها مسرورة أو منزعجة. وأنا لا أعرف أن أستنطقها. وحتى لو حاولت فإنّها لا تُجيب إلّا بهزّات الرأس. ماذا أفهم من هذه اللغة الصامتة.. لغة الخرس؟ كلّ ما يهمّني الآن هو أنني زوجها وهي زوجتي بالحلال، دفعت فيها مَهراً ثقيلاً، لأنّها تملك الشباب الذي فاتني، ومازالت في أوّل طلعتها كما يقولون. لكنني لم أغصبها على شيء. وقد وافق أبوها وأرسل البنت لعندي فلم تتمرّد أو تعترض. وهذه الليلة هي الجمعة، ليلتي وليلتها، أتفرغ لها بالكامل وأتذوّق طبيخها وأُدلّلها وأتفرّج على ثيابها الجديدة، وأسبغ عليها حناني وأنام قرير العين. ثمّ أستيقظ لكي أستأنف برنامجي الكثير والموزّع بالعدل والعقل، على أن أعود إليها في الجمعة التالية. إنّ قلبي لا يحتمل جمعتين في الأسبوع.

 

يأتي ويذهب وكأنّه ما جاء..

حين يطرق حمّال السوق بابي وهو يحمل أكياس اللحم والفواكه، أعرف أنّه يوم الجمعة. كيف لي أن أعرف الأيام وأميّز فيما بينها، إذا كنت لا أخرج ولا أرى الشمس ولا الناس، وأكتفي بمحادثة أُمي وصديقاتي بالتليفون؟ عندي شغّالة جاءت حديثاً من بلدها البعيد. لا تتكلم لغتي ولا أتكلم لغتها. أتركها تفعل ما تريد وأتصرف وكأنها غير موجودة. إنّها مثل الفراشة الصامتة، تتحرك من دون أن تصدر صوتاً. تتركني أنام النهارات وأسهر الليالي أمام التلفزيون، وأتثاءب وأغفو على الكنبة. أستيقظ وهي نائمة وأدور في بيتي وأُقلب المجلات التي يأتي بها السعاة. أدخل المطبخ عند منتصف الليل وأُجرّب وصفات جديدة. أقف أمام المرآة بالساعات أتأمل وجهي وشعري وعينيّ وأتساءل: هل أستأهل هذه القسمة؟ يطلع عليّ الصباح وأنا أتحدث مع مرآتي الكبير في غرفة النوم. ثمّ أنام من جديد وأجبر عينيّ على الإغماض.

أمضي نهار الجمعة في الاستعداد للحفل المسائي المقرر. أشرف على الشغّالة وهي تنظّف البيت، وأُعدّ أنواع الطعام بنفسي وأفرش السفرة، وأتزيّن كما يليق بعروس. أبخّ العطور على ذراعيّ وعنقي وشعري، الطيوب التي يهديني إياها وتتكوم على طاولة زينتي. ما زلت أتكلم عنه بصيغة الغائب، على الرغم من مرور أشهر على انتقالي إلى هذا البيت. لم أتعوّد أن أقول زوجي. لم أتعود أن أقول بيتنا. بيتي وبيت زوجي. كيف يكون كذلك وأنا لا أسمع دوران مفتاحه في الباب إلّا ليلة الجمعة؟ يأتي، فأشعر بالخجل منه لأنّه في سن والدي. أرتبك ولا أعرف كيف أمزح معه ولا كيف أنظر في وجهه، ويُريحني أن أخفض عينيّ وأن أرد على أسئلته بهز رأسي أو رفرفة أهدابي. يضحك عليّ ويقول إنني أرمش بأهدابي مثل الدمَى. يأكل ويُطعمني بيده فأزداد حرَجاً وانكماشاً. لا أذكر أنّ أبي أطعمني بيده، وعندي كلام كثير أقوله لكنني لم أتعوّد التبسُّط مع الرجال الكبار. أودّ أن أحكي له عن ضجري في غيابه وخوفي من البقاء وحدي، ولو مع الشغالة. إنّ نهاراتي طويلة وليالي أول.

ينتهي من الطعام ويحتسي الشاي على مهل، ويتناول حبوباً يحفظها في جيب صغير. وعندما يراني أتطلع بقلق يقول لي: "لا تخافي.. لست مريضاً". وكعادته، يستمع لبعض الأغنيات في التلفزيون ويهز رأسه ويغمز لي أو يتراقص وهو جالس في مكانه، ثمّ يقوم ويطلبني للفراش. أؤدّي واجبي وعقلي غائب عنّي. أطير فوق غيوم بيض أعْدُو وراء خيول سُمر وأرتاد حدائق ملونة بكلّ درجات الخضرة. ينتهي الاشتباك وأنا على البر. وعندما ينام ويتعالى شخيره، أبقى ساهرة أُفكر في نوع الحياة الذي اختاره أبي لي، ولم أملك شجاعة الاعتراض. لماذا أعترض؟ إنّ أبي يعرف الدنيا خيراً منّي. فمن يضمن لي أنّ زوجاً غير هذا كان سيُعاملني بشكل أفضل؟ أنا أتفرج على المسلسلات ولا أصدّقها، لأنها تَحدُث في عالم لا يشبه عالمي. أتسلّى بالحكايات ولا أنفعل معها، لا أبكي في مواقف الفراق كما كانت تبكي بعض صديقاتي. من يبكي هو الذي يتمتع بالقدرة على الانفعال. وأنا بنت من دون انفعالات. أقصد امرأة تؤجّل مشاعرها لزمن قد يأتي ولا يأتي.►

ارسال التعليق

Top