إنّهم أشخاص يبحثون في السوق عن كل ما هو خالٍ من الكوليسترول، خالٍ من المواد الحافظة، خالٍ من المواد الملونة، يحبون الخضار والفواكه العضوية. إنّهم حريصون على تناول كل ما هو أكل صحي، وما عداه يستحيل أن يدخل جوفهم، لكن عندما يتحول هذا الحرص إلى هوس، فهنا يجب أن نتوقف لحظة للتفكر والتدبر، فهذا إضطراب صحي غذائي يسمى "أورتوريكسيا".
"عندما أذهب إلى التسوق، تحكي سهى (38 سنة)، أنتبه جيِّداً إلى جودة المواد الغذائية التي أشتريها. أقرأ جيِّداً غلاف كل علبة وكل كيس على حدة، وأتجنب كل ما يبدو لي كيميائياً جدّاً، وكل ما يتضمن إضافات أو صبغات ومواد ملونة. وطبعاً، أنا أضيّع الكثير من الوقت في الطبخ. لكنني مرتاحة لأني على الأقل أكون واثقة بجودة ما آكله".
من دون أن تدرك ذلك، سهى مصابة بمرض "الأورتوريكسيا"، أي مرض الهوس بالأكل الصحي، وهذه كلمة أصلها من اللغة اللاتينية، فكلمة "أورتو" تعني صحيح وكلمة "أوريكسيس" تعني الشهية. وقد تم تشخيص هذا المرض لأوّل مرّة في السبعينيات على يد العالم الأميركي في التغذية ستيفن براتمان، الذي كان هو نفسه مصاباً بهذا المرض.
- هوس:
في حين أن "الأنوريكسيا" و"البوليميا" هما اضطرابان غذائيان نفسيان، يركزان على كمية الأكل، فيكون المصاب بأحد هذين الإضطرابين خائفاً دائماً من أن يأكل كثيراً أو من أن يزيد وزنه، فإنّ "الأورتوريكسيا" تركز على نوعية الأغذية وليس على كميتها. هدف المصاف بـ"الأورتوريكسيا" هو العثور على الغذاء المثالي، أي الغذاء ذي أعلى جودة ممكنة. ولكي يبلغ ذلك، فإنّه يخصص جزءاً كبيراً من وقته لإختيار وتنظيم تغذيته. فهو مثلاً يقرر وينظم ويكتب كيف ستكون وجباته، ومم ستتكون، قبل موعدها بأيام.
وفي كتابه "الأورتوريكسيا العصبية"، يصف لنا الدكتور ستيفن براتمان، القواعد الصارمة التي يضعها المصاب بهذا الإضطراب. فمثلاً، هناك مَن يُلزم نفسه بأن لا يأكل إلا الخضار التي تم قطفها قبل أقل من 15 دقيقة، وهناك مَن يمنع نفسه من أن يستمر في الأكل إلى أن يشبع، وهناك مَن يمضغ كل لقمة خمسين مرّة قبل أن يبتلعها، وهناك مَن لا يأكل سوى السمك أو لا يقرب البيض أبداً. الإلتزام بكل القواعد يتطلب إرادة حديدية لكي يتم ذلك، وهذا شيء يفتخر به المصاب بـ"الأورتوريكسيا". وفي المقابل فإنّه إن أخل في يوم من الأيام بأي قاعدة من هذه القواعد القاسية وتناول طعاماً من تلك الأطعمة "المؤذية" حسب تقديره، فإنّه يؤنِّب نفسه أشد تأنيب، ويشعر كأنّه أصبح قذراً، أو أن شيئاً متسخاً دخل جسمه.
من الصعوبة بمكان أن يحافظ الإنسان على هذا المستوى من الحياة الصحية يومياً. بل يكاد يكون مستحيلاً. لهذا نجد المصاب بـ"الأورتوريكسيا" إمّا في وضعية صعبة نفسياً، لأنّه يعيش حالة شبه مستمرة من تأنيب الضمير، أو في وضع محرج. فالمصاب بـ"الأورتوريكسيا" لا يستطيع أن يأكل في مطعم أو أن يقبل دعوة أصدقاء إلى العشاء في بيتهم، بالتالي فإنّ هذا يُقلِّص كثيراً من حيوية حياته الإجتماعية.
- تناقض:
لكي يبقى الإنسان بصحة جيِّدة، من الطبيعي أن يهتم بتغذيته، لكن من دون أن يتحول ذلك إلى هوس. إيريك برلويز، هو إختصاصي في التغذية ومدرس لتاريخ وسوسيولوجيا التغذية، يوضح لنا أن "أعداداً متزايدة من الناس في الدول الغنية بدأت تقلق بشأن قواعد إختيار الغذاء الصحي، وأفترض أنّ هذا حدث نتيجة إختفاء المرجعيات الغذائية، التي يقدمها الدين أو الإنتماء العشائري أو الثقافة المحلية أو العرقية أو العائلة نفسها لكل واحد من أفرادها".
تتحول ممارساتنا الغذائية إلى نظام قيم حقيقي نحترمه ونقدّسه، والفرد منّا يعيد من تلقاء نفسه إبتكار علاقته بالطبيعة وبالعالم من خلال إختياراته الغذائية. هذا من جهة، أمّا من جهة أخرى فإن مجتمعنا الإستهلاكي يشجع هذا النوع من السلوك. لنلاحظ مثلاً: على شاشة التلفاز، وفي الشارع، نرى دائماً الإعلانات التي تبيع لنا بلا كلل ولا ملل، المزايا الصحية لهذا الغذاء أو ذاك، فيدفعون الناس إلى الشعور بتأنيب الضمير أكثر وأكثر، إن لم يتنالوا تلك المنتوجات "الصحية".
يقول مراد (32 سنة): "أحياناً عندما أعود متأخّراً في الليل إلى البيت، آكل وجبة سريعة من أي سلسلة مطاعم سريعة، لكن زوجتي تنظر إليَّ نظرة توبيخ وتقول لي: "لا أعرف كيف تستطيع أن تأكل تلك القذارة؟". فأشعر دائماً كأنني ارتكبت ذنباً، وعليّ أن أبرِّر لها لماذا أكلت وجبة من خارج البيت، أي غير مضمونة".
- إجابة:
لا يجب أن ننسى أن هناك عدداً من الأمراض مثل "جنون البقر" أو "إنفلونزا الطيور"، التي أسهمت في جعل الناس يقلقون أكثر بشأن المواد التي يأكلونها. وهكذا أصبح من السهل أن يصبح المرء قلقاً أكثر فأكثر بشأن ما يتناوله، وأن يكون أكثر إهتماماً بأن يعرف كيف ومن أين جاء المنتوج الذي يتناوله.
وعدا هذه العلاقة غير ثابتة المعالم بالتغذية، فإنّ "الأورتوريكسيا" يمكن أيضاً أن تأتي نتيجة قلق متزايد على الذات وعلى الرشاقة والصحة. فالبعض يعتقد أننا في شكلنا وحالتنا، وهذا ما يترجمه بالضبط عنوان كتاب للطبيب النفسي جيرار أبفيلدورفر "أنا آكل إذن أنا موجود". وهكذا، فإننا نعثر على إجابة توضح لنا معالم الإستهلاك الحالي، الذي لا مَعالم له.
- ليس هناك غذاء سيِّئ:
هناك فرق كبير بين أن تطبق تغذية صحية وأن تكون مهووساً بالتغذية الصحية. إن أوّل شيء على الشخص فعله، هو الحرص على موازنة تغذيته، كما توضح ذلك جودي فاسالو وديل ستانفورد في كتابهما "التغذية الصحية بصيغة المؤنث"، ليس هناك أغذية سيِّئة، بل هناك معادلة غذائية سيِّئة. ولكن إذا شعرت بأنك تأئه في عالم التغذية ولا تعرف مَن تصدق، ولا ماذا تفعل، فعليك بإستشارة طبيب متخصص في التغذية. لا تشتري بطريقة عشوائية أغذية من التي يُكتب عليها أنّها للحمية.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق