تأديب الطفل يعني تعليمه التصرف الحر وفق حدود المقبول من السلوك الاجتماعي
كيف سمحنا في مجتمعاتنا للفقر وعدم الوعي بتفكيك الأسرة؟ لماذا أخذت مشاغل المعيشة جلّ اهتمامنا فأنستنا صغارنا؟ لماذا في تربيتنا نأخذ بمبدأ العقاب وننسى مبدأ الثواب؟ هل أصبح البيت خاوياً من العلاقات الحميمية الدافئة؟ لِمَ هذا التقصير في حماية هذا المحضن الأساسي؟!
يتفق كثير من علماء التربية والسلوك على أنّ التماسك الأسري يحمي الفرد من الانحرافات السلوكية والأخلاقية والنفسية، ويعطي الفرد دافعاً قوياً لكي يظل فرداً مستقيماً، مشبعاً بالحنان والدفء والترابط العائلي.
فالطفل – ولداً أو بنتاً – يتوق إلى إرواء حاجاته الغذائية، وحاجات عاطفية كالحنان والحب، وحاجات اجتماعية تتعلق بعلاقته بوالديه وبأشقائه والمجتمع حوله، وحاجات عقلية تنمي مواهبه وتحترم عقله وتشرح له الأشياء والظواهر من حوله بطريقة صحيحة سليمة.
وهذه المؤسسة الاجتماعية أهم أركانها الزوج والزوجة، ويؤدي فيها الزوج واجب القوامة والحماية والرعاية والسعي لكسب القوت – وقد تؤدي الزوجة هذا الدور في غياب الأب أو بالطلاق أو الوفاة – ومن هنا اهتم الإسلام بحسن اختيار الزوج لزوجته والعكس، بحيث يتحرى الدين والأخلاق والنسب والجمال، خلافاً للمعايير الوضعية التي قسمت الناس إلى طبقات، وأصبح المال معيار الاختيار، بدون إلقاء أهمية للدين أو الأخلاق.
الحنان.. أو الإهمال:
وللحبّ والحنان – عملياً وليس نظرياً – الدور الكبير في الحفاظ على الأبناء بعيدين عن أقران السوء، ولهذا يجب ألا ينسى الأبوان تقبيل الأبناء، والحنو عليهم، والتسامح عند الخطأ، وتبيان السلوك الصحيح عبر الحوار. فإذا لم يجد الطفل أحداً داخل البيت يهتم به فلسوف يبحث عنه في الخارج حيث لا تكون النتائج دوماً طيبة، فيقع فريسة لأهل السوء فيستغلونه في جرائمهم وضياعهم الأخلاقي.
وكما يفسد الطفل بالإهمال، فكذلك سوف يفسد إذا أكثرنا من تدليله وحمايته بصورة مرضية قد تؤدي به إلى فقدان الثقة بالنفس، والخوف من مقابلة الناس، والانطواء على النفس، والالتصاق الدائم بأمه أو أبيه، وهو سلوك غير سوي وغير طبيعي، ومن هنا كان الاعتدال مطلوباً في النواحي العاطفية حتى لا تؤثر في مستقبل حياته العملية المستقبلية.
ومن الوسائل التربوية المضرة بالأطفال استخدام أسلوب التخويف والترهيب، لكي يمتنعوا من السلوك المرفوض أو البقاء هادئين داخل المنزل، لكن ذلك السلوك يضر من ناحية أخرى نفسية الطفل، فيكون شخصية غير سوية يخشى من فعل أي سلوك قد يجلب عليه اللوم والتوبيخ، ويقتل في نفسه الذاتية والمبادرة، والتلقائية، والشجاعة الأدبية كما يفقد الطمأنينة وقد يتلعثم في الكلام. والطريقة السليمة هي أن يتبع طريقة الإقناع والشرح والتفاهم بالتي هي أحسن، مما يجعله يشعر بقيمته وذاتيته فيطيع أبويه رغباً لا رهباً.
وبعض الآباء يعتقد أنّ الطفل كامل عقلياً فلا يجب عليه أن يخطئ، في حين أنّه – هو نفسه – قد ارتكب كثيراً من الأخطاء عند الصغر، فيقوم بعضهم بتأنيب الطفل بقسوة وضربه أحياناً، في حين أنّه يجب عدم معاقبة الطفل على أي خطأ يصدر منه، بل يجب التسامح مع بعض الأخطاء غير المقصودة التي تحدث لأوّل مرّة.
يقول أبو حامد الغزالي في "إحياء علوم الدين": "ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كلِّ حين فإنّه يهون عليه سماع الملامة، وركوب القبائح، ويسقط وقع الكلام من قلبه، وليكن الأب حافظاً هيبة الكلام معه فلا يوبخه إلا أحياناً".
الانضباط.. والعقاب:
ومن الأمور المهمة في هذا الشأن التفريق بين الانضباط والعقاب، ونقرأ في كتاب "التهيؤ للوالدية" ما يلي: "كلمة انضباط أو تأديب تستعمل أحياناً كأنّ المقصود منها هو العقاب لكن هذا غير صحيح إذ إنّ تأديب الطفل معناه تعليمه التصرف الحر وفق قواعد تحدد ما هو مقبول وما هو غير مقبول من أنواع السلوك. بينما العقاب يعرف بأنّه الجزاء أو الثمن الذي يدفعه الطفل لعدم التزامه بالقواعد الموضوعة أساساً للانضباط".
لهذا يجب على الوالدين شرح وتفسير القواعد التي يرغبون في أن يتبعها أولادهما، فكثيراً ما لا يفهم الصغار المعنى المطلوب اتباعه فيخالفونه فيقع عليهم تعنيف وضرب وأذى – لا قدر الله – وهم منه براء. ولهذا فإنّ شرط القاعدة السلوكية الفعّالة المؤثرة أن تكون مفهومة وبسيطة تناسب مدارك الطفل وإلا فكيف ينصاع لأمر أكبر من عقله وفهمه؟
وينبه علماء النفس على أهمية أن يثبت الوالدان على القواعد التي يضعانها للطفل، وألا يتساهلا فيها، وأن يحافظا على العقوبات التي تفرض عليه حسب سنه، ذلك أنّ تهديد الطفل بعقوبة ما، وعدم تنفيذها لاحقاً يضعف من موقف الوالدين، ومن السلوك المرفوض، ويجعل الطفل يشعر بعدم أهمية كلام والديه.
ويؤكد هذا المعنى د. كوش حينما قال: "متى لجأ الوالدان إلى مراعاة الانضباط بثبات، أدرك الأطفال بسرعة أنّهم يقرنون القول بالفعل، أما بالنسبة للصغار فإرسالهم إلى غرفهم إجراء فاعل جدّاً وعندما يكبرون يتحول هذا النوع من العقاب قصاصاً يطاول امتيازاتهم وهكذا بالتدريج المقترن بالحب".
إذن.. فإنّ الانضباط تواصل سلوكي يجب أن يتقنه الطفل من أجل مستقبل حياته وتواصله مع مجتمعه، والعيش مع الآخرين بسرور، فالمجتمع مليء بالضوابط والقوانين التي تطبق على من يخالفها بقوة. ومن هنا جاءت أهمية تحديد القواعد التي تُوضع للطفل لضبط سلوكه، وهو أمر لا يتنافى مع الحنان والحب والعطف، مما يجعل الطفل يستجيب للوالدين.
وعلى الأب مساعدة الأم في واجباتها الكثيرة تجاه الأسرة، وحتى إذا لم يوفق الاثنان في الاتفاق فيجب ألا يكون الأطفال هم الضحايا لخلاف طارئ أو نزاع داهم. وقد يستغل الزوجان أحياناً موضوع الطلاق فيكون وقودها الأطفال الذين يتمزقون بينهما.
إنّ اتباع التعاليم والمبادئ الإسلامية يريح الناس من كلِّ همّ وكرب، فمن أحب زوجته فليكرمها، ومن أبغضها فلا يهنها أو يؤذ أولادها، والأطفال نعمة من نِعَم الله على عباده فمن أخفق في الرعاية والعناية بهم فلن ينجو من عقاب الله يوم الحساب، ولنذكر أنّ بعض الأزواج مستعد لأن يدفع ملايين الجنيهات من أجل الحصول على طفلٍ واحد يملأ البيت صراخاً.
أيها الأب.. أيتها الأُمّ.. إنّ أولادكما هبة من عند الله تعالى وأمانة في عنقيكما، فمن الأجدى حمد الله على هذه النعمة، وسؤاله العون في تربيتهم، ومحاولة أن تكونا قدوة لهم، فحلا خلافاتكما بعيداً عن أسماعهم وأبصارهم، ولا تجعلوهم وقوداً لنزاع نشب بينكما، ولكن باجتهادكما وتضحيتكما اجعلاهم عوناً لكما، وأفراداً صالحين في المجتمع الكبير، فتحصدا بذلك الثمار الطيبة عند الكبر.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق