إنّ الاختلاف في الآراء وفي الأذواق سُنة من سنن الله – تعالى – في الخلق، فكما أنك لا تكاد تجد وجهاً يتطابق على نحو تام مع وجه آخر، كذلك لا تجد شخصاً يتطابق في عقليته ومشاعره ورغباته مع ما لدى شخص آخر، ولهذا؛ فإن من حق الناس صغاراً وكباراً أن يختلفوا مع بعضهم، وحين يكون الاختلاف حقاً لبعض الناس، فإن تقبله يكون مطلوباً من أناس آخرين، ومن هنا وصف الله – جل شأنه – عباده المؤمنين بقوله: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الشورى/ 38).
الشورى في الإسلام ليست في المجال العسكري والسياسي، ولا في مجال العمل، أو نطاق الأسرة فحسب، وإنما هي أسلوب حياة، الصغير يسأل الكبير، والكبير يسأل الصغير، وكل منهما يسمع من الآخر، وينصحه، ويفاوضه ويجادله، ويحاول أن يصل معه إلى رأي مشترك، نعم هذا هو الشيء الصحيح الذي يجب أن نلمسه في كل مجالات الحياة، ولعلي أوضح أهمية الحوار بين أفراد الأسرة والأضرار التي تترتب على فقدانه عبر المفردات التالية:
1- التربية تفاعل بين الوالدين وأولادهما، وكلما اشتد ذلك التفاعل على المستوى العاطفي والشعوري تأثر الصغار بمن يتلقون من التربية. حين يتكلم الطفل بأريحية، ويسأل أباه وأمه عن الأمور التي لا يعرفها، وحين يجد أن من السهل عليه أن يتكلم بصدق وصراحة عن طموحاته وتطلعاته وآرائه ومشكلاته وأخطائه، حينئذ يحدث التغير في شخصيته، كما يتغير الملح حين نضعه في الماء، إنّه يكتسب من خلال الامتزاج والتفاعل الكامل طبيعة جديدة، وهو لم يتأثر بالماء فحسب، لكنه أيضاً أثّر في الماء فحوله إلى ماء مالح بعد أن كان عذباً.
الرجل من خلال حواره مع زوجته يكتسب الكثير من المفاهيم الجيِّدة، وهي كذلك تكتسب منه، والأطفال يكتسبون من خلال الحوار مع آبائهم وأمهاتهم، ويستفيدون أيضاً من بعضهم، وما ذلك إلا لأنّ الحوار الجيِّد يتيح الفرصة للتفاعل، على حين أنّ الجدال والإصرار على الغلبة والتفوق وفرض الرأي، يجعل العلاقة سيئة، ويصبح التأثر والتغيير معها عسيراً.
قد رأيت ورأيتم فتياناً وشباباً لا يشبهون آباءهم وأمهاتهم لا في أخلاقهم، ولا في أفكارهم، ولا في سلوكياتهم، وذلك بسبب الهوة التي تفصل بينهم، فصاروا وكأنهم يعيشون في عالمين مختلفين، وكثيراً ما نسمع من يقول: سبحان الله! لا تظن أبداً أن فلاناً هو ابن فلان.
2- التربية كما ذكرنا تفاعل، ولا تربية من غير تفاعل، والهدف من التربية بناء شخصية الطفل وإعداده للحياة، أو كما نقول – أحياناً -: (تكبيره بسرعة) حتى يستفيد من حياته إلى الحد الأقصى.
الحوار يؤمِّن التفاعل، ويؤمِّن أيضاً بناء شخصية الطفل، ويبصِّره بما تحتاجه معركة الحياة من فهم وصبر واستعداد.
نحن إذ نحاور الطفل نُشعره بالندية، فهو إنسان يفهم ويتحمل مسؤولية كلامه، ويدافع عن آرائه، ويحاول وزن الكلام الذي يسمعه، وفحص مدى تقبله له، كما أن في إمكانه أن ينقده، ويوضح وجوه الخلل فيه... إننا حين نحاور الأطفال نقوم بالدرو نفسه الذي تقوم به (اللبوة) حين تلاعب أشبالها وتدربهم على الصعيد، تصوروا معي كيف يكون الحال حين يقول رجل في الأربعين لابن العاشرة: ما رأيك في مخطط البيت الجديد الذي سنقوم بعمارته؟ وكيف يكون الحال حين تقول الأم الناضجة لابنتها ذات الأحد عشر ربيعاً: تعالي لنضع خطة حول استخدام التلفاز في بيتنا، ما الذي يحدث في مثل هذه الحالة؟ إنّ الذي يحدث: أنّ الطفل (كلامنا ينطبق دائماً على الذكور والإناث) سيشعر بالثقة بالنفس، وسيحسّ بأنّه موضع احترام من قبل والديه؛ لأنّه وجد الفرصة لتوضيح رأيه ورغبته، والدفاع عنهما، وهذا هو الذي يدفعه إلى أن يحترم الآخرين، ويساعدهم على أن يكونوا واثقين بأنفسهم، حيث انّ الله – جلّ شأنه – قد أودع في نفوس الصغار والكبار قدراً كبيراً من النبل الذي يدفعهم إلى مقابلة الإكرام بإكرام، والعفو بعفو، والصبر بصبر مثله، نحن ندرّب الصغار على الفضائل كي يصبحوا أشخاصاً فضلاء، وكي يساعدوا غيرهم على أن يكونوا فضلاء، وبهذا تتغير ملامح المجتمع، فيصبح مجتمعاً فاضلاً. لا يشعر الصغار حين نحاورهم بالثقة بالنفس فحسب، ولكن يشعرون أيضاً بالأمان، إنهم طالما ارتكبوا الأخطاء، وطالما أنكروا حصول بعض الأشياء، وطالما أخفوا بعض الأمور، ولهذا فإنهم حين يعاملون على أنهم ناضجون، ويحاوَرون من قبل أهليهم في كل شيء يشعرون بالأمان والاطمئنان، هذا طفل يقول لأخيه: هل علم أبوك بما جرى لنا أمس؟ فيقول: الظاهر أنّه لم يعرف؛ لأنّه لو عرف لحدثنا بذلك حين كنا معه في الصباح.
الحوار يجعل الطفل آمناً من المفاتحات والمفاجآت غير السارة؛ لأنّ الأسرة حين ينعدم فيها الحوار الجيِّد، أو يضعف تتراكم فيها الأخطاء والشكلات، ولهذا فإنّ الأطفال يخافون من جلسة طويلة يُنبَش فيها القديم والجديد، والثابت وغير الثابت، والمتفق عليه والمختلف فيه من تصرفاتهم، وإن استمرار الحوار يقيهم من كل ذلك.
3- يستفيد الأبوان من الحوار مع أبنائهم الكثير من الفوائد، لكن قد يكون من أهمها فائدتان أساسيتان:
الأولى: الاطلاع على ما لدى أبنائهم من طموحات ومشكلات ومفاهيم... لأنّ الأطفال لا يحسنون التعبير عن كل ذلك بطريقة عفوية تلقائية، لكن من خلال الحوار يصبح ذلك ممكناً، هذه بنت تعاني الأمرين من زميلاتها في الفصل: واحدة تصفها بالغباء، وأخرى بالأنانية، وثالثة بالقبح... ولا تعرف كيف تتعامل معهنّ، وتخشى من أن يكون ما يقال فيها صحيحاً، فإذا هي فاتحت أباها أكد قول زميلاتها، وهذا سيعني بالنسبة إليها ما يشبه الضربة القاضية!
وهذا طفل لا يستوعب ما يقوله معلم الرياضيات، ولا يتمكن من حل الواجبات بطريقة مقبولة، وقد تسلّم إنذاراً من المدرسة بضرورة مراجعة أبيه لها، لكنه لم يسلمه الإنذار، ولهذا فإنّه يعيش في خوف وقلق، ولو كانت مفاتحة الأهل ومصارحتهم أمراً سهلاً، وتتم حسب الأصول، لما تحملت البنت ولا تحمل الصبي كل هذا الضغط، ولأمكن للأهل حل مثل تلك المشكلات بيسر وبسرعة.
إنّ التربية الصحيحة تتطلب معرفة المربي بنفسيات وعقليات وهموم... من يقوم على تربيتهم، وأفضل طريقة لذلك هي إقامة علاقة منفتحة معهم، يتمكنون من خلالها من البوح بما لديهم بمنتهى السهولة.
الثانية: فهم الصورة الذهنية التي كوّنها أولادهم عنهم وعن منزلهم وأسرتهم، وهذه مهمة للغاية؛ لأنّ الاحتكاك الطويل بين أفراد الأسرة يجعل كل واحد منهم يشكل في عقله انطباعات عن باقي أفرادها، وهذه الانطباعات قد تكون خاطئة، لهذا طفل يعتقد أن أباه بخيل؛ لأنّه يظن أنّه يملك الملايين، وهو لا ينفق على أسرته كما ينفق والد صديقه (أحمد) الذي يعمل في وظيفة متواضعة، وهذه طفلة تعتقد أن أمها لا تهتم بها كما تهتم بنفسها، فهي دائماً مشغولة عنها بحضور المناسبات، وزيارة الصديقات، وهذا مراهق يعتقد أن والده طالما وعده بشراء سيارة إذا تفوق في دراسته، ولكنه لم يف له بوعده، وهذه فتاة مراهقة ترى أن إخوتها الذكور يثقلون كاهلها بكثرة الطلبات، ولهذا فهي تنتظر بفارغ الصبر اليوم الذي يتزوجون فيه ويخرجون من البيت، وهكذا...
هذه الصور والمعتقدات بقطع النظر عن صحتها وواقعيتها؛ تُضعف التفاعل بين أفراد الأسرة، وتجعل تأثير الأبوين في الصغار أقل مما ينبغي. لا شك أنّ الحوار المستمر بين الزوجين والأولاد سوف يسمح للأولاد أن يقولوا ما يعتقدونه، وسوف يسمح للأهل أن يطلعوا على الصورة التي كوَّنها أبناؤهم عنهم، فإذا كانت صحيحة، فإن عليهم أن يغيروا سلوكهم، ويبدأوا عهداً جديداً، وإذا كانت الصورة خاطئة قاموا بتصحيحها، ولفت أنظار الصغار إلى الواقع الحقيقي، وهذا مهم جدّاً، وأعتقد أن كثيرين منا سيصابون بالصدمة من مدى التشوه الذي لحق بصورتهم في أذهان أبنائهم!
4- لم يكن الحوار بين أفراد الأسرة في يوم من الأيام أشد أهمية منه في هذه الأيام، وذلك يعود إلى الغزو الثقافي الهائل القادم من الغرب، والذي لم يترك بيتاً إلا دخله، في الماضي كان الأبناء شديدي التمسك بالقيم والعادات المحلية، وكانت التحديات محدودة ومألوفة، كما أنّ الخيارات أمامهم في التنفيس عما في نفوسهم كانت أيضاً محدودة وضئيلة، أما اليوم فقد اختلف كل شيء، وصرنا فعلاً في منطقة عنق الزجاجة، حيث السباق المحموم بيننا وبين وسائل الإعلام بكل أشكالها... إذا لم نستطع أن نتواصل مع أبنائنا، وإذا لم يستطع أبناؤنا التواصل معنا، فإننا في الحقيقة نُسلِمهم للتيار غير الواعي وغير المستقيم في المجتمع، وهو تيار ليس بالصغير ولا بالضعيف، والأخطر من هذا: أننا نُسلِمهم لوسائل الإعلام الجبارة التي ترسخ الثقافة الغربية في مجتمعاتنا، وتغيِّر في طموحات الناشئة، وفي أخلاقهم، وفي نظرتهم إلى الأشياء، فالصغار أضعف من أن يميزوا بين الحقيقة والخيال، وقد يتحول الوهم لديهم إلى خداع مستمر، وأحياناً لا يكون لذلك الخداع نهاية. إن حاجة أبنائنا اليوم لا تقل عن حاجة شخص نفد وقود سيارته وهو في أعماق الصحراء... إلى سيارة تمر من جانبه، وتسعفه بشيء من الوقود قبل أن يفقد الأمر في الحياة. إن كثيراً من المراهقين والمراهقات قد يئسوا من تواصل أسرهم معهم، وبحثوا عمن يشكون إليه همومهم، ومن يثري عواطفهم ومشاعرهم، وقد وجدوا ذلك على شبكة الإنترنت، ولا يخفى على أحد اليوم أن لدينا عشرات الألوف من الفتيات اللواتي تورطن مع شباب في علاقات مشبوهة، وفي الطريق أعداد مماثلة، وكل ذلك بسبب الفراغ العاطفي، وغياب الأهل الذين يرشدون ويساعدون ويُسعِدون. قسم آخر من الفتيان والفتيات وجدوا المنجد في الأصدقاء والصديقات، فقد تضاعف تواصل هؤلاء مع بعضهم مرات عديدة، وهذا لا يتم عبر الزيارات في المنازل، ولكن في المقاهي والمطاعم والاستراحات والعديد من الأماكن الأخرى، وهناك يجدون ما يفتقدونه في أسرهم من السماع والإنصات والتعاطف ومحاولة التفهم... ويجدون مع ذلك من يعلمهم تعاطي الدخان والمخدرات، ومن يقدم لهم الأفلام الخليعة ومقاطع الفيديو السيئة، وأشياء من هذا القبيل. هناك فيض كبير من الدراسات واستطلاعات الرأي التي تؤكد على أن لجوء الأولاد والبنات إلى الإنترنت وإلى الأصدقاء كان بسبب ما أشرنا إليه من الفراغ العاطفي، ومن فقد الأُذُن التي تصغي إليهم، والصدر الرحب الذي يتسع لمشكلاتهم وهمومهم، وهناك دراسات أيضاً كثيرة تشير إلى أن انحراف كثير من أبناء الأسر المحترمة والمتدينة كان بسبب رفاق السوء الذين تعرفوا عليهم وخالطوهم في غفلة من أهلهم.
لا أريد أن أتحدث أكثر وأكثر عن أهمية الحوار داخل الأسرة، لكن أود أن أقول: إنّ السواد الأعظم منا مقصرون فيالتواصل مع أبنائهم، وإننا جميعاً نستطيع أن نفعل أفضل مما فعلناه على هذا الصعيد، وإنّ الوعي بأهمية هذه المسألة يشكل الخطوة الأولى، وقد آن الأوان لنخطو تلك الخطوة.
- نقاط للتذكُّر..
* خلقنا الله تعالى مختلفين وعلينا الاعتراف بذلك وحتى أعترف بالاختلاف فإنّ عليَّ أن أعترف بحقك في مخالفتي في بعض الأمور.
* التربية تفاعل بين الأبوين والأبناء وكما أننا نؤثِّر في أبنائنا؛ فإن علينا أن نغير في شخصياتنا بسبب تفاعلنا معهم.
* حين نحاور أبناءنا ونستشيرهم في بعض الأمور فإننا نقوّي ثقتهم بأنفسهم وندرِّبهم على ممارسة الحوار في كل شؤون الحياة.
* حين نتواصل مع الصغار؛ فإنّهم يشعرون بالأمان من محاسبة مفاجئة غير سارة.
* نستفيد من حوارنا مع الأبناء العديد من الفوائد، منها فهم الطريقة التي يفكرون بها، والمشكلات التي يعانون منها إلى جانب فهم الصورة الذهنية التي كوَّنوها عنا.
* من فوائد التواصل مع الأبناء: حفظهم من التأثير المدمر لوسائل الإعلام.
* تشير دراسات كثيرة إلى أن انحراف أبناء كثير من الأسر المحترمة كان بسبب رفاق السوء.
المصدر: كتاب (التواصل الأسري)/ كيف نحمي أُسرنا من التفكك؟
ارسال التعليق