المُلاحظ على الصالحين في القرآن أنّهم (جماعة) وليسوا أفراداً، وقد يكون هناك بعض الصّلحاء ممّن يُمثِّلون مصاديق للصّلاح يمكن أن يُتأسّى بها، فتكون نواة لجماعات صالحة فيما بعد، ولكن صيغة الجمع بالنسبة للصالحين هي الملحوظة في مختلف السِّياقات القرآنيّة التي تحدّثت عن الفئة البارّة بدينها، المخلصة لربِّها، العاملة للصالحات في حياتها، الأمر الذي يمنح أيّ راغب بالصّلاح الثِّقة والطمأنينة أنه ينتمي لأُمّة، ويسلك في خطّ، وينتظم في جماعة سبقته إلى الصلاح، وسلّمته راية الصلاح، فالتحق بصالح مَنْ مضى وسعى لأن يكون من صالح مَن بقي.. وإليك هذه النماذج التي تلتقي بمجموعها في أنّ الإيمان شرطها الأوّل، والصلاح صفتها الأبرز، وإسعاد الناس – من خلال ما يُرضي الله – غايتها القُصوى.
1- المُتّقون:
(ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (البقرة/ 2-5).
- المُتّقون هم الذين يتّقون سخط الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويدفعون عذابه بطاعته، وهم الذين يتّقون الشِّرك في أعمالهم كما اتّقوه في عقيدتهم، ويعملون بطاعة الله ويؤدّون ما افترض عليهم. وهم المصدِّقون بالغيب مما لا تُدركه حواسّهم من بعث وجنّة ونار وصراط وحساب وغير ذلك. ويؤدّون الصلاة على الوجه الأكمل بشروطها وأركانها وأفراضها وآدابها. ويتصدّقون من أموالهم التي جعلهم الله مُستخلفين فيها في وجوه البرّ والإحسان، ويؤمنون بكلِّ ما جاء به النبي (ص) عن الله تعالى، وبما أنزل سبحانه من أنبياء ورُسل قبله، ولا يُفرِّقون بين كتب الله إلا المُحرّف منها، فهم ينبذونه كما نبذهُ كتابهم القرآن، وبالتالي فالمتّقون هم أهل النور والبيان والبصيرة، وهم الفائزون بالدرجات العالية الرفيعة في جنّات النعيم.
- قال سبحانه في وصفهم أيضاً: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) (الأنبياء/ 48-49).
ممّا يؤكِّد أنّ خطّ التقوى واحدٌ متّصلٌ موصولٌ في عهود جميع الأنبياء، وأنّ صفاتهم مشتركة، ومن تلك الصِّفات قول الحقّ عزّ وجلّ:
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذاريات/ 15-19).
2- الصّابرون:
قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة/ 155-157).
الله تعالى يختبر عباده بألوان البلاء، خوفاً، وجوعاً، وذهاب أموال، وموت أحباب، وضياع ثروات، فإذا ما صبرَ المبتلى بالمصائب على البلاء والقضاء، وعرفَ أنّه بين (المُلك) لله وبين (الهُلك) في نهاية أمره في الدنيا، بُشِّرَ بنعيم الجنّة، ولا يتحقّق ذلك إلا للمهتدين إلى طريق السعادة والفلاح.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ...) (البقرة/ 153).
وقال جلّ جلاله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر/ 10).
والصّبر هو القدرة على التحمّل، والمُمانعة، والمُقاومة، وعدم الجزع، لا الصبر السلبي القهري الذي يُفقد الإنسان إرادته.
3- البائعون أنفسهم لله (الشهداء):
قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة/ 207).
- هؤلاء هم الأخيار الأبرار وأهل الخير والصلاح الذين باعوا أنفسهم لله مضحِّين بها من أجل دينهم وإعلاء كلمة الله في الأرض، وطلباً لمرضاته ورغبةً في ثوابه، لا يتحرّون بعملهم إلا وجهه، وإلا إنقاذ المُضطهَدين من الأغلال التي عليهم.
يقول جلّ جلاله: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩)فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (آل عمران/ 169-170).
ورسالة هؤلاء الشهداء لِمَن يأتي على الأثر من المجاهدين تزفّ لهم البُشر بما سيكونون عليه بعد الإستشهاد. وقيمة هؤلاء الأبرار أنّهم يُعبِّدون الطريق لعبادة الله، وحرِّية العمل لأخوانهم في الدِّين، وإنقاذ شعوبهم المُضطهدة من نير الظالمين وجرائم المُفسدين.
4- المُسارعون إلى مغفرة الله (السّابقون):
قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 133).
- المُسارعون إلى مغفرة الله، هم السابقون الأوّلون في الهجرة والنصرة والإنفاق قبل الفتح، بل وكلّ مَن يغتنم فرصة الحياة الدنيا لينال بها مرضاة الله ولا يضرّه مَن ضلّ إذا اهتدى، ولا مَن يبخل إذا تصدّق، ولا مَن يجبن أو يتخلّف إذا دعا داعي الجهاد، ولا مَن ينحرف إذا استقام، ولا مَن كفرَ طالما أنّ قلبه مطمئنّ بالإيمان.
قال سبحانه: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ) (الواقعة/ 10-14).
- هم سابقون إلى الخيرات والحسنات والصالحات، وهم السابقون إلى القُربات وإلى الجنات، لا يحزنهم الفزع الأكبر، لأنّهم ملأوا الحياة أمناً وأماناً، وصنعوا منها جنّة مصغّرة، فاستحقوا الجنّة الكُبرى.
5- الربانيون:
قال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران/ 146).
- (الرِّبيّون) هم العلماء الرّبانيون والعباد الصالحون الذين لا تضعف هممهم ولا يخافون لقاء العدوّ ولا يخضعون لقوّةٍ استكباريّة ولا يستسلمون لما يجمع الناس لهم من قوى ميدانيّة عسكرية وقوى معنويّة نفسيّة، فهم صابرون على مُقاساة الشدائد والأهوال، أعدّوا وهيأوا أنفسهم إلى النِّزال والقِتال في سبيلِ الله فيَقْتِلونَ ويُقتَلون، فلا يهابون فيه شيئاً بعدما باعوا أموالهم وأنفسهم له.
6- أنصار الله:
قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة/ 22).
- إنّهم أهل الإيمان الذين لا يوالون أعداء الله حتى لو كانوا أقرب الناس إليهم، فهم أحباب الله وخاصّته وأنصاره وأولياؤه، بهم ينتصر لدينه، وبهم ينتقم من عدوِّه، وبهم يحقِّق لخلافه الإنسان في الأرض أهدافها المنشودة.
7- حزب الله:
قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).
- إنهم اهل الإيمان الذين لا يوالون أعداء الله حتى لو كانوا أقرب الناس اليهم، فهم أحباب الله وخاصته وأنصاره وأولياؤه، بهم ينتصر لدينه، وبهم ينتقم من عدوه، وبهم يحقق لخلافة الإنسان في الأرض اهدافها المنشودة.
8- المُتوكِّلون على الله:
قال تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران/ 173-175).
- المتوكِّلون هم الذين يقولون بثقةٍ مطلقة: الله كافينا، وحافظنا، وناصرنا، ومعيننا، ومتولِّي أمرنا، ونِعْمَ الملجأ ونِعْمَ المولى ونِعْمَ النّصير، فلا يزيدهم إرجاف المُرجفين وتخويف المخوِّفين إلا إيماناً وتصديقاً وإصراراً وثباتاً، لمعرفتهم اليقينيّة أنّ المثبِّطين إخوان الشياطين وأعوانهم من الكفّار الذين يزرعون الخوف في كلِّ مكان. إنّهم لعلى ثقةٍ من أنّ الله كافٍ عبده، وأنّه إذا كان معهم فَمَن عليهم!
9- المؤمنون الذين لم يُلبِسوا إيمانهم بظُلم:
قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام/ 82).
- إنّ المؤمنين الذين آمنوا وحسن إيمانهم هم الذين لم ينحرفوا عن خطِّ الإيمان لا بشكٍّ ولا بشرك، ولم ينحرفوا عن ولاية الحقّ إلى ولاية الباطل، ومن ولاية الله إلى ولاية الشيطان، ومن ولاية أئمّة العدل إلى ولاية أئمّة الجور، فمَنْ لم يخلط إيمانه بظُلم، أيّاً كان هذا الظّلم هو من الصالحين، وهو من المؤمنين حقّ الإيمان.
10- المُتطهِّرون:
قال تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة/ 108).
الطّهارة طهارتان: مادِّية من الأقذار والأوساخ والنّجاسات، ومعنوية من الذنوب والمعاصي والآفات، والله تعالى يحبّ المُبالغين في الطهارة ظاهرية كانت أو باطنيّة.
يقول سبحانه: (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ * والرُّجْزَ فاهْجُرْ) (المُدّثر/ 4-5).
وقال عزّ وجلّ: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة/ 222).
فالطهارة بشقّيها سمة مميّزة من سمات الصالحين، لأنّها تُمثِّل عمليّة تنظيف مستمرّة لأوساخ الداخل والخارج، وسعي دائم للعودة إلى سلامة الفطرة وطهارة الباطن.
11- العُقلاء:
قال تعالى: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد/ 19-22).
العُقلاء من الناس هم الذين يحفظون عهد الله الذي وصّاهم به، وهو أوامره ونواهيه التي كلّف بها عباده، لا يخافون ما عاهدوا الله عليه وأوثقوا به أنفسهم من العهود المؤكّدة سواء بينهم وبين الله، أو بينهم وبين الناس. ويَصِلُونَ أرحامهم التي أمرَ الله بصلتها، ويهابون ربّهم إجلالاً وتعظيماً، ويرجونَ له وقاراً، ويخافون الحساب الذي يؤدي بهم إلى النار، فهم لرهبتهم جادون في طاعته، محافظون على حدوده، يصبرونَ على المكارهِ والمصائبِ والنكبات، رضاً بقضائه وطلباً لمرضاته، ويؤدّون الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها. وينفقون أموالهم في الخفاء والعَلَن تحبّباً إلى الله وابتغاء التقرّب إليه. ويدفعون الجهل بالحلم، والأذى بالصبر، والسّيِئ من الأعمال بالأعمال الصالحة، أي أنّهم يفعلون الحسنات ليمحوا بها السيِّئات.
12- الثّابتون على الإيمان:
قال تعالى على لسان سحرة فرعون: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه/ 72-73).
السحرةُ هنا نموذج لكلِّ الثابتين على المبدأ، الذين لا يتزلزلونَ ولا يتذبذبونَ ولا يزيفونَ عن جادّة الحقّ. لقد قالوا لفرعون حين هدّدهم بالقتل: لن نختاركَ ونُفضِّلكَ على الهُدى والإيمان الذي جاءنا من الله، ولو كان في ذلك هلاكنا وتلف أنفسنا، فاصْنَعْ ما أنتَ صانِع، فإنّما ينفذ أمرك في هذه الدنيا الفانية الزائلة، والله خيرٌ منك ثواباً، وأدْوَم بقاءً، وأشدّ قوّةً، لأنّه خالقنا وخالقكَ وبيده لا بيد غيره أمرنا وأمرك.
13- الأخصائيّون الخُبراء:
قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (الأنبياء/ 7).
العلماء العارفون بالكتاب هم نموذج لكل أخصائي خبير، يجيد التعامل مع اختصاصه من موقع الثقافة العالية والتجربة الغنيّة، والقدرة على التعاطي مع المشاكل والمُستجدات، بما يرفع الإلتباس والإبهام وخلط المفاهيم، ويُجنِّب الأُمّة أدعياء العلم وأصناف المُتعلِّمين والمُتطفِّلين على اختصاص غيرهم.
يقول الحق سبحانه في ضرورة ملء الاختصالات الشاغرة في المجتمع والعمل بالواجب الكفائي لتأمين احتياجاته من الأخصائيِّين في أيِّ حقلٍ من حقول الحياة:
(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة/ 122).
أي لا يصحّ خروج جميع أبناء المجتمع للجهاد وتعطيل مصالح البلاد والعباد، فلابدّ من وجود الأخصائيِّين الذين يُغطّون حاجات المجتمع في احتياجاته الأساسية وأن لا يُصاب بحالة شَلل في حال النّفير، بمعنى أنّ الحرب مهما طالت فهي مؤقّتة، ولكن الحياة – بجميع حقولها الحيويّة – يجب أن تستمرّ حتى مع قيام الحرب.
14- المُعظِّمون حُرمات الله وشعائره:
قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج/ 30-32).
المعظِّمون حُرُمات الله هم الذين يُعظِّمون ما شرّعه الله تعالى من أحكام الدِّين، فيلتزمون الواجبات ويبتعدون عن المُحرّمات، ويجتنبون (الأرجاس) وهي الأوثان، كما يجتنبون (الأنجاس) وهي القذارات، مثلما يجتنبون شهادة الزّور، أي أنهم الميّالون إلى الحقِّ وتعظيم كل عظيم عظمة الله سبحانه في دينه وشريعته سواء من أعمال ومناسك الحجّ أو غيرها من الطاعات والعبادات، فتعظيم ما عظّمه الله يعني إحترامه وإجراءه والعمل به إن كان حسناً، وتركه والإبتعاد عنه والنهي عنه إن كان سيِّئاً، وذلك من أفعال التقوى وشيمة المُتّقين وعباد الله الصالحين.
15- المُخبتون (المُطيعون، المتواضعون، الخاشعون):
قال تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الحج/ 34-35).
للمُخبتين أربع صفات: فإذا ذُكِرَ الله (في وعيده أو عقوباته أو في حكمٍ من أحكامه)، خافت وارتعشت لذكره قلوبهم، فكأنّهم بين يَدَيه واقفون ولجلاله وعظمته مشاهدون. وهم الصابرون في السراء والضراء والأمراض والمصائب والمِحَن وسائر المكاره والإبتلاءات. وهم المؤدُّون صلاتهم في أوقاتها بخشوع، والمقيمون لها بما تأمرهم به من صلاح وتنهاهم عنه من فساد. وهم المُنفقون ممّا رزقهم الله من فضله في وجوه البر والخير والإحسان.
16- المُهاجرون:
قال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر/ 8).
المهاجرون هم الذين ألجأهم الكفار الظالمون إلى تركِ أوطانهم وهجران ديارهم وأموالهم، ففرّوا بدينهم ابتغاء مرضاة الله، وعسى أن يجدوا فسحة في المَهْجَر ينطلقونَ من خلالها إلى ما يمكن لمجتمعات أخرى أن تستنهض به واقعها، وأن تثري به تجربتها.
الأمر الذي يدعونا إلى أن نستقرئ برامج السماء الإصلاحية حتى وإن تنكّبت لها المجتمعات، أو شرائح من المجتمعات الإنسانيّة، لتشكِّل بمجملها صورة للمجتمع الصالح في القرآن.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق