• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القرآن والحرّية

القرآن والحرّية
الحرية رغبة فطرية لم تفارق الإنسان في أي زمن، بل إنها وجدت مع وجود الإنسان الرائد.. فالإرادة تدفع بالكائن الإنساني لأن ينال ما يهواه وما يشتهيه، ولأن يزيل العوائق التي تعتري طريقه نحو تحقيق رغباته. لكن الإنسان موجود اجتماعي مدفوع فطرياً لأن يعيش مع أبناء جنسه ولأن يتعاون معهم في حل مشاكله.. والحياة الجماعية تتطلب الأنظمة والقوانين والأعراف التي تنظم حياة الجماعة، وهذه الأنظمة والقوانين تحدّ بالطبع من حرية الفرد لكنه لا مفر له من الالتزام بها حفاظاً على الحياة الاجتماعية من التمزق والتشتت. من هنا لا يمكن أن يكون للحرية المطلقة وجود في أي مجتمع من المجتمعات، ومتى ما دار الحديث عن الحرية فإنّما يقصد بها الحرية النسبية لا المطلقة. إنّ الذي ينبغي أن نؤكد عليه هنا هو الفرق الواسع الكبير بين نظرة الإسلام ونظرة الحضارة الحديثة إلى الحرية. لقد شادت الحضارة الحديثة بنيانها على أساس تمتع الإنسان باللذائذ المادية إلى أقصى حد ممكن. فالفرد حرّ في كل عمل يميل إليه ويرغبه على أن يتنافى عمله والقوانين الوضعية في مجتمعه. فليست القيود الأخلاقية والدينية بذات وزن في مفهوم هذه الحضارة المادية. لسنا في حاجة لتقييم هذه الحضارة نظرياً فالتجربة العملية التي مرت بها أثبتت انها حطمت الروح الإنسانية والفضائل السامية في الإنسان وأنزلته إلى مستوى البهائم والحيوانات، وصدته عن ارتقاء سلم التكامل الذي هيئته له طبيعة الوجود. أما المنهج الإسلامي فهو قائم على أساس التوحيد أوّلاً ثمّ على أساس تنمية الإرادة الإنسانية والتأكيد على الأخلاق السامية ثانياً. ومن هنا فإنّ الإسلام قيّد الفرد والمجتمع في إطار معيّن تسوده قوانين ونظم خاصة، وبناءاً على هذا فإنّ الحرية في المفهوم الإسلامي تختلف كل الاختلاف عن الحرية في مفهوم الحضارة الحديثة. لكننا لو أمعنا النظر في هذه القيود لألفيناها هي الحرية الحقيقية ذاتها، فالإسلام حرر الإنسان من "قيود العبودية لغير الله" وهي حرية ذات إطار واسع كبير تحطم الأغلال التي يرسف فيها إنسان اليوم في ظل الحضارة الأوربية. إنّ حرية الإسلام تحرر الفرد من قيود شهواته ونزعاته الحيوانية وترفعه إلى دور المتحكم في هذه الشهوات والنزعات، وتحرر الشعوب من الاستعمار والاستعباد، وتلغي السيطرة الطبقية في المجتمع، وتسلب من القوي حقه في التسلط على الضعيف، فيعلن القرآن منهجه بكل وضوح في الآية الكريمة: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) (آل عمران/ 64). وضمن هذا الإطار حث الإسلام أبناء البشر على الاستفادة من نِعَم الله المسخرة للإنسان دونما إفراط أو تفريط. (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا) (البقرة/ 29). (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا في الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) (الجاثية/ 13). ولابدّ أن نشير بعد ذلك إلى أنّ الإسلام لا يبيح "حرية العقيدة" بشكل مطلق. فقد ذهب نفر إلى ذلك مستدلاً بالآية الكريمة (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة/ 256)، واستنتج من هذه الآية أنّ الإسلام قد منح الناس الحرية فيما يعتقدون ويؤمنون به حتى ولو كان شركاً أو عبادة للصنم والطاغوت. وليس هذا من الإسلام بشيء أبداً. فالمنهج الإسلامي قائم على أساس التوحيد وإلغاء الشرك، فكيف يمكن أن يتضمن المنهج حرية مخالفة هذا الأساس؟! إنه تناقض واضح صريح. فكما أنّ القوانين الوضعية الراهنة لا يمكن أن تعطي للأفراد حرية مخالفتها فكذلك الإسلام لا يبيح مخالفة الأسس التي يقوم عليها تشريعه. إنّ الآية المذكورة تؤكد على أنّ الإسلام قد اتضح وانجلى بفضل القرآن والسنة، ولا حاجة إلى الإكراه والإجبار في قبول الإسلام، ويؤيد ذلك قوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ). إضافة إلى ذلك فإن جملة: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) حقيقة تشريعية تستند إلى حقيقة تكوينية إذ إنّ الإكراه والإجبار لا يمكن أن يكون إلا في الأعمال والحركات الظاهرية، ولا يستطيع أن يؤثر في القلب والفكر والاعتقاد.: فالآية تنهى عن استعمال القوة في هداية الأفراد إلى نهج الدين فذلك غير ممكن تشريعياً وطبيعياً. والآية بعد ذلك تشير إلى ترك التقليد الأعمى في العقائد وتحث الناس على اتباع المنطق والعقل فيما يؤمنون ويعتقدون. فالفرد المكره المجبر على اتباع عقيدة معينة يقلّد المؤمنين بتلك العقيدة دون أن ينطلق فيما يفعله من إيمان، وذلك مرفوض في نظر القرآن. من كل هذا يتبين لنا أن عدم الإكراه في الدين لا يعني أبداً حرية الأفراد في انتخاب العقيدة.   المصدر: رسالة التقريب/ العدد 39 لسنة 2010م   *العلامة الكبير، صاحب تفسير الميزان.

ارسال التعليق

Top