• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

كيف يحول الله بين المرء وقلبه؟

كيف يحول الله بين المرء وقلبه؟
◄قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال/ 24). إنّ الله سبحانه العالم بكلّ شيء من أحوال مخلوقاته ومصنوعاته، يخاطب المؤمنين ويدعوهم إلى الحياة السعيدة، فإنّ دعوة الإسلام دين الله القويم، هي دعوة للعيش السليم والحياة المستقيمة المتبلورة بالمعنويات، والمتكوّنة من الماديات، في كلّ الأصعدة من الحياة الثقافية والإقتصادية والسياسية والأخلاقية والإجتماعية وغير ذلك من الأبعاد والحقول المختلفة، فإذا سأل أحد عن أهداف الإسلام ورسالته السمحاء الخالدة، فإنّ الجواب في أقصر جملة: إنّه (دين الحياة) على جميع الأصعدة. والحياة ذات مراحل قد أشار إليها القرآن الكريم: 1-    فتارةً بمعنى الحياة النباتية، بمعنى جسم نامي فيه القوى الثلاثة من النمو والرشد وتوليد المثل، كما يشير إلى هذه الحياة قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (الحديد/ 17). 2-    وتارةً بمعنى الحياة الحيوانية، التي تعرّف بالجسم النامي الحسّاس المتحرّك بالإرادة، وأشار القرآن إليها في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى) (فصلت/ 39). 3-    وثالثة بمعنى الحياة الإنسانية، كما جاء تعريف الإنسان في علم المنطق بأنّه حيوان ناطق، فهي تعني الحياة الناطقية التي ترمز إلى القوّة الدرّاكة والعاقلة، فهي حياة فكريه وعقلية كما في قوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) (الأنعام/ 122). وهذه المراحل من الحياة إنّما هي في الدنيا. 4-    ورابعةً حياة أخروية، بانتقال الروح والعقل والنفس الناطقة إلى عالم الآخرة، ومن ثمّ المعاد الجسماني والروحاني في حياة أخروية جديدة خالدة، كما في قوله تعالى: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) (الفجر/ 24). 5-    وهذه المراحل الحيوية والحياتية إنّما هي مظاهر لحياة الله سبحانه (الحياة الإلهية) بمعنى العالم والقادر، بلا حدّ ولا نهاية، وبالسرمدية، فهي الحياة المطلقة ومطلق الحياة، كما في قوله تعالى: (الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) (الفرقان/ 58). فالناس في أيام الجاهلية الجهلاء والعمياء كانوا يعيشون الحياة الحيوانية والمادية، إلا أنّهم ابتعدوا عن الحياة الإنسانية والمعنوية والعقلية، فجاء الإسلام العظيم وكتاب الله القويم ليدعوهم إلى الحياة السعيدة، فمن يجعل الدين في إطارات ضيّقة، ومجرّد طقوس من دون دولة وحكم وقضايا فكرية واجتماعية، فإنّه بعيد عن روح الدين وحقيقته، لأنّ الدين الصحيح هو الذي يبعث الحركة والنشاط والحياة في كلّ الجوانب، وينهض بالناس في فكرهم وسلوكهم والإحساس بالمسؤولية، ويبعث نحو التكامل والرقي والتمدّن والحضارة. فليست الحياة في الآية الشريفة تعني الجهاد أو الإيمان أو القرآن أو الجنّة وحسب، كما عند بعض المفسّرين، بل هذا تحديد لمفهوم الآية الوسيع، فإنّها تشمل كلّ هذه وغيرها من عوامل السعادة والتقدّم، وكلّ قانون يبعث الروح في جانب من جوانب الحياة. ثمّ يقول سبحانه وتعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال/ 24). ليس المقصود من القلب هنا هو الشكل الصنوبري من العضلة التي في القفص الصدري، بل بمعنى الروح والعقل كما مرّ سابقاً، أمّا إنّه كيف يحول الله بين المرء وقلبه فقد ذكروا لذلك إحتمالات مختلفة: أوّلاً: إنّه إشارة لشدّة قرب الله من عباده، فإنّه سبحانه داخل في الشيء لا كدخول شيء في شيء، بل هو قريب من العبد، وكأنّه داخل في روحه وجسده ويرى الله بقلبه، وبلمسه بروحه، كما يقول سبحانه: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق/ 16). ثانياً: ربما إشارة إلى أنّ تقلّب القلوب والأفكار هي بيد الله سبحانه، فهو مقلّب القلوب والأبصار، كما جاء في الأدعية والأذكار: "يا مقلّب القلوب والأبصار". ثالثاً: إنّ المقصود هو أنّه إذا لم يكن اللطف الإلهي برحمانيّته العامة، فإنّ الإنسان غير قادر على معرفة الحقّ وأهله وحقّانيّته، كما يعرف بطلان الباطل. رابعاً: وقيل: إنّ المقصود هو أنّه ما دام للناس فرصة، فلابدّ أن يغتنموها قبل فوات الألوان بالطاعة والعمل الصالح، لأنّ الله سبحانه قد يحول بين المرء وقلبه بالموت، والموت يأتي بغتة، والقبر صندوق العمل. "ويمكن بنظرة شاملة جمع كلّ التفاسير في تفسير واحد، هو أنّ الله عزّ وجلّ حاضر وناظر ومهين على كلّ المخلوقات، فإنّ الموت والحياة والعلم والقدرة والأمن والسكينة والتوفيق والسعادة، كلها بيديه وتحت قدرته، فلا يمكن للإنسان كتمان أمرٍ ما عنه، أو أن يعمل أمراً بدون توفيقه، وليس من اللائق التوجّه لغيره وسؤال من سواه. لأنّه مالك كلّ شيء والمحيط بجميع وجود الإنسان، وارتباط هذه الجمل مع سابقتها من وجهة أنّه لو دعا النبي (ص) الناس إلى الحياة، فذلك لأنّ الذي أرسله هو مالك الحياة والموت والعقل والهداية ومالك كلّ شيء. وللتأكيد على هذا الموضوع فإنّ الآية تقول ما معناه: إنّكم لستم اليوم في حدود قدرته فحسب، بل ستذهبون إليه في العالم الآخر، فهنا وهناك كل الناس بين يديه.►   المصدر: كتاب (حقيقة القلوب في القرآن)

ارسال التعليق

Top