• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مجرّد حُلم

مجرّد حُلم

عيناه تعانق الإشارة الضوئية، وينتظر إفراجها عن المركبات، فما أن تلوح بلونها الأخضر، حتى يعود له الأمل من جديد، ثمّ يخبت ذلك البصيص إن لم تتوقف بجانبه أي من السيارات الهاربة من قفص الإشارة ولسعات الشمس المتسللة عبر نوافذها الزجاجية المغلقة بإحكام لئلّا يهرب هواء التكييف البارد، يعود فيستند بظهره على عمود الإنارة الملتهب، ويجلس القرفصاء، يغطي جبينه بكف يده يلتمس قليلاً من الظل، فتنزلق محتضنة حبات العرق، ويعبث باليد الأُخرى بالتراب المتناثر تحت قدميه، يرسم بها دوائر صغيرة وكثيرة، ويعاود كرة الانتظار، فيلوح الأمل تارة والخيبة تارات، الجميع يريد الوصول إلى بيته بعد عناء يوم طويل، الدوائر الرملية لم ينقص منها سوى اثنتين، بمساعدة رجل وسيِّدة، اشترى منه الرجل بعد أن وعده بأنّ البطيخة لم تفسد تحت وطأة الشمس المسلطة عليها، وإلّا أرجعها، وأمّا السيِّدة، كانت نزقة، متأففة من الحر، ولكن ابنها الصغير الذي بجانبها، أرغمها على الوقوف، لأنّه أراد التقاط صورة للفواكه، من خلال الآي باد، وللتخلص من حرجها عندما رأته يركض مستبشراً وبيده كيس يود أن يملؤه بأي شيء ممّا أمامه.

التقط صغيرها الصور وأخذت الكيس على عجالة، بعد دفع ثمنه وغادرت، فعاد البائع الصغير لمكانه، يترقب اللون الأخضر من جديد، ولكن أعداد المركبات قد قل، وهناك الكثير من الدوائر المنتظرة وضع علامة الانتهاء منها لتأذن له بالرحيل، وبدأ يعدهم، واحدة اثنتان، ثلاثة، خمسة، سبعة،عشرةةةة.

شعر بهدير محرك سيارة تركن إلى جانبه من جديد تحمل بداخلها سيِّدة، اخفضت النافذة، وفُتِحَ صندوق السيارة في آن، ليصله صوتها المشابه لصوت أُمّه بعد عودته إلى المنزل وهي تقول: يعطيك العافية يا صغيري وتمد يدها بقارورة ماء، يأخذها منها، فتسيل كلماتها باردة كالماء الذي يتساقط بجوفه:

- سأشتري كلّ فاكهتك، وتبتسم بسعادة أكبر من سعادته.

وجد نفسه يركض ليضع لها كلّ ما أرادت في الخلف، ودست مبلغاً من المال بيديه، نظر إليه بفرحة وقفز قفزة أنسته كلّ شيء ماعدا ابتسامتها التي أطفأت لهيب الشمس وقسوة الحياة، لتنهي عمر الدوائر الرملية وتعيد له طفولته بعد أن أدّى دور الرجال لأُمّه وإخوته، سقط رأسه على العمود الحارق خلف ظهرة محدثاً دوياً أيقظه، يبدو أنّ ضربات الشمس فعلت فعلتها مرة أُخرى، لسانه ملتصق بسقف حلقه، مد يده ليرتشف من قارورة الماء، لم يجدها، سقطت عيناه على الدوائر المنتظرة، التف عنقه ببطء، ليجد الفاكهة همهم:

- كان مجرد حُلمْ.

نظر حوله ليجد الهدوء قد استولى على المكان، فلا هدير سيارات يقترب، إلّا القيظ أبى أن يستسلم، فارضاً قوّته على جسده النحيل، يستحلب كلّ قطرة ماء في جسده، أنهكه الأمل، فالواقع يفرض نفسه على الضعفاء، إذاً سيعود اليوم ولا شيء يذكر من المال بين يديه، وأخلف وعده لنفسه، بألا تخرج أُمّه للتسول عند المساجد، لقد كَبُرت في السن ولم تعد تقوى حتى على الشحاذة، والناس استبدلت الصدقة بالدُّعاء، ترجع في المساء بعد أن أخذ التعب منها كلّ مأخذ وتحمل معها كلمة، الله يعطيكِ.

ورغم صغر سنه، لكن غِيرته لا تسمح له بالموافقة لأُخته الشابة بالتسول، لمعرفته بأنّ الرجال سيمنحونها المال ولكنّه مبلل بلعابهم وخيالاتهم المريضة، وقناعتهم بأنّ أموالهم تستطيع شراء كُلَّ شيء، تحامل على جسده المنهك، محاولاً الوقوف، تقدّم خطوات، أمسك ببرتقالتين، أكل واحدة بعد أن قرر الاستمرار بالانتظار، وسقطت الأُخرى.

ارسال التعليق

Top