• ١٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مناورات مع لونٍ خفيّ

جابر السلامي

مناورات مع لونٍ خفيّ

لم أشأ الخروج؛ فهذا المكان يناسبني تماماً، بل هو أفضل مكانٍ يليق بهواجسي. لا يهمّ إن كان مظلماً أو مضيئاً؛ فأنا مرتاحٌ هنا، رأسي خفيفٌ، والأفق يمتدّ أمامي كخيالٍ مشرق.

ألمسُ الفراغَ فيهرب، وينتشر في الأرجاء. فراغٌ لطيفٌ، كفكرةٍ سهلة، يناور ويعود مجدّداً في شكله الأبهى. يتّخذ ألواناً مبهجةً وعدميّة. يضع أمامي حواجزَ من مرمرٍ أو تراب، فتتفتّت ثمّ تختفي سابحةً في المعاني.

الصداقة مع الفراغ شكلٌ من أشكال الحظّ. أن تلهو مع الفراغ، بعيداً عن الضوضاء، فذلك يتيح مجالاً شاسعاً لرؤية العالم. تسبحان معاً بين ذبذبات الكون. تلتهمان الإشارات والرؤى. تستقبلان إيحاءاتِ التائهين.

وفي تجريب الفرح، كنتُ فرحاً وما أزال. ذلك أنّ الوقت قد بسط جناحيْه وترك لي هامشاً من الإمكان. جرّبتُ تكسيرَ الأشياء وترميمَها، أحذفُ منها ما أشاء وأعيدُه. بإمكاننا تحويلُ الفرح إلى جسمٍ فيزيائيّ، بل يمكننا قياسُ درجة مطابقته لمعايير السعادة لأنّه ينتمي إلى عائلة الممكن، وهو مليءٌ بالمجاز. نحن أحرارٌ كيفما طبّقنا مفاهيمَ المجاز. الفرح مجاز، والمجاز هو حدودُ الممكن غيرُ المرئيّة؛ الحدودُ الروحيّةُ للمعاني.

أمّا الحزن، ذلك اللون الداكن، فما ينفكّ يلتبس، يتلبّس، يتكرّر. الحزن عدوُّنا الوفيّ. كرُمحٍ سيّء الصنع: يصيبنا ويخطئنا. فنبتعد إلى أقاصي الشعور الهادئ، حاملين معنا كياننا ووجداننا، غيرَ مُلزَمين بتلقّي الإصابات. الحزن كالثوب الرديء: رافضٌ للرونق، رافضٌ للتجلّيات البهيّة.

نعم، لا أرغب في الخروج من هنا. المغادرة انسلاخٌ عن المكان واللحظات والأُمور السعيدة التي نرويها دوماً. أريد أن أبقى هنا ما أُريدَ لي أن أبقى، كفكرةٍ متزهّدةٍ بعيدةٍ عن الفوضى. لست ضامناً استمراريّتي الوجدانية إنْ خرجتُ وأغلقتُ البابَ خلفي، لأنّني سأكون خالياً من كلّ شيء، وبعيداً عن كلّ شيء.

في السابق جرّبتُ الهروب. هربت من قولٍ، من رأيٍ، من مكيدةٍ، من هجوم. هربتُ ونفذتُ بجلدي لأنّني أردتُ المزيدَ من التجلّيات، والمزيدَ من الذرّات الكونيّة. نعم هربت، لكنّني نثرتُ غبارَ الكون حولي، فصرت أرتطم بالكواكب والحكايات والأحداث. ووقعتُ من علوٍّ شاهق، فتلقّفتني تسابيحُ المطر الأوّل. ونمتُ مرتاحَ البال، كعصفورٍ سعيد.

والألم رديفُ القلق، لأنّ الألم كالمستقبل: قاسٍ وغامض. وغالباً ما نقلق عندما نرنو إلى المستقبل. نرغب في رؤية هيئاتنا الجديدة. لذلك نشعر بالألم كما نشعر بالمستقبل الذي ينقر على نواصينا بأحجارٍ كريمةٍ مؤلمة. ولو اختفى ألمُ المستقبل، فسنجد الحاضرَ كمنطادٍ يخترق الأرضَ، وينزل إلى اللّاشيء عوضَ الصعودِ إلى السماء، إلى الحقيقة.

لماذا أخرج؟ أنا مرتاحٌ هنا: مرتاحٌ بالأشياء المحيطة بي، مرتاحٌ في هذا المجال الشاسع. أشعر بالحرّية كما لم أشعر بها من قبل. هنا أتسيّدُ أفكاري، فأقصيها، ثمّ أضيف إليها أفكاراً أُخرى. أجزم احتمالاتٍ مختلفة، وأنفيها.

وإذا تحدّثنا عن المنطق، فسيكون لزاماً أن نتشكّلَ بقالب المعقول: كترجيح كفّة أمرٍ ما، والركضِ نحو الناحية الأُخرى من نقيض الأمر. عندئذ سنُصدر أحكامَنا وفق معيارٍ عادل. كلّ ما يدور في فلك المنطق هو شيء يمتلئ بنفسه، كشجرةٍ مثمرة. وجائزٌ أيضاً أن يكون المنطقُ مرادفاً لكلمة الانتهاء، على أن نحصر الانتهاء في فعل استكمال الأشياء؛ ذلك لأنّ الانتهاء من شيء ما كاستخلاص عصارة حقيقته داخل قنّينة نسمّيها الممكن. على هذا الأساس يتجلّى المنطق هنا، في المكان الذي لا أودّ مغادرته، مارداً صبوراً.

مكاني رائع، قصيّ، منعزل. فيه من الحقيقة الشيءُ الكثير. أعيش فيه كأخطبوط، حيث الاحتمالاتُ أمامي متاحة، كفقاعاتٍ تتطاير وتنفجر ناثرةً وميضاً باهراً من النقاط المتلألئة. أمدُّ يدي لأمسكَها كي تكفَّ عن الهروب، فتهدأ وتستكين. لكنّ المكان يفتقر إلى عنصرٍ ما؛ فاللون الذي أبحث عنه لا يوجد هنا. فقرّرت الخروج، ولو موقّتاً، عسى أن أجد ما أبحث عنه.

خرجتُ، فلم أجد شيئاً. كنتُ كفكرة متنقّلة باحثة عن لونها الذي لا يوجد، في مجالٍ غير مرئيّ، غير محدود. تحيط بي ظلمةٌ صامتة، بروحٍ باردة. ولمّا لم أجد ضالّتي، فقد أردتُ العودة إلى مكاني الرائع، فرأيتُه بعيداً، مستحيلاً.

سِرتُ لا ألوي على شيءٍ باحثاً عن لونٍ خفيّ.

ارسال التعليق

Top