• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

روحانية الدعاء في شهر رمضان

روحانية الدعاء في شهر رمضان

ألِفتِ الأدعيةُ الرمضانية لوناً خاصّاً غنياً بالابتهال مشرقاً بالإخلاص عبقاً بروحانيّة إلهاميّة، ملوَّناً بصوفيّة مؤمنة. وللدعاء حضورُهُ الزمني فتوزَّع على أجزاء اليوم: دعاءُ الليل، دعاءُ السَّحر، دعاءُ النهار. ولكلّ ليلة ابتهال مخصوص يختلف عن ابتهال أختها مثلما تختلف الليالي. هذه الأدعية المتوحِّدة رمضانياً، متنوعة مضموناً وثواباً، طولاً وقصراً، يدخل الإنسان إلى أجوائها فيجد نفسه في روضةٍ غنّاء أزهارُها ألفُ لون. بل يجد نفسه في بستان أشجارُه مثمرة، كلّما جنى ثمرة شاقته أختُها.

لقد توزَّع الدعاء الرمضاني على الحقول المؤلفة لقضايا الحياة السياسية والاجتماعية والتعبديّة..

 

الاصلاح السياسي، أو ثورة اللاعنف السياسية:

بدأها الإمام زين العابدين (ع) عندما اتخذ الدعاء منهجاً يحاربُ سياسة الأمويين الجائرة، تلك السياسة التي اضطهدت الإسلام والمسلمين بديكتاتوريّة مستوردة من اليهودية، للحفاظ على ملك غير شرعي. لم يتمكن الإمام زينُ العابدين (ع) من المواجهة بثورة السيف، والدعوة إلى مجاهدة المنافقين. ومُنِعَ أيضاً من الوعظ والإرشاد بطريقةٍ مباشرة. لأنّ الأمويين كانوا يرصدون حركاته، ويحصون أقواله، وأفعاله. ولما كان الإمام مُلزماً بمناصرة الحقّ، ومقاومة الباطل، سلك طريق الدعاء وسيلةً لمحاربة الانحراف في الحكم وكشف مفاسدِه وردعِهِ، مذكِّراً بقدرة الخالق على الاقتصاص من الظالمين، منبِّهاً المؤمنين إلى الخلل السياسي، محرِّكاً القوى الفاعلة على التصدِّي.

لقد اتخذ الإمامُ الدعاء غايةً لنشر آرائه، وإتمام مسيرة الرسالة السماوية. وهو أسلوب ذكيٌّ يعرِّض بالظالمين ومفاسدِهم، دون أن ينالوا منه؛ إذ لا يقدر الجلّادون على إخفات صوت التعبد بالدعاء.

 

المسالمة والمعاداة في الدعاء الرمضاني:

حدَّد الدعاء مفهوم السلام والمسالمة، والأعداء والمعاداة: وردَ في دعاء الإمام زين العابدين (ع)، في استقبال شهر رمضان "وأنْ نسالم مَن عادانا حاشا مَن عودي فيكَ ولك، فإنّه العدو الذي لا نُواليه، والحزبُ الذي لا نصافيه" ميّز نوعين من التعادي: موقفُ التخاصم الشخصي؛ والتخاصم العقيدي.

علّمنا الإمامُ أن نستقبل شهر رمضان المبارك بقلبٍ سليم مُحضَّر للتوبة، وقبول الغفران بالمحافظة عليه. فالمسلم يبادرُ إلى الإكثار من الحسنات، مقابل وأد السيئات، بالتواصل والتراحم، والعفو عن المسيء ما دامت الإساءة ترتبط بالذات الإنسانية، والأمور الماديّة.

علّمنا أن نبادر: - رحماً وجيراناً ومواطنين - إلى التصافي والمسالمة نزولاً عند رغبة الله ورسوله والأئمة، تبرُّكاً بكرامات هذا الشهر الشريف.

أما التخاصم العقيدي فلا يتحوّل إلى مسالمة ما دام الأعداء يريدون تشويه عقيدتنا، أو إزالتها من الوجود. فالإنسان الذي يبدرنا العداوة لأننا نحبُّ الله، ونتطهر من الأرجاس، لا نركن إليه، ولا نواليه، والأحزاب التي تواجهنا بالحرب مستهدفةً إسلامنا لا نصافيها ولا نُهادنها.

رسم الإمام زين العابدين (ع) علاقاته مع الأفراد والأحزاب من خلال الدعاء جاعلاً محورها الأساسي العلاقة الإلهية. وربطها بالعفو والتسامح إلا عندما يصرُّ العدوُ على محاربة عقيدتنا، ويسعى للقضاء عليها.

 

الاستنصار والتوجيه في الدعاء:

الدعاء في مضمونه اللغوي طلبُ المؤازرة في أمر يصعبُ تحقيقه، لذلك عالج الدعاء طلب الانتصار على الحاكم الجائر. لنقرأ هذه العبارات: وردت في دعاء الافتتاح "وانصرنا على عدوِّك وعدوِّنا إله الحق آمين". الطلبُ هو للاستعانة والتوجيه. يستعين بالخالق على الأعداء، ويوجّه المؤمن إلى تحقيق النصر بالسعي والإعداد. وجاء في الدعاء نفسه "اللّهمّ إنّا نرغبُ إليك في دولةٍ كريمة تعزُّ بها الإسلام وأهله، وتذلُّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاةِ إلى طاعتك والقادةِ إلى سبيلك". إنّ الدولة المطلوبة في الدعاء هي دولة الإسلام التي تعزُّ المسلمين، وتذلّ المنافقين. إنها ثمرة العمل، وليس المقصودُ التقيد بلفظ العبارة، بل التأمّل في معانيها، والسعي لتحقيق مضمونها. وإلّا كيف تتشكل دولةُ الإسلام في مجتمع منافق يتآمر أفراده، ملوكاً وأتباعاً ضد الدين؟ يحتاجُ بناؤها إلى تخطيط وتنظيم وتضحيات. هذا مفهوم الدعاء "اللهّمّ إنا نرغبُ إليك في دولةٍ كريمة...".

وإلّا ما معنى أن نردد العبارة كلّ ليلة من شهر رمضان، والنعاسُ يغلب علينا، نرددها كالببغاء دون أن نستلهم معطياتها العمليّة.

أمّا عبارةُ "القادة إلى سبيلك" مقرونة إلى طاعة الله، فدعوةٌ للإسهام في قيادة الأُمّة، بنيّة تطويرها، وترقيتها على الصُّعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. هذه الأعمال قرنها الدعاء بطاعة الله.

إنّ أدعية شهر رمضان المبارك غنيَّةٌ بالمضامين السياسية، والمقاصد التوجيهيّة، والمناحي السلوكيّة، يبقى على المؤمن أن يقرأ الدعاء بوعي لاستخلاص أحكامه

 

المصدر: مجلة نور الإسلام/ العدد 11-12 لسنة 1989م

ارسال التعليق

Top